أصول مدرستنا التنويرية: حجِّيَّة الحديث النبوي الشريف

وقفات مع التراثيين "والقرآنيين"

محمد ابن الأزرق الأنجري
آراء ومواقف
محمد ابن الأزرق الأنجري20 أغسطس 2020آخر تحديث : الخميس 20 أغسطس 2020 - 2:42 مساءً
أصول مدرستنا التنويرية: حجِّيَّة الحديث النبوي الشريف

محمد ابن الأزرق الأنجري
الحديث النبوي الشريف الصحيح المروي من طريقين على الأقل (يرويه صحابيان فأكثر)، أو المتواتر عمليا في الأمة جيلا بعد جيل منذ زمن النبوة، حجّة عندنا مقبولة إذا كان تفسيرا لمبهمات القرآن أو تفصيلا لمجملاته المتعلّقة بالعبادات، إذ النبي صلى الله عليه وسلّم كان مكلّفا ببيان القرآن لقوله تعالى في سورة النحل- الآية 44: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
ومما يندرج في ذلك:
أولا: تفاصيل العبادات كالصلوات الخمس بمواقيتها وعدد ركعاتها وهيئاتها، وتفاصيل الطهارة من وضوء وتيمم واغتسال، تفاصيل الحج والعمرة إلا ما ثبت قبل الإسلام، وتفاصيل الزكاة…
ثانيا: ثواب فضائل الأعمال، فإنها عبادات وأعمال صالحة أمر القرآن بعموماتها فتولى النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلها، ونجد أحاديثها في كتب الترغيب والترهيب للمنذري أو رياض الصالحين للنووي…
إن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى تفاصيل العبادات وثواب الفضائل إلهاما أو تعليما مباشرا من جبريل عليه السلام كما هو الحال عندما جاءه أكثر من مرة ليعلّمه مواقيت الصلاة.
وبعض تلك التفاصيل اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم اهتدى إليه بنورانيته وبصيرته، فأغنانا عن البحث والاجتهاد.
وهؤلاء الذين يزعمون الاكتفاء بالقرآن الكريم لمعرفة تفاصيل العبادات مخطئون لا محالة، بل عن القرآن معرضون فإنه شهِد كما تقدّم بأن النبي كان مسئولا عن تفصيل مبهمات القرآن ومجملاته (رموزه وإشاراته وتلخيصاته).
وفي الآية 21 من سورة الأحزاب: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).
فأعظم مجال للتأسي برسول الله هو ما كان استعدادا لليوم الآخر وذكرا لله وخوفا منه، وهو باب العبادات والفضائل والأعمال الصالحة، فتأكد الأمر باتباع هديه فيها.
ولما ذكر الله جل جلاله جماعة من الأنبياء في سورة الأنعام، قال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءةَ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).
فالنبي كان مقتديا بهدي جميع الأنبياء، لذلك يجد بعض المرجفين تشابها بين عبادات المسلمين وعبادات الأمم السابقة، فلا يفهمون أنه صلى الله عليه وسلم كان بهم مقتديا، فيشيعون أن المسلمين سرقوا عبادات غيرهم !
إن خلاصة هدي الأنبياء في العبادات والقُرُبات الصالحات، تجمّعت بين يدي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلّم.
فالقرآني الحق، يقتدي برسول الله في عباداته عملا بوصية القرآن، فيصلّي خمس صلوات كما كان يصلّيها المسلمون منذ الجيل الأول تشرّبا من النبي صلى الله عليه وسلم وتعلّما متواترا، ويحجون ويعتمرون كحجّته وعمرته… ولا يزعمون أنهم قادرون على الاكتفاء بالقرآن، فيصلون بطريقة الدعاء فقط، أو يجعلون الصلوات الواجبة ثلاثا لا أكثر، أو يكتفون عند الحج بطواف الإفاضة !
وأما الأحاديث النبوية الصحيحة سندا، المتصلة بشئون الدنيا من سياسة واقتصاد وحروب وتنظيم اجتماعي وإداري… فإنها سيرة نبوية وقَصص للعبرة والاستنارة بقيمها وجوهرها، فإن رسول الله ما كان يملك حق التحريم أو الفرض/الإيجاب، لكنه كان قائدا وحاكما وقاضيا تجب طاعته من قِبَل أصحابه/مواطنيه، لذلك خاطبهم القرآن بقوله في آل عمران- 132: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
فطاعة الله تكون بطاعة أوامره القرآنية الواجب إنفاذها، وطاعة رسوله تكون بتنفيذ أوامره بصفته نبيا إن كانت مرتبطة بالتدين فيستوي في ذلك الصحابة ومن بعدهم، وبصفته حاكما وقائدا وقاضيا إن كانت دنيوية فيتوجه الخطاب لمواطنيه/أصحابه دون سواهم.
وإنما أمر القرآن الصحابة بطاعة أوامر الرسول بصفته قائدا وحاكما وقاضيا لأن عرب الحجاز لم يتعودوا على الملَكية والإمارة والقضاء المنظّم، فجاءهم القرآن بالتنظيم الإداري/السياسي/العسكري/الاجتماعي/القضائي ليؤسسوا دولة تنقلهم من تشرذم القبيلة وتخلّفها.
ومن هنا تكرّر الأمر للصحابة بطاعة أوامر الرسول لأن كثيرا منهم نظروا إليه باعتباره زعيم قبيلة مهاجرة، لا حاكما صاحب سلطة على الجميع.
