في الذكرى العاشرة لرحيل المفكر الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله

محمد علي لعموري
2020-05-03T09:55:23+01:00
featuredآراء ومواقف
محمد علي لعموري3 مايو 2020آخر تحديث : الأحد 3 مايو 2020 - 9:55 صباحًا
في الذكرى العاشرة لرحيل المفكر الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله

محمد علي لعموري
تعرفت على المفكر المغربي محمد عابد الجابري في بداية التسعينات من القرن الماضي ، وقتها كنت أدرس الأدب العصري بالثانوية ، وكان أستاذي للغة العربية أمجد ناصر يفتح معنا نحن التلاميذ مواضيع للنقاش ، منها القضية الفلسطينية ، فصادف أثناء إحدى الحصص عنده وهو يناقشنا في موضوع الصراع العربي/الإسرائيلي أن دلنا على حوار أجرته جريدة الإتحاد الإشتراكي ؛ ذائعة الصيت وقتذاك ؛ مع المفكر محمد عابد الحابري ، ونصحنا بشراء العدد للإطلاع على الحوار المنشور في نفس اليوم.

لما غادرت المؤسسة على الساعة السادسة مساءا ، عرجت على بقال بالقرب من الثانوية كان يبيع الجرائد ، فاقتنيت الجريدة وكان ثمنها حينئذ درهما وخمسين سنتيما.

ذهبت إلى البيت وكانت العادة أن أنزع ملابسي وأتناول الأكل الخفيف الذي يسبق وجبة العشاء ، ففعلت كل ذلك بسرعة وكلي شوق للتعرف على فكر هذا الرجل الذي حدثنا عنه أستاذ اللغة العربية بشكل ملفت للإنتباه.

قرأت الحوار ، وبالفعل وجدته قد وظف التحليل الديالكتيكي في مقاربة القضية الفلسطينية وإن كنت لم أستوعب حينها الكثير من المفاهيم والمصطلحات الموظفة في الحوار.

بقيت صورة الجابري عالقة في ذهني مع الإسم الثلاثي الذي شجعني على التعرف على كتاباته.

ذات يوم بينما أنا مار بالقرب من مكتبة ” المركز الثقافي العربي ” الكائنة بحي الأحباس ، إذ لفت انتباهي كتاب ” نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” للدكتور الجابري ، فدخلت واقتنيت الكتاب دون تردد بعد أن دفعت خمسين درهما ثمنا له.

بما أن الخمسين درهم كانت رأسمالي الوحيد الذي أملكه في تلك اللحظة فقد رجعت إلى البيت خاوي الوفاض من النقود ، وممتلىء الروح بتحقيق إنجاز أنني اشتريت كتابا يعود للدكتور محمد عابد الجابري.

في تلك الفترة كان مشروع الجابري ” نقد العقل العربي” يتوفر في جزأيه الاول ( تكوين العربي ) والثاني ( بنية العقل العربي ) ولم يكن قد صدر له الجزآن الثالث ( العقل السياسي العربي ) والرابع ( العقل الأخلاقي العربي ).

كان كتاب ” نحن والتراث…” سفرا عقلانيا بنيويا في الفلسفة العربية الإسلامية في شقها المشرقي مع إبن سينا والفارابي والكندي ، والمغربي مع إبن رشد وابن باجة وإبن طفيل. فوجدت في مقدمة الكتاب توطئة نظرية شاملة وغنية مع صعوبة كبيرة في فهم مصطلحات فلسفية كنت حديث العهد بها رغم تفوقي في مادة الفلسفة في مرحلة التعليم الثانوي.

بعد شغفي بمنهجية المفكر الجابري وعقلانية تحليله للسياقات السوسيو-ثقافية للفلسفة العربية الإسلامية ، عكفت على قراءة مشروعه الكبير “نقد العقل العربي” الذي واكبت صدور بقية أجزائه حتى آخر جزء الذي توقف عند نقد المنظومة الأخلاقية العربية.

طبعا لا يسعني سوى أن أنبهر بنفس الجابري الطويل في قراءة التراث العربي والترسانة المفاهيمية الهائلة التي احتكم عليها ووظفها في مشروعه لكي يقدم لنا رؤية عقلانية تقطع مع القراءة التراثية للتراث.

كان مشروع الجابري وعيا من مثقف رصين عكف على تفكيك التراث العربي ثم أعاد تركيبه وفق منظور عقلاني يمكننا كعرب وكمسلمين من تجاوز عتبة الإنبهار به واجتراره كما لو أنه ” ليس بالإمكان أبدع مما كان ” !

ساهم الجابري في تقديم قراءة متقدمة لتراثنا الفلسفي والفقهي والصوفي والعلمي والسياسي والأخلاقي..الخ فكانت إسهاماته بالفعل جد رائدة حتى أنها أثارت زوبعة من ردود الأفعال منها الموضوعي كما شهد على ذلك الجابري نفسه ( نقد علي حرب في كتابه نقد النص ) ، ومنها المتحامل الذي حاول الإطاحة بعلمية ونزاهة وتمكن الجابري من مادته التي يدرسها ( نقد طرابيشي للجابري من خلال كتابه : مذبحة التراث و ” نقد نقد العقل العربي “..الخ )، وهناك الإيديولوجي الذي يرد على الجابري في مسألة نقده الصارم للتراث الصوفي الإسلامي ( كتاب طه عبد الرحمان : تجديد المنهج في تقويم التراث )، دون نسيان ردود المشارقة على كتابه عن الفلسفة المشرقية ، وذلك مع حسين مروة وطيب تيزيني ( راجع كتاب : “معهم حيث هم” وحوار بنسالم حميش مع حسين مروة وطيب تيزيني ).

طبعا لم تكن إسهامات واجتهادات الجابري فيما يخص إعادة فهم التراث لتنال رضى الإسلاميين والسلفيين الذين وصفوه بالعلماني وبالماركسي وهلم أحكام مجانية لا تصمد أمام قوة الفكر ودقة العبارة اللذين كان يتفرد بهما الجابري دون رد منه على خصومه ، فقد كان متفرغا لكتاباته ، حتى ختم مشواره كباحث في التراث بتقديم فهم جديد للقرآن مر للأسف مرور الكرام ودون ضجة كما حصل مع كتابه الأول من مشروع نقد العقل العربي ( تكوين العقل العربي ).

تلك الصورة المرفقة لي مع الدكتور الجابري كنت أخذتها أواسط التسعينات من القرن الفارط بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك بالدار البيضاء أثناء مشاركته بمحاضرة هناك ، وكنت وقتها قد قرأت مشروعه ولم يكن قد صدر جزءه الرابع عن العقل الأخلاقي العربي.

رحم الله المفكر العربي الكبير الذي رحل عنا منذ عشر سنوات بالتمام والكمال بعد أن ترك جيلا يؤمن بالعقل ودوره في بناء الذات وتجاوز العقبات بالنسبة للأمة العربية التي كانت وما زالت تحتاج إلى عقول نيرة من طينة الجابري رحمه الله.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.