التعوّد على فعل الشيء وتلقيه مُسُلَّما، لا يعني دائما أنه لا خلاف فيه

عبد السلام أجرير
2016-02-07T18:43:24+01:00
غير مصنف
عبد السلام أجرير25 أغسطس 2014آخر تحديث : الأحد 7 فبراير 2016 - 6:43 مساءً
التعوّد على فعل الشيء وتلقيه مُسُلَّما، لا يعني دائما أنه لا خلاف فيه
أجرير عبد السلام
أجرير عبد السلام

من شدة تكرار بعض الأشياء أمامنا وتلقينا لـها جاهزة من مجتمعنا وثقافتنا، أصبحنا نسلم بها على أنها الحق الوحيد الذي لا نقاش فيه ولا خلاف، فنقتنع بصحتها وأنه لا خلاف فيها بدون البحث فيها وفي حقيقتها، فعندما نسمع ما يخالفها ومن ينتقدها ويدافعها… ننتفض لها انتفاضة شعواء دون التريث والرجوع إلى التحقق والتحقيق… وكل أمر عند التحقيق فيه يقل الخصام والعتاب عليه، ويظهر العلم والحلم في النقاش حوله. للأسف هذا حالنا في كثير من الأمور.

وأقتصر هنا على أمثلة متعلقة بأحكام فقهية شرعية منتشرة في مجتمعنا:
1- في مسألة السدل (إرسال اليدين وعدم قبضهما) في الصلاة:
جلنا ينكره نكران المنكر، مع أنه عند التحقيق نجد أن له أصلا وأثرا وسلفا. وإن كانت أدلة القبض أقوى طبعا في الحجية. لكن لا يُنكر السدل بصفة يقينية كما تُنكر البدع. وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله تعالى السدل، وهو الذي جاء في كتابه “المدونة” التي رواها عنه تلميذه ابن القاسم، وهي مقدمة على كتابه “الموطأ” الذي رواه عنه يحيى بن يحيى الليثي عند الاختلاف. وصحت بالسدل الآثار عن بعض السلف في المدينة وغيرها.
حتى إن إمام السنة وحافظها الإمام العلامة ابن عبد البر المالكي لما تكلم عن أفعال الصلاة قال: «ووضع اليمنى منهما على اليسرى أو إرسالهما كل ذلك سنة في الصلاة»(1). مع أنه رحمه الله يقدم القبض على السدل طبعا، كما حققه في كتابه “التمهيد” وغيره، لكنه لم يُنكر على من سدل، وهكذا كان علماؤنا رحمهم الله تعالى.
2- في تعليق الحروز والتمائم:
كثير منا يظن أن أي تميمة لا يجوز تعليقها على الإنسان؛ بل لفظ التميمة نفسها أصبحت مرادفة للشعوذة والسحر… مع أنه ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعلقون تمائم فيها القرآن الكريم وأدعية صالحة على أبنائهم…
والأصل فيه الحديث الحسن الذي رواه غير واحد من أهل الحديث «عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لن تضره”. فكان عبد الله بن عمرو، يلقنها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك ثم علقها في عنقه»(2).
يقول حجة الدين الإمام مالك الصغير ابن أبي زيد القيرواني في “الرسالة”:
«وَالرُّقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ، وَلَا بَأْسَ بِالْمَعَاذَةِ تُعَلَّقُ وَفِيهَا الْقُرْآن»(3). قال الشارح للرسالة الإمام العلامة النفراوي المالكي في كتابه “الفواكه الدواني”:
)»وَلَا بَأْسَ بِالْمَعَاذَةِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ التَّمِيمَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْحَرَزَةِ (تُعَلَّقُ) فِي عُنُقِ الشَّخْصِ أَوْ ذِرَاعِهِ. (وَفِيهَا) بَعْضُ أَسْمَاءٍ وَشَيْءٌ مِنْ )الْقُرْآنِ) وَرُبَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ. وَيَجُوزُ حَمْلُهَا وَلَوْ كَانَ الْحَامِلُ لَهَا حَائِضًا أَوْ جُنُبًا وَلَوْ كَثِيرٌ مَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَتْ مَسْتُورَةً، وَأَمَّا بِغَيْرِ سَاتِرٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ قِلَّةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ كَالْآيَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ حَيْثُ كَانَتْ بِسَاتِرٍ يَقِيهَا مِنْ وُصُولِ الْأَذَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَحِرْزٌ بِسَاتِرٍ وَإِنْ لِحَائِضٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَلَوْ كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً، وَلَا يَنْبَغِي تَعْلِيقُهَا مِنْ غَيْرِ سَاتِرٍ إلَّا مَعَ قِلَّةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَا وَكَانَ الْحَامِلُ لَهَا مُسْلِمًا«(4).
3- في الاستمناء:
يكاد يظن الناس أن الاستمناء (العادة السرية) كبيرة، مع أن الاستمناء صغيرة من الصغائر، نعم هو عمل محرم خبيث لا يليق بالصالحين، لكن لا يصل إلى درجة الكبيرة كالزنا. ثم إنه يُشرع فعله في حالات الاضطرار والحرج، عكس الزنا الذي لا يُشرع فعله بأي حال من الأحوال. وقد ثبت فعله من قبل بعض الصحابة في الجهاد ونحوه حيث كانوا بعيدين عن نسائهم وإيمائهم.
وكان سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لا يرى به بأسا، وكان ينكر على من يحرمه. فقد روى الإمام عبد الرزاق في مصنفه في باب “الاستمناء” «عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: إِنِّي أَعْبَثُ بِذَكَرِي حَتَّى أُنْزِلَ؟ قَالَ: “إِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ خَيْرٌ مِنْهُ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الزِّنَا”».
وفي الباب نفسه يروي «عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: “هُوَ مَاؤُكَ فَأَهْرِقْهُ”».
وفي الباب نفسه روى «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: “وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَعْرُكَ أَحَدُكُمْ زُبَّهُ حَتَّى يُنْزِلَ مَاءً”»(5).
وكذلك قد اشتهر عن سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه رغم جلالة قدره وورعه… جواز الاستمناء مطلقا، وقد كان يراه من فُضْلة من فضلات الجسد التي يجوز التخلص منها…
ولكنّا لا نذهب مذهب ابن عباس وأحمد رضي الله عنهما ولا نفتي به، بل نذهب مذهب الجمهور في تحريم الاستمناء لغير الضرورة، وحرمته ثبتت بنصوص كثيرة، وإنما هدفنا من هذا الكلام تبيان أن هذا الأمر ليس كما يظن كثير الناس أنه لا خلاف فيه أبدا، فