قواعد قرآنية في النفس والحياة * (6)

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس2 سبتمبر 2022آخر تحديث : الجمعة 2 سبتمبر 2022 - 6:46 صباحًا
قواعد قرآنية في النفس والحياة * (6)

إعداد وتقديم: ذ. محمد جناي
إن من أوجه الإعجاز الذي تضمنه كتاب الله جل وعلا: ما حواه من جمل قليلة المباني، عظيمة المعاني، يقرأ فيها المسلم الجملة المكونة من كلمتين أو ثلاث كلمات أو أربع، فإذا به يجد تحتها كنوزا من الهدايات العلمية، والإيمانية،والتربوية، والتي جاءت على صورة :(قواعد قرآنية).

وإن من أعظم مزايا هذه القواعد: شمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلا، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعد تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعد تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعد لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات .

القاعدة الثانية: “إِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ”

هذه قاعدة قرآنية، وكلمة جامعة ، وهي من أعظم قواعد الشرائع السماوية كلها، والتي لا يشذ عنها شيء.

وهذه القاعدة القرآنية المحكمة من أعظم القواعد الشرعية، التي يدخل تحتها من الفروع مالا يحصيه إلا الله تعالى، وتتفق عليها جميع الشرائع السماوية، ذلك أن الشرائع كلها من لدن حكيم عليم : “وَتَمَّتْ كَلِمَٰتُ رَبِّكَ صِدْقاٗ وَعَدْلاٗۖ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۖ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْعَلِيمُۖ ( الأنعام :116) صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام.

ومرد معرفة العدل من الجور إلى أدلة الشريعة المطهرة،رونصوصها المفصلة.

يقول الإمام أبو محمد ابن حزم: “العدل حصن يلجأ إليه كل خائف، وذلك أنك ترى الظالم وغير الظالم إذا رأى من يريد ظلمه، دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه، ولا ترى أحدا يذم العدل، فمن كان العدل في طبعه، فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين”.

وقال العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية ، والعقول الحكيمة، وتمدح بادعاء القيام به عظماء الأمم، وسجلوا تمدحهم على نقوش الهياكل من كلدانية ، ومصرية، وهندية “.

يقول ابن تيمية: “إن جماع الحسنات: العدل ، وجماع السيئات: الظلم “.

وقال الماوردي:” إن مما تصلح به حال الدنيا قاعدة العدل الشامل ، الذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد ، وتنمو به الأموال ، ويكبر معه النسل، ويأمن به السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور، لأنه ليس يقف على حد، ولا ينتهي إلى غاية ، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل”.

إن هذا المعنى الشرعي العظيم – وهو العدل – الذي نتفيأ ظلال الحديث عنه من وحي هذه القاعدة القرآنية المحكمة: لهو معنى تعشقه النفوس الكريمة، والفطر السوية ، ولله ! كم كان تحقيقه سببا في خيرات عظيمة ، ومنح كثيرة؟! والعكس صحيح .

وكم كان تحقيق هذا العدل سببا في إسلام أناس ما حثهم على الإسلام إلا تحقيق هذا الأصل الكبير : العدل .

وإليكم هذا الموقف الذي يبين شيئا من آثار العدل في نفوس الخصوم قبل الأصدقاء:

روى ابن عساكر في ” تاريخ دمشق” من طريق الشعبي قال:
وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني ، فأقبل به إلى شريح يخاصمه قال: فجاء علي حتى جلس إلى جنب شريح، فقال له علي: هذا الدرع درعي، لم أبع ولم أهب! فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي ، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين ! هل من بينة؟ قال : فضحك علي وقال: أصاب شريح! ما لي بينة، فقضى بها للنصراني!

قال: فمشى خطى ثم رجع ، فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء ! أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ، وقاضيه يقضي عليه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك ، يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش – وانت منطلق إلى صفين- فخرجت من بعيرك الأورق، فقال : أما إذا أسلمت فهي لك وحمله على فرس ، فقال الشعبي: فأخبرني من رآه : يقاتل الخوارج مع علي يوم النهروان”.

فتأمل كيف أثر هذا الموقف العجيب من الرجل الأول في الدولة آنذاك في إسلامه، بل والانضمام إلى جيوشه التي تقاتل الخوارج المارقين، ففي الموقف ملحظ آخر : ألا وهو أن هذا القاضي لم يكن ليجرؤ على مثل هذا الحكم لولا أنه وجد ما يسنده ويقوي جانبه في إصدار مثل هذا الحكم على خليفة المسلمين آنذاك من الخليفة نفسه، ومتى شعر القاضي أنه لا يستطيع أن يحكم بالعدل الذي يراه، فعلى القضاء السلام.

وهذا الموقف – أيضا- يبرز جانبا من جوانب عظمة هذا الدين في العدل مع الخصوم والأعداء، فلم يمنع شريحا كون الخصم نصرانيا أن يقضي له ، وهذا تطبيق عملي لقوله تعالى: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَيٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْۖ اُ۪عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْو۪يٰۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ ( المائدة :9)”.

والجملة: فمن تأمل أوامر الله تعالى وجدها وسطا بين خلقين ذميمين: تفريط وإفراط ، وهذا هو معنى هذه القاعدة القرآنية المحكمة: ” إِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ “.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
* من كتاب ” قواعد قرآنية ، 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة “، أعدها الدكتور عمر بن عبد الله المقبل ،إصدارات مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية ، الطبعة الثالثة 2012، الرياض ،المملكة العربية السعودية

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.