التقليد في المذاهب الإسلامية وشيوع الروح الرجعية!!

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي17 أكتوبر 2020آخر تحديث : السبت 17 أكتوبر 2020 - 10:56 صباحًا
التقليد في المذاهب الإسلامية وشيوع الروح الرجعية!!

ذ. محمد جناي
موضوع التقليد ثار حوله جدل كبير جدا في القديم والحديث بين مؤيد ومعارض، وحلا لبعضهم أن يقسم أهل السنة والجماعة إلى مذهبية ولا مذهبية، وفي المقابل ظهر من ينافح عن تقليد المذاهب ويعتبر الخروج عنها من أخطر البدع التي تهدد الشريعة الإسلامية، ولأن المذاهب الإسلامية هي مدارس فقهية لتفسير نصوص الشريعة واستنباط الأحكام منها، فهي مناهج علمية في الاستنباط والتعرف على الأحكام، فهي ليست شرعا جديدا، ولاشيئا آخر غير الإسلام.

في منتصف القرن الرابع الهجري دب الضعف في الدولة الإسلامية، فتفككت عراها، حتى اقتطع الأمويون من الدولة العباسية الأندلس، والعبيديون شمال أفريقيا، واقتطع الإخشيديون مصر واستقلوا بها، وضعفت العراق التي بها بغداد عاصمة الدولة العباسية، حتى جاء التتار بغاراتهم الهوجاء فقضوا عليها. وتبع هذا الانحلال السياسي جمود الفقهاء على ماتركه أسلافهم من ثروة فقهية هائلة، والتي أصبحت مدونة متداولة، فكان جل همهم البحث عن علل الأحكام التي قررها أئمتهم، وانحصرت بحوثهم في الدائرة المذهبية، وترجيح بعض الأحكام على بعض والاستدلال لأقوال أئمتهم، والانتصار لها، ومحاولة إبطال رأي مخالفهم ،مما كان لهذا العمل أثره السيئ فيما بعد من وجود التعصب دون نظر في الدليل، وقد امتد هذا العصر حتى أواخر القرن الماضي، وشخصيات فقهاء هذا العصر قد ذابت في شخصيات أئمتهم في الجملة، وإن كان قد وجد فيهم فقهاء لايقلون عن سابقيهم في حسن الاستنباط،وعمق الفكرة، وجمع الآثار، والترجيح بين الروايات، واستنباط علل الأحكام، والإفتاء في مسائل جديدة لم يسبق لأئمتهم النظر فيها.1

التقليد في اللغة: مصدر قلد يقلد تقليدًا، وقد ذكر ابن فارس لـ: “قلد” معنيين:
المعنى الأول: يدل على تعليق شيء على شيء، وليه به.
والمعنى الثاني: قلْد؛ ويدل على الحظ.2

وللتقليد العديد من التعريفات في الاصطلاح ونذكر بعضها: وهو تعريف للنسفي: ( هو أخذ قول القائل من غير معرفة من أين قاله من كتاب أو سنة أو قياس أو بناءََ على المصلحة المرسلة أو سدا للذريعة أو استصحابا الأصل أو إلى غير ذلك من أدلة الأحكام ).3

وعرفه الباقلاني بأنه: ( اتباع من لم يقم باتباعه حجة، ولم يستند إلى علم ).4

وعليه، فالتقليد بمعناه الشرعي موافق للمعنى اللغوي؛ فالمقلِّد قد حمَّل المجتهد رأيه وفوض إليه أمره، وقلده خيره وشره، كما أنه قد جعل مذهبه كالقلادة في عنقه.

إن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعض انقراض عصر الأئمة الأربعة، إذ أنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد وعدم الاعتداد به، وإن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين.

ومع هذا لم تخل هذه القرون في هذا الدور التقليدي من فقهاء متحررين، حاربوا التقليد، ونادوا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، من أبرزهم: الإمام القرافي المالكي، والعلامة ابن عبد البر المالكي، والإمام المزني صاحب الشافعي، والإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والإمام السيوطي، والإمام الشوكاني رحمهم الله جميعا.

وقال السيد سابق في “فقه السُنة”: “بذل أئمة المذاهب الأربعة أقصى ما في وسعهم في تعريف الناس بهذا الدين وهدايتهم به، وكانوا ينهون عن تقليدهم، ويقولون: لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، وصرّحوا أن مذهبهم هو الحديث الصحيح؛ لأنهم لم يكونوا يقصدون أن يُقلَّدوا كالمعصوم صلى الله عليه وسلم، بل كان كل قصدهم أن يعينوا الناس على فهم أحكام الله. إلا أن الناس بعدهم فترت هممهم، وضعفت عزائمهم، وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد، فاكتفى كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه، ويُعول عليه، ويتعصب له، ويبذل كل ما أُوتي من قوة في نُصرته، ويُنزل قول إمامه منزلة قول الشارع، ولا يستجيز لنفسه أن يُفتي في مسألة بما يُخالف ما استنبطه إمامه، وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال الكرخي: كل آية أو حديث يُخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واُعتبر كل من يخرج، عن أقوال الفقهاء مبتدعًا لا يُوثق بأقواله، ولا يُعتد بفتاواه. وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية، ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف، عن الاجتهاد، محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم!!”.(المجلد الأول ، صفحة 8).

