الأسس المنهجية للإجتهاد والتجديد عند الدكتور طه جابر العلواني

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس19 نوفمبر 2019آخر تحديث : الثلاثاء 19 نوفمبر 2019 - 11:07 صباحًا
الأسس المنهجية للإجتهاد والتجديد عند الدكتور طه جابر العلواني

عصام أخيرى ـ طالب باحث في الفكر الإسلامي
يعتبر الإجتهاد و التجديد، وما ارتبط بهما من مرادفات كالإصلاح والتغيير والنهضة، والتجديد..، في الفكر الإسلامي المعاصر، والتي باتت من المواضيع التي شغلت اهتمام الباحثين في الدراسات المعاصرة، فخلاصة ما اتفق عليه المفكرون أن سدّ باب الإجتهاد كان من أسباب الركود، والإنحطاط والفكري والعلمي، فقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الناس على المحجة التي تتمثل في القرآن المجيد، والسنة النبوية التي تبين لنا حقيقة القرآن المجيد متجسدا في الواقع، والتي كان الرسول صل الله عليه وسلم حقيقا في تفعيل أسسه الحقيقة في عالم المشيئة، والسنة فيما نقل إلينا أنها قول أو فعل أو تقرير؛ يقرره الرسول صل الله عليه وسلم من اجتهادات الصحابة، شريطة أن يكون له نفع معرفي وحضاري ودافع لضرر الأمة، في زمان و مكان، فالميزة التي جعلت الأمة الإسلامية تمتاز عن بقية الأمم، هي صفة الخلود المطلق، ومن أجل تحقيق هذه الأخيرة كان لا بد من شرط، كما يقول عمر عبيد حسنة، في تقديمه لكتاب “الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي” للدكتور، عبد المجيد السوسوه الشرفي، “إن تحقيق الخلود في كل زمان ومكان هو النظر في تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة”،هذا وقد دار جدال واسع بين مفكري الأمة، فريق منهم يربط القرآن بالزمان والمكان، وفريق منهم لا يقيده مطلقا القول، فالحقيقة القرآنية متصفة بالبعد الزماني والمكاني، فهو كتاب مطلق الوجود، متناهي النهاية، حتى تنتهي الحياة، عنا بكره أصلها.