وإلا فلماذا تكرّر الأمر بطاعة الصحابة للرسول أكثر من 10 مرات في كتاب الله؟
لقد عانى رسول الله معهم ليؤسس لهم نظاما حديثا يجعلهم دولة قوية قادرة على مناطحة الأعداء من الفرس والروم…
وهذه الآيات تكشف جانبا من معاناة رسول الله مع مواطنيه/شعبه القبلي البدوي الصحراوي:
جاء في سورة النساء المدنية:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65).
بدأت الآيات بالتنبيه على ضرورة طاعة القرآن ثم طاعة الرسول فطاعة أولي الأمر.
فالقرآن لم يأمر بطاعة الرسول وحده حتى يزعم الفقهاء أن أوامره الدنيوية تتعدى أصحابه إلى يوم القيامة، بل أمر بطاعة أولي الأمر في كل مرحلة.
ثم تكشف الآيات أن بعض الصحابة/المواطنين كانوا متشبثين بأعراف القبائل وعادات الجاهلية وأحكامها المتصلة بالدنيا، رافضين توحيد السلطات وتركيزها في يد النبي بصفته حاكما وقائدا وقاضيا.
ولأن عين القرآن على تنظيم المجتمع المسلم الأول، فإنه جعل الاحتكام إلى محمد النبي (ص) بصفته قاضيا قائدا أميرا، شرطا في الإيمان به نبيّا رسولا.
لقد كان ذلك ضروريا لضبط المجتمع وتنظيمه وجعله نواة دولة وليدة وإمارة قادرة على مجابهة التحديات، وهو ما تحقّق قبل وفاة رسول الله ثم تجذّر بعده مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ولا يعي ذلك المحافظون، فيحتجون على وجوب العمل بأحاديث الآحاد، واتخاذه مصدرا تشريعيا خالدا في التحريم والوجوب بآيات تخاطب الصحابة حصرا، فيزعمون أن الاحتكام إلى رسول الله بعد وفاته يكون بالاحتكام إلى أحاديثه، وهم في ذلك يمارسون التحريف والتزييف والتضليل، وبعضهم لا يشعرون !
ومن الآيات التي يوردونها في إثبات حجية الأحاديث في كل ميدان ومجال، قوله تعالى في سورة الحشر المدنية: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
إن الخطاب هنا موجه للصحابة/الجنود المقاتلين، يأمرهم بطاعة قائدهم العسكري وأميرهم الذي كان حينها هو النبي صلى الله عليه وسلم.
تأمرهم بالاكتفاء من غنائم الحرب والغزو بما يعطيهم قائدهم والانتهاء عن غيره.
لقد كان أعراف القبيلة تقضي بتقسيم الغنائم بين المشاركين في المعركة دون اهتمام بباقي أفراد القبيلة.
والقرآن جاء لينقل المسلمين من أعراف القبيلة إلى قوانين الدولة.
وللدولة احتياجات اجتماعية وعسكرية ودعوية…
فكان لا بد من إحداث ثورة في طريقة توزيع الغنائم/أرباح الانتصار العسكري، بما يعود على الجميع بالمنفعة والمصلحة، لكن بعض الصحابة كانوا متشبثين بالروح القبلية وأعراف البداوة في الحرب والعنيمة، فجاء القرآن بالكلام الفصل، لأنهم لم يكونوا كلهم مستعدين للاكتفاء بتوجيهات محمد صلى الله عليه وسلم.
عُد لكتاب الله، وافتح سورة الحشر، تقرأ فيها: (… مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9).
إنه إعلان ثوري بأن الغنائم ليست حكرا على المقاتلين، إذ فيها حقوق لله وللرسول (المصلحة العامة)، ولذي القربى (أقارب المقاتلين لا آل البيت فقط لآية: “وآت ذا القربى حقه”)، وللطبقة الاجتماعية الضعيفة المشكلة من اليتيم والمسكين وابن السبيل، ولكل فقراء المهاجرين والأنصار باختصار.
ثم يأتي الفقهاء والأصوليون والمحدثون ليمارسوا البتر والتحريف والتزييف قديما، فيحتجون بأمر له ظروفه وحيثياته ومراميه، على أن حديثا يرويه البخاري أو مسلم أو غيرهما، يحرّم ما لا تحريم له في كتاب الله، ولا ضرر فيه علميا وعقلا، أو يجعل أمرا ما فرضا واجبا لا وجود له في كتاب الله، أو يتنبأ بخرافة مكشوفة كالدجال وعودة سيدنا عيسى للحياة، أو يتضمن معنى منقوضا بالعلم وكشوفاته… تجب طاعته وتصديقه وإنفاذه واعتقاد ما تضمنه لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) !
هل كان بإمكان الله أن يقول: وما جاءكم عن الرسول من حديث يأمر أو ينهى فصدقوه واعملوا به؟
نعم.
لكنه لم يقل، بل قال: (وما آتاكم)، أي أعطاكم من الغنائم كما هو السياق (فخذوه)، (وما نهاكم)، أي وما منعكم من أخذه (فانتهوا).
ثم جاء الخليفة عمر في فترة تهيأت النفوس أكثر، فبنى على القرآن الكريم ثم سيرة النبي العظيم، فقام بإصلاحات عسكرية تنظيمية، قضت على أعراف القبيلة تماما، وأوجدت دولة كبيرة غيّرت موازين المنطقة والعالم القديم.
إن الفقهاء والطلبة المتأخرين، ضحية تحريفات الشيوخ المتقدمين، غفر الله لهم ولنا ولمن بعدنا إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.