فالعقائد الأصلية والأخلاق لامساغ للاجتهاد والتقاليد فيها، لأن العقائد هي الإيمان بالله تعالى ورسوله، وجميع ماقطع به العقل أو ثبت بالنقل ،والأخلاق من المعلومات البديهية، وكذلك كل ماعلم من الدين بالضرورة من جميع التكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات أو عقوبات ومحرمات ،كوجوب الصلاة وعدد ركعاتها ،والصيام والزكاة ، وحرمة الربا والزنا وغير ذلك، أما مالم يثبت بهذا الوجه، بأن كان ظني الثبوت ظني الدلالة، أو قطعي الثبوت ظني الدلالة أو العكس، فهو الذي فيه مساغ الاجتهاد والتقليد.

ومذاهب العلماء في التقليد في المسائل الفقهية الفرعية وهي التي ذهب إليها كثير من أتباع الأئمة الأربعة إلى أن الاجتهاد ليس ممنوعا وأن التقليد يحرم على المجتهد، ويجب التقليد على العامي الذي لم تتوافر لديه أهلية الاجتهاد، قال الإمام الشوكاني رحمه الله (وهو الحق ،وعليه الأئمة الأربعة وغيرهم يجب على العامي ،ويحرم على المجتهد، وهو قول الشافعي وغيره: لايحل تقليد أحد، مرادهم على المجتهد، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي: الرجل يكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول الرسول واختلاف الصحابة والتابعين، وليس له بصيرة بالحديث الضعيف، أو المتروك ولا الإسناد القوي من الضعيف، هل يجوز له أن يعمل بما شاء ويفتي به؟ قال: لا يعمل حتى يسأل أهل العلم عما يؤخذ به منها، قال القاضي أبو يعلى: هذا أن فرضه التقليد، والسؤال إذا لم يكن له معرفة بالكتاب والسنة).5

مما سبق يتبين لنا أن العوام لابد لهم من تقليد علمائهم لأنهم لايهتدون إلى الأدلة الشرعية بأنفسهم فوجب أن يسترشدوا بالعلماء الذين ينيرون لهم طريق المعرفة، ويبينوا لهم أحكام الله تعالى وفي ذلك قال ابن عبد البر في كتابه جامع البيان العلم وفضله: (العامة لابد لها من تقليد علمائهم عند النازلة تنزل بها ،لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولاتصل بعدم الفهم إلى علم ذلك؛ لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بدليل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة )، ثم قال: (ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقوله تعالى: (( فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ اَ۬لذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) (43). وقال الإمام الغزالي في المستصفى: (العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء)، وقال الآمدي في الأحكام: (العامي ومن ليس له أهلية في الاجتهاد -وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد-يلزمه اتباع قول المجتهدين، والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين).

فالشريعة الإسلامية أكبر وأوسع من أي مذهب، وهي حجة على كل المذاهب، فإذا ظهر أن المذهب أخطأ في مسألة معينة وأن الصواب في مذهب آخر وجب التحول في هذه المسألة إلى المذهب الثاني، كما يجوز لمتبع مذهب معين أن يتبع غيره في بعض المسائل إذ لاشيء يلزمه باتباع جميع اجتهادات المذهب، على أن يكون ذلك عن دليل.

علينا ألا نضيق ذرعا أبدا باختلاف المذاهب،لأن الاختلاف في الفهم والاستنباط أمر بديهي، بل نعتز بهذا الاختلاف العلمي الفقهي الذي خلف لنا ثروة فقهية عظيمة، ونعتبره من دلائل نمو الفقه وحياته، ودليل على سعة أفق علمائنا العظام، وتفانيهم في خدمة الشريعة الغراء.

كما أن على المقلد أن يطهر نفسه من التعصب الذميم للمذهب، فليست المذاهب تجزئة للإسلام، وليست أديانا ناسخة له، وإنما هي وجوه في تفسير الشريعة وفهمها، كما أن علينا احترام وتبجيل علماء المذاهب وتنزلهم منازلهم ونتأدب معهم، وندعو لهم، ونعتقد أنهم مأجورون أخطأوا أم أصابوا.
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1: مدخل لدراسة الفقه الإسلامي للدكتور محمد سلام مدكور صفحة 56 ، والتقاليد والإفتاء والاستفتاء صفحة 75.
2:معجم مقاييس اللغة (5/ 19) مادة “قلد”.
3:زبدة التحقيق في التقليد والتلفيق ، عمر محمد جبه جي (سلسلة المباحث الأصولية).
4: البحر المحيط (6/ 274).
5: البحر المحيط (6/ 281).

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.