لما كان الاجتهاد في أوج تكونه، وفي حقيقة نشأته، بعد أن فتحه الرسول الموقر صلى الله عليه وسلم كان لا بد وان يتصف بصفات تجعله قابلا للإدراك المنهجي، والمعرفي، الذي يجعلانه يسوغ الحل لكل الإشكاليات صياغة لا تحيد عن أحقية تكوينها، فلا بد وأن نعير اهتمام العقل المسلم، إلى طبيعة الحدود المعرفية والمنهجية للإجتهاد، الذي لم يك بعد أن فتحه الرسول صلے الله عليه وسلم ، حكرا، أو خاصا لفئة معينة، بل هو في حقيقته لمن كان زاد علمي ومعرفي ومنهجي، وفي ما تضمنته دلالاته أنه مفهوم، أشبه ما يكون بالمصطلح الحق.
فمن خلال تقصي ذاتية الاجتهاد، استطعنا أن نجد ان مفهوم الإجتهاد، الذي هو عمل يتطلب جهدا وبذل الوسع بغية إدراك الوصول إلى نتيجة اجتهادية بشرية ظنية، تحمل الصواب والخطأ، أما في محيط دورانه الأصولي والفقهي، فقد أركده، وأفقده حقيقته المنهجية، إلى جانب مجموعة من المصطلحات، في دائرة النص الشرعي، لا غير، فمفهومه عندهم، يتناول استفراغ الوسع في سبيل تحقيق حكم ظني، اذ لا اجتهاد مع النص، الذي حسم فيها الشارع، الحكم، كالصلاة والزكاة، ومقدار كل وارث في التركة، يمكن القول أنه يمكن تعطيل النص، لعلة ذات أبعاد سياسية واقتصادية ومعرفية، كما عطل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد السرقة في عام المجاعة ولكن الإجتهاد جائز فيما تركه الحق فسحة ورحمة بنا ، لمن كان له الأهلية المعرفية والعلمي.
فالشيء الذي سوف يتهم الإجتهاد بعدم تناسق منهجه وترابطه بفقه الوقع، في عملية الإجتهاد؛ الحصر الأصولي والفقهي، لمفهوم الاجتهاد إذ كان علينا؛ ولا بد أن نتخطى التعريف والحصر الاصولي، لهذا المصطلح، بغية تحقيق هدف الإصلاح والشهود الحضاري المنشود، فالاجتهاد الأصولي-بمفهومه- ينافي حقيقة الوجود لهذا المصطلح، كما هو الأمر في عالم المشيئة، كان لا بد اذا أن نتدارك بعده الزماني والمكاني، لتدارك الامم في صحوتها ومنشودها من الإصلاح، وفرض المنهج الاسلامي في العالم المعاصر، مكان المنهج الغربي العلماني اللائكي الذي أدى ويؤدي الى إنهيار أخلاقي وحضاري ومعرفي؛ بحيث يقوم على مبدأ الحرية اللاأخلاقية، والمنهج العلمي، المتسم بوضعية التجربة الحسية المعنوية، التي تفقده العصمة، والتسديد الموفق، بالوحي الإلهي، والذي إن نحن تمكنا من تعديل منهج عرض قضية الاسلام، وكيفية صياغة المنطق الوجودي والذاتي للعقل المسلم، الذي حقق فيما مضى بعدا معرفيا حضاريا، جعله عقل العالم لفترة تجلت في الزمان الذي اكتسحت فيه العلوم بداية التأسيس مع العلماء المسلمين، كعلم الاجتماع مع عبد الرحمن بن خلدون، ولكن نهاية التأسيس كانت مع اوجست كونك، في هذا يقول الدكتور مسفر القحطاني” علم العمران البشري من العلوم الإنسانية التي أدت إلى نقلة نوعية في كتابة التاريخ، وكان شرف تأسيس هذا العلم منسوبا إلى أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون وصلك في مقدمته… أما في العصر الحديث فقد ذاع هذا العلم واشتهر مؤلفه… وكان أشهرهم بحثا وتقصيا هو دوركايم مؤسس علم الإجتماع الحديث، وقبله أوجست كونط”

إن فقه الواقع وعالم المشيئة. الذي نعيشه كل يوم يستجد بمستجدات، تتغير بتغير وقت الزمان -فنوازل الأمس لا تكون هي نوازل الغد-فالواقع في عالم المشيئة يجب أن يراعى في عملية الإجتهاد، باعتباره موجودا؛ ضمن الوجود الكلي، فهو ضمنيا يحقق نسبة مهمة في حقيقة القضايا، التي تدعوا إلى آليات الإجتهاد والتجديد، ضمن النسق المنهجي وكذا، شروط؛ المعرفة والإلمام بمقاصد الشارع، ومعرفة اللغة العربية، وأصول الفقه، وفقه الواقع، الذي هو نصف الاجتهاد وإن كان قريبا منه كفاية، لا بد وللمجتهد أن يكون أعلم بواقع مجتمعه، فالمجتهد كالطبيب، يصف لكل داء دواءه، ولكل مجتمع واقعه، فالإمام الشافعي؛ صاحب الفقهين، فقه الحجاز وفقه مصر، أفتى بما اقتضته الحياة الإجتماعية، والسياسية والإقتصادية في واقع الحجاز، وفي مصر يخالف فقه الحجاز اختلافا كالإسم، لا الإصل، ففقه الواقع لا ينفك يكون، بل هو جزء لا يتجزأ من. الإجتهاد والتجديد في الفكر الاسلامي المعاصر.
إن الواقع، شرط بل هو أساسي في شرطية ممارسة الاجتهاد والتجديد، فلا يمكن أن تكون الأحكام الفقهية ذات طابع غير واقعي، وكما أنه يشترط في المفتي أن يكون مسايرا مندمجا مع الحياة الواقعية، لا ان يكون في برج وتزهد، والناس في واد.

