في إثبات النبوة… علم الكلام وآفاقه

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس22 أغسطس 2023آخر تحديث : الثلاثاء 22 أغسطس 2023 - 10:11 صباحًا
في إثبات النبوة… علم الكلام وآفاقه

بقلم: محمد زاوي
تنقسم المباحث العقدية في علم الكلام إلى ثلاثة مباحث كبرى؛ الإلهيات، والنبوات، فالسمعيات. ولا إثبات لهذه إلا بإثبات الثانية، ولا إثبات للثانية إلا بإثبات الأولى. من ينكر الأصل لا يصحّ أن يناقَش في الفروع، ولا يحق له أن يَسأل فيها أو يحاجج بها.

السؤال الأول والذي هو: هل لله، وهو أصل الأصول ومسبِّب الأسباب، وجود؟ هذا السؤال هو منطلق النقاش العقدي، لدى متكلم يبني أسس نظره، ومع منكر يعترض على الغيب.

ولإثبات وجود الله عند الأشاعرة مثلا، ثلاثة أدلة: الحدوث (الإمام أبو الحسن الأشعري) والتمانع (الإمام أبو المعالي الجويني) والاختراع (الإمام الفخر الرازي).

ولا يشتد خلافٌ في هذه المسألة بين مدارس السنة الأربع؛ الأشاعرة والماتريدية والحنابلة، بقدر ما يقع خلاف كبير بين الأشاعرة والماتريدية من جهة والحنابلة من جهة ثانية في مسائل الأسماء والصفات، بين تجريد وتجسيم كما يعبر البعض.

أما الصوفية، فرغم اعتبارهم لأدلة الفرق العقدية السنية، فإن لهم في “الإيجاد” مسلكا آخر، إذ يقتفون أثره بالأحوال ويعرفونه بتخليص الذات مما يحول بينها وبينه، على حد تعبيرهم ورأيهم.

وبناء على هذا الاختلاف في إثبات “الإلهيات”، ينبني اختلاف فرعي في إثبات “النبوات” و”السمعيات”. فيثبتها الحنابلة نقلا، ويثبتها الأشاعرة والماتريدية نقلا وعقلا، بإثبات “القدرة النبوية” و”المعجزة النبوية”، وكلاهما لا يتحققان إلا لنبي ميزته “خرق العادة” (المعجزة) و”تجاوز الأسباب” (القدرة).

أما الصوفية فقد عرفوا حقيقة “الوحي” بأحوالهم، فلما عرفوها لم يستحل عندهم اتصال بين نبي وربه، وأجمعوا على توقف الوحي واستمرار الاتصال. ولبعضهم أقوال غريبة في هذا الاتصال، إلا أنها لهذا البعض دليل على الوحي والنبوة، يعرفهما بما يجده من الأحوال والوِجد في ذاته.

يتكلم منكرو “الوحي” خارج هذه الحقول، فربما لم يسبق لهم أن طالعوها إلا في جزء دون جزء، وفي مسألة دون أخرى؛ يستلبهم الإنكار فلا يعرفون لهذا الرصيد الكلامي حقا، يؤسسون نظرهم على الاعتراض في الجزئيات، يجهلون كلياتها أو يهملونها، لا يضعونها في سياقها الحجاجي والتاريخي فيفسدون في العقول ولا يصلحون.

هذا ومن أراد في علم الكلام آفاقا جديدة، فهي التي قد يجدها في مسلكين توصلنا إليهما بعد بحث ونظر، والمقصود:

-المسلك الوجداني الشرقي: وهو ما عرف في ثقافتنا ب”العرفان/ السلوك/ التصوف”، وهذه في النظر إلى هذا المسلك جزء من كل، هو تصور الشرق للعالم والكون. سادت الحضارة الغربية فساد تصورها للعالم، وهو تصور تفسيري ينكر غير المفسر، وكان حسبه أن يثبت التفسير ويترك غير المفسر لتطور العلم والتجربة البشرية، إلا أنه أنكر كل غير مفسر واشترط التفسير على حياة الناس المادية والمعنوية. “الوحي خطاب كوني، من خارج التاريخ، يروم تسديد التاريخ”؛ عبارة ينكرها كل مستلب لمادية ديدرو أو مادية أواسط القرن 19 م؛ إلا أنها معتبرة عند بعض التفاسير المشرقية التي تمدد مجال المادة ليشمل الكوني، أي ما قبل الهيولى، وليس ما قبل التاريخ فحسب. قد لا يكون تفسير هذا التمديد متاحا، إلا أنه مثبت عند أصحابه بالتجربة والتأمل (التاو الصيني مثلا).

-المسلك التاريخي: فقد اعتاد فريق إنكار الوحي بالتاريخ، ولم يخطر على بالهم أن يُثبَت به. ولنا في هذه المسألة ثلاثة أمثلة: عبد الله العروي عندما تكلم في “مفهوم الدولة” عمّا أسماه “دولة اللادولة” وهي دولة الرسول التي تحققت بأكبر قدر من العقيدة وأقل قدر من المصلحة، وعندما تحدث عن فراغات في التاريخ الإسلامي لا تسمح بالإنكار قبل أن تُملأ (الإيديولوجيا العربية المعاصرة)، ولمّا تحدث عن فارقية الحدث الإبراهيمي في التاريخ في “السنة والإصلاح”./ المثال الثاني هو ما قاله جورج حنّا (الشيوعي اللبناني) في كتابه “قصة الإنسان”، حيث اعتبر ظهور “ظاهرة الوحي” في منطقة بعينها في الشرق لغزا لم يفك علم التاريخ شيفراته بعد./ المثال الثالث، ما صرح به فراس سواح، المتخصص في تاريخ الأديان، عندما قال إنه لا يستطيع إنكار “ما يدعيه الأنبياء بخصوص تلقيهم للوحي”… هذه أمثلة لا ترقى إلى درجة الإثبات، ولكنها تقول بتهافت الإنكار على الأقل، وأنه منبنٍ على غير دليل تاريخي. فالثغرة قائمة، يملأها الوحي في يوم الناس هذا، وتمنحها “حكمة الشرق” تفسيرا كونيا ووجدانيا. أما عبقرية الأنبياء في التاريخ الخاص لكل أحد منهم، فتطلب مزيد بحث تاريخي لمعرفة العلاقة الحقيقية بين الأسباب والنتائج في كل تجربة، ولتقدير دور الوحي في هذه العلاقة.

إن “خلعاء” هذا الزمن، لا يعرفون للنبوة أبعادها التاريخية والسياسية. وإذا تكلموا فيها، فلا هم يتكلمون بعلم عتيق متوارث، ولا بعلم حديث مثبت يعرف حدوده بمنهجه ذاته. أما بعض الذين يردون عليهم فقد أثبتوا للناس أنهم في حاجة إلى مزيد علم ودراسة، فهذه أمانة يتصدرها الدارسون و”حكماء الشريعة” بحق. ومن أحس النقص في علمه، فليلزم غرز الدرس بدل استنزاف الذات فيما هو بغيره قائم.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.