كان للحصر الفقهي لمصطلح الإجتهاد أثر سلبي في كيفية التعامل مع القرآن المجيد، إذ أخرجه – هذا الحصر- من ضمن دائرة فقه الواقع وغير مرتبط به، والذي يمكن له أن يؤسس لمجتمع ذا واقع يمكن أن نلمس وأن تتجسد فيه حقيقة القران المجيد في تجديد الواقع المعاصر وفي كل عصر حتى تمور الأرض مورا، فالإجتهاد حين كان يفعل من لدن من كان أهلا به، وتوفرت فيه الشروط والأهلية، كانت حياة الحضارة الإسلامية في أوج قمتها، ورقيها المعرفي، وفرض الأخلاق النبيلة، وتأسيس الوجود الإسلامي في الحياة ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فمع ظهور الإجتهادات لمختلف الأئمة؛ وتأسيس المذاهب الأربعة، وبوفاة الأئمة ،أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، توقف وسد باب الإجتهاد، من قبل المقلدين وجهلة البعد المنهجي لحقيقة الإجتهاد، مقتصرين على الوجود، من اجتهادات شيوخهم، وهذه الحقبة تعد من البدايات التي غيرت مفهوم، وكيفية فهم وتناول القرآن المجيد وحقيقته التطبيقية، وطبيعة العلاقة الترابطية الممنهجة بالبيان والتجسيد في عالم المشيئة، فقد كانت هذه من بين أوائل الكوارث العظمى التي حلت بالفكر الإسلامي، وشلت العقل المسلم، فكسرت ظهرهما وبذلك نجد ان هذا الضرر الذي لحق العقل المسلم، وجعله مقلدا، أكثر من غيره مجتهدا، تقديسه لما ورثه عن السلف، وبهذا أصبح العقل العربي يقدس التراث أكثر من تقديسه للقران المجيد، حتى أننا حين نقرأ التفاسير التي صنفت بعد المذاهب نجدها كتبا فقهية، أكثر منها تفسيرية، لأن النزعة التعصبية للمذهب قد سادت وتمنهجت في التعصب التأليفي للمفسرين، وقليل ما هم، في التأليف المنهجي الذي يتبع الحق ولو خالف مذهبه، وهذه من الآفات التي اتجهت بالعقل المسلم إلى الإنهيار الحضاري والمعرفي والبعد الحقيقي عن الإدراك الجمالي لجمالية القرآن المجيد، الشيء الذي قيد العلوم الإسلامية، وظلت في رقود معرفي ومنهجي، فالعلوم الإسلامية اذن؛ في أمس الحاجة إلى تحرر من المنهج التقليدي، وإلى الإجتهاد والتجديد.

مفهوم الإجتهاد:
لغة:
تدل مادة {جهد} تحمل في طياتها وأصلها، معنى؛ المشقة وبذل الوسع في الإجتهاد، وإعمال طاقة العقل في سبيل الحقيقة المراد بلوغها، والجهد في أداء العمل، من المجتهد في عملية الاجتهاد وكذلك إعمال العقل في عملية الاجتهاد، مع عدم إمكانية مزيد المجتهد فوق طاقته للإجتهاد..
اصطلاحا:
إن تعريف الدكتور شبار وتعريف الدكتور العلواني من أن الإجتهاد لا يقتصر مفهومه على استفراغ الجهد، لتحصيل حكم ظني شرعي، كما هو معلوم في تعريف الأصوليين، بل الإجتهاد عندهم منهج يضبط به المجالات الأخرى، غير مقتصر على الفقه أو اصوله، فالإجتهاد يشمل جل جوانب المجالات التي انبثقت عن العلوم الدينية والشرعية، والعلوم الكونية دون أن نغفل أن هذه العلوم، لها حظ في عملية الاجتهاد والتجديد.

مفهوم التجديد:
لغة:
تحمل مادة “جدد” مجموعة من الدلالات التي يمكن إختزالها في: العظمة، والجد في العمل وعدم الهزل في الأمور وتعني كذلك بالإضافة إلى الاجتهاد والحظ بضم الجيم.
اصطلاحا:
ويرى الدكتور سعيد شبار أن ” التجديد الفكري في الإسلام ليس نسخا ً أو تأسيسا لفكر جديد، أو مرد إحياء لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي داخل فكر قائم لإعادة اكتشافه وتطويره وفقا للفهم الزمني الذي يعي حاجات العصر، أي أنه لا ينطلق من فراغ، بل له قواعده ومنهجيته ومرجعيته وثوابته”، كما أن التجديد اجتهاد في الفهم والإدراك، وفي استنباط الحلول من روح الشريعة الإسلامية، للمشاكل التي يعيشها المجتمع الإسلامي في ضوء المستجدات على المجتمع والوعي بالمتغيرات التي يعيشها اليوم.
من هنا فالتجديد إذن هو السبيل لاستمرار ـ أي إثبات ـ الدين الكامل، وليس نفيا لثبات هذا الدين واكتماله.”.

مفهوم الفكر الإسلامي:
يتضح لنا أن مصطلح الفكر الإسلامي يدل على العلاقة الترابطية التي تجمع بين العقل المسلم، والوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة النبوية، وما نتج عنهما من فكر وأفكار واجتهادات العلماء، وكل ما له صلة متمة بالإسلام، ويدافع عن الثقافة الإسلامية ويزيل عنها الدوائر التي يتربص بها الإستشراق الكلاسيكي .

المطلب الاول: الجمع بين القراءتين:
ظهرت قضية الجمع بين القراءتين عند الحارث المحاسبي في كتابيه -العقل وفهم القرآن-، كما نجدها عند محي الدين بن عربي في كتابه -فصوص الحكم- “أما الفخر الرازي فقد تميز عن كلا العالمين بأن حاول تفسير القرآن تفسيرا عمليا في تفسيره الكبير “مفاتح الغيب” ويقول في مقدمته -استغرب بعض الناس حينما قلت: أنني أستطيع أن أكتب من تفسير سورة الفاتحة وقر بعير، وإنني لازلت أقول هذا القول ولأبرهن على ذلك، فان بين يدي القارئ مجلدا كاملا في تفسير سورة الفاتحة فقط- ونحن لا ندعي أن الفخر الرازي أو ابن العربي أو المحاسبي استطاعوا تفسير القرآن بالكون او العكس، إنما قدموا مؤشرات” لتفسير القرآن الكريم بالكون، وربطه ببعض ما هو مطروح في الكون الذي وصل إليه العلم الحديث، والقرآن المجيد يثبته ويصدق عليه، ويقوي حقيقته، ويؤكد أن القرآن ليس كالتوراة والإنجيل، التي حرفت عن مواضعها، ونسي بنو اسرائيل عظيم ما ذكروا به في الكتب الأصلية.
إن الجمع بين القراءتين، قراءة في القرآن، وقراءة في الكون، جمع يكمل الاستيعاب والترابط الذي يمكن الإنسان من تحقيق الهدف الأسمى الذي خلق له، الإستخلاف والعمران بتعبير الدكتور العلواني “فكلاهما ـ القرآن والوجود المشيء- يكمل الأخر في الكشف عن دلالات الوجود وقوانينه” ويضيف حاج حمد ب “أن الجمع بين القراءتين يعتمد على الربط بين القرآن بوصفه محتوى الوعي المعادل للوجود الكوني وحركته وما يتمظهر به هذا الوجود من تشيؤ وتكوين”

ويعتبر الدكتور العلواني أن الجمع بين القراءتين، من محددات المنهجية القرآنية، وهذا المحدد “يربط بين الغيب وعالم الشيء ويمكِّن من استخلاص محددات يُقرأ الواقع بها، ويمكِّن من الصياغة الدقيقة لإشكاليات الواقع والعروج بها إلى القرآن المجيد في [وحدته البنائية] للوصول إلى هديه في معالجتها”.

وفي الذكر الحكيم ذكر في غير موضع واحد، آيات دالة على هذ الجمع، فمما جاء في هذا الصدد أول ما نزل في غار حراء، قال سبحانه وتعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}، و”بما أن القرآن ليس فيه تكرار ولا ترادف ولا تحتاج آياته الكريمة الى استعمال المؤكدات، فإن كل كلمة من كلماته ـ وإن بدت مرادفة أو مماثلة لأختهاـ فإنها تشتمل على معنى آخر” .

يعتبر القرآن حقيقة وجودية في عالم المشيئة والكون مخلوق خلقه الله تعالى بغية أن تكون مصدر استخلاف وعمران الإنسان الأرض، فلا يمكن للإنسان الإستغناء عنهما في واقعه، بغية تحديد مفهوم الإستخلاف، الذي من أجله وُكِّلَ مهمة الامانة النفسية، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)} ودحض الفلسفة الوضعية القائمة على فلسفة؛ الإنسان مجرد شيء، خلق من عدم، وإليه سيعود، وباعتبار الكون دعوة مماثلة للوصول إلى القرآن، وأن القرآن المتمثل في الوحي يشمل في مجموع سوره قواعد، ومنهج قادر على استيعاب الكون.

المطلب الثاني: الوحدة البنائية للقران المجيد
هذه الوحدة كما عبر عنها الدكتور العلواني” قراءة علمية دقيقة للمستقبل لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها” و”القيم الحاكمة العليا” تقدم للإنسان المكلف المصدر المعرفي المعصوم من كل ما عداه من الأخطاء وهنا نحيل كل قارئ للتأمل فيما نقله المحققون عن العلماء، قولهم أن القرآن “حمال أوجه” بأي معنى يكون حمال أوجه، فهذه ثغره من الثغرات التي تسمح لزنادقة القول للطعن في القرآن المجيد، وهذا هو الشاهد في أن بعض التفاسير تقام من أجل النزعة المذهبية ” كأحكام القرآن لأحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي، ت 307 هـ.
والوحدة في التدبر بمنزلة المهجة في الذات الإنسانية، إذ اعتبره الدكتور العلواني الأساس في ركن التدبر، لا يمكن الفصل بين الأيات الخاصة بكل مجال، تكلم فيه القرآن المجيد، بغية إدراك حقيقة الحكم، هذا من الفواحش، نعتبرها، لا المغالطات التي يرتكبها علماء الإفتاء، فلن تحقق إذن بغية المجتهد في سبيل إدراك حقيقه الحكم المطلقة إن هو نهج هذا النهج في تفرقة القرآن المجيد، فإنه بذلك “لن يلبث إلا يسيرا ليدرك أن ذلك -وحده- لن يلبي حاجته، ولن تكشف له آيات الأحكام عن دقائقها، وقد فصل الغصن عن الشجرة” والإمام الشافعي في كاتبه “آيات الأحكام” الذي جمعه ورتبه الإمام البيهقي بقوله “ألا وإن في الأمثال لأحكام كثيرة”.

المبحث الثاني: التوحيد والتزكية والعمران
المطلب الأول: التوحيد:
إن التوحيد هو الهدف الأسمى وسبب الوجود والموجودات، في عالم المشيئة، فكل من في الارض يسبح بحمده، قال الله تعالى: {تُسَبِّح لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}. فكانت مهمة الرسل والأنبياء، أن يبلغوا رسالة التوحيد من آدام الى محمد صلى الله عليهم أجمعين، ويعتبره-التوحيد- الدكتور فريد الأنصاري، صنفا من أصناف الأصل الثاني من الأصول الأربعة للعلوم الشرعية “وعلم التوحيد التزكية: هو الصنف الثالث المقصود من التكوين العلمي لطالب العَالِمِيّةِ، وهو في حقيقته غاية الغايات ونهاية المآلات في الدين”، كما أن الدكتور شبار يعتبر التوحيد من الأصول المؤسسة للتواصل النافية للتحيز باعتباره “تحرير من كل مظاهر الإسترقاق والخضوع التي يفرضها إنسان على إنسان”، فالتوحيد أصل الوجود الإنساني والكوني.

{لا إله الا الله}، كلمة جامعة شاملة لمفهوم الفلسفة الإسلامية، ورسالته الشمولية، ذات الأبعاد المطلقة في توحيد الخالق، وتحقيق مبادئ الإستخلاف الكوني للإنسان، فالتوحيد كما يعبر عنه الدكتور العلواني “هو قمة الهرم في المنظومة القرآنية”. فقد كان أول ما نزل من القرآن المجيد، في مكة المكرمة، وداعيا إلى تصحيح العقيدة في نفوس الناس، قبل تلقي التشريعات، في المدينة المنورة، فالتعدد الذي ساد في المجتمع العربي قبل الإسلام، من تعدد الأوثان وآلهة الصنع، أنشأ في العقل العربي فكرة، أن الآلهة تعددت بتعدد الموجودات، وجل السور التي نزلت وتنزلت بمكة نجد فيها هذا التصحيح وهو رؤية عامة للحقيقة، وللواقع، وللعالم، وللمكان والزمان ولتاريخ الإنسانية ولمصيرها”. نجد في سورة الانبياء قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}. وفي سورة النحل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. هذه نماذج من سور القرآن المجيد، التي تنزلت بمكة، لتصحيح العقيدة، ومفهوم التوحيد في المنظومة الفكرية، للعقل العربي، بذلك يكون التوحيد “الذي جاء به القرآن المجيد نقيا خالصا سليما من سائر الشوائب”. لقد أنكر المشركون من كون الألهة واحدة، وليست متعددة، لأن ما كان سائدا في الثقافة، اليونانية انتقل الى منظومة العقل العربي، فصار يعبد اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، مع شرك هؤلاء، بتعدد آلهتهم، لا ينفكون وهم ساجدون لما لم ينزل به الله سلطانا، في حين أن الفطرة الإنسانية، فطرت على التوحيد حيث أن الله تعالى أرسى دعائم وقواعد التوحيد في فطرته، عكس “التفكر والملاحظة، والحدس والإستيعاب وغيرها، كلها طاقات أودعها الله تعالى في الإنسان لتمكنه من الفهم والإدراك”.

المطلب الثاني: التزكية:
من دون التزكية أو الإنسان المزكى “لا يوجد الإنسان المعمر البناء المجاهد الذي يهوى التضحية” من خلال تزكية الإنسان كما يري الدكتور العلواني يمكن “أن يضحي بحياته وقد يفارقها شهيدا وهو يحاول أن يحفظ للحياة قيمتها” وإنسان التزكية تجعل من الإنسان ذاته مرتقيا في أصله وعقله ونفسه، وكذلك من أجل أن تكتمل تزكية الإنسان لا بد من حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، منحطا من قدرة الحضارة المعاصرة التي جعلت الحس والتجربة داخل المختبرات، العلم الأزلي، وتناست أن العلم بالله والإيمان بالغيب به علم في ذاته، ولا يمكن لعلم من العلوم أن يرتقي إلى الحقيقة المطلقة إن هو اعتمد على ما سبق واعتبرته منظمة اليونسكو “ما خضع للحس والتجربة” “فلم تستطع أن تقدم أطرا ووسائل تربوية إنسانية هادفة” تجعل من الإنسان المعاصر مقوما، بمنهج قويم، يسدد خطاه ومنهج تعامله مع المستجدات المعاصرة في شتى المجالات، وقد أخذ التوحيد أهمية كبرى عند الدكتور العلواني، فاعتبره “غاية التزكية وهدفها ووسيلتها في الوقت ذاته”.

المطلب الثالث: العمران:
والعمران هو “الفهم المنشود لخطاب الله سبحانه وتعالى المتعلق بأفعال الناس الذين توجه الخطاب إليهم”، وفي ذات السياق يقول الدكتور ملكاوي أن العمران “قيمة تحدد فقه العمل في الحياة الدنيا”، ويضيف الدكتور مسفر بن علي القحطاني أن “علم العمران البشري من العلوم الإنسانية التي أدت إلى نقلة نوعية من كتابة التاريخ” ويبين الدكتور ملكاوي حقيقة فقه العمران حين حققه المسلمون في حياتهم بكل جوانبها تحقق لهم بذلك “العلم بينهم ففتح الله عليم بركات من السماء والأرض” ولما غفلوا عن ضبطه “انهار سلطانهم وخر عمرانهم وسلط عليهم عدوهم”.

المبحث الأول: مسألة النسخ
كان القول بالنسخ البداية الأولى، التي شكلت العائق الكبير أمام المفسرين، ومحطة الوضع لتسفير القرآن المجيد بأحاديث، التي لا تنتسب ولا تتوافق مع المنهج القرآني، ولا المنهج النبوي في الصياغة البلاغية والجمالية الفكرية، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن المفسرين فسروا القرآن المجيد، بما تهوى أنفسهم ففريقا، فسروها بما تقتضي الحاجة لنصرة المذهب، وفريقا، ثقل كاهل القرآن المجيد، بدلالات لا يعبر عنها منهجيا المحدد المنهاجي للقرآن المجيد، فالحق أن الروايات التي فسر به الرسول صلے الله عليه وسلم ، القرآن المجيد، نلمس فيها بعدا دلاليا وفق جوامع الكلم، وكذلك الإعجاز الجمالي من جل النواحي، ويقول الدكتور العلواني في هذا “وقد تبع المفسرون اللغويون حتى صار هذا المعنى البعيد مشهورا ليخرجوا عليه بعد ذلك خرافة الغرانيق العلى التي زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قرأ بها وهو يتلو قوله تعالى: { َأفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(20)}.
يرى أبو قاسم حاج حمد أن “العلم القرآني يتطلب “قاموسا <ألسنيا معرفيا> يستند في تحديد دلالات ألفاظ القرآن المنهجية والمعرفية إلى نظرية (العائد) المعرفي أ المرجع أو الوسيط” ويصيف حاج حمد، في ذات السياق معبرا بأن لغة القرآن لغة، تنحوا “في دلالات المفاهيم إلى الضبط والمنهجية على غير ما هو شائع سائد في ذهنية العائد المتصور” إذن من هنا يبني حاج حمد أن ” الدلالة المفهومية لكلمة<النسخ> في القرآن قد حرفت نتيجة الدلالة العربية الذهنية في مرحلة عصر التدوين لتكون نسخا لآيات القرآن بعضها بعضا في حين أن النسخ في القرآن يعني استبدال حالة تاريخية أو عقلية بحالة أخرى مغايرة وليس إبطال الآيات أو اسقاط لها”

المبحث الثاني: مسألة الردة
لقد عبر الإسلام عن حرية الإعتقاد والتدين، الوجداني لأفراد والجماعات، والقرآن المجيد باعتباره المنهج الحق، والحقيقة المطلقة في تحقيق الوجود، الذي أحاط علما بالحرية في كل المجالات ، وفي الإعتقاد كذلك، فقد أعلنها بكل وضوح، وضوح القمر في النهار،<لا إكراه في الدين> فالإسلام قد يهن على شريعة الإصر والأغلال، بأن تفح الحرية الفكرية والعقدية للمكلفين، وينبلج لنا مع الدكتور العلواني أن من بين أهم أنواع الحرية التي تكفل القرآن المبين، بحفظها “وحض على الحفاظ عليها حرية الإعتقاد” وقد بينت السيرة النبوية أن الرسول صلے الله عليه وسلم ما قتل مرتدا مع علمه بهم، وكان يعلم ما تحيك أنفسهم، وما تخفي دون ما تعلن، أليس الله تعالى يخبره؟! وهذا ما يؤكده الدكتور العلواني أنه لا يوجد “دليل فعلي يدل على أن رسول الله صلے الله عليه وسلم قتل أحدا بالردة طيلة حياته الشريفة”.
ويتضح لنا أن حكم الردة، ينافي كل النفي ويعارض الأسس المنهجية للإجتهاد والتجديد، التي حددها الدكتور العلواني المتمثلة في الجمع بين القراءتين، والوحدة البنائية للقرآن المجيد، ومنظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمران، فالقول بالنسخ أدى إلى ظهور ما أصبح يعرف في الفقه الإسلامي بحكم الردة، فكما بينا أن الإمام الشافعي قاس المشرك على المرتد، ولم يستند إلى دليل شرعي قوي يثبت وجهة نظره، كما أن موقف الدكتور العلواني من أنه لا نسخ ولا دليل في القرآن المجيد يثبته، الشيء الذي أدى إلى القول بالردة، في الفكر الإسلامي، فجعله غير شامل وممثل للمنهج الإسلامي، وقد سد باب الإجتهاد، الذي جر وأصاب الأمة ما أصابها، من بلاء وويلات من التبعية والتخلف والتقهقر، إضافة إلى الموروث الذي ورته جيل القرن الرابع، الخيرية في القرون الثلاثة فقط.

خاتمة
بعد الفراغ من البحث في الأسس المنهجية للإجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر وتطبيقاتها في التراث عند الدكتور طه جابر العلواني، في مسألتي النسخ والردة، نخلص إلى مجموعة من النقط تمثلت في:
أن الجمع بين القراءتين المتمثلة في القرآن المجيد ببعده المنهجي والدلالي على ذاته، والكون الشاسع، المقصودان بالجمع بينهما، كون كل واحد منهما في أمس الحاجة إلى الآخر، بغية إدراك الحقيقة المطلقة للقران المجيد، وذلك عن طريق محددات منهجية تندرج ضمن الوحدة البنائية، والتوحيد والتزكية والعمران.
الوحدة البنائية للقرآن المجيد لا بد وأن نتخذ خطوات منهجية من أجل أن نستبينها في القرآن المجيد بربط الآي مع ذاتها، دون القول العضين، بأن كل آية لها مدلولها الخاص تستقل به، وأن السياق بالوقف ينتهي المعنى، وكذلك بربط السور بعضها ببعض، فهي كالسلسلة الواحدة، إن انكسر عقد واحد، تلاشت كل العقد، وأفقد العقد جماله ورونقه.
التوحيد المراد به ببعده المنهجي الذي رسمه له القرآن المجيد، بإفراد الوحدانية لله تعالي، خالصة من كل شائبة تزحزح استقراره الذاتي في نفوس المكلفين، فهو الجوهر والمدخل من أجل تزكية الإنسان المكلف لأداء العمران بالإستخلاف.
نظرية النسخ في القران المجيد، من المسائل التي تحجب، بل هي ضباب أسود أمام تحقيق المقاصد العليا الحاكمة للقرآن المجيد، الداعية -مسألة النسخ- إلى أن القرآن المجيد قد نسي بعضه وذهب بعضه، والبعض الآخر أكلته الدواجن، فمنهجية الأسس المنهجية لا تقبل ما نقل من روايات عن النسخ، وأن آي القرآن المجيد حين أورد كلمة النسخ فقد ربطها بما سقها من القول الكريم المنبلج فيما قبله، أن الله تعالى نسخ الشرائع السابقة، أي شريعة الإصر والأغلال وان الله تعالى لم يكن ليذر القرآن المجيد بين يدي الناس، تتلاعب به أهوائهم، كما كان من قبل.
إن حد الردة قد نشأ من خلال الفهم الخاطئ للقرآن المجيد والسنه النبوية الشريفة، إذ أن القرآن المجيد لم يحكم بقتل المرتد عن دينه، ولا دل عليه بدليل قطعي يوجب العمل به في تحقيق الحكم المراد، وفي السيرة النبوية الشريفة لم يثبت أن النبي صلے الله عليه وسلم لم يقتل مرتدا كان من كان، فقد كان يعلم ما تخفي أنفس الناس، وأن الدليل الإستقرائي الذي أنتج عنه الفقهاء هذا الحكم، حديث يعتبر من الأحاديث المرسلة، فمن المعضلات التي تُنشأ الفهم الخاطئ، عدم الإحاطة بأسباب النزول في القرآن المجيد، وأسباب الورود في الحديث النبوي الشريف، وفوق كل ذي علم عليم..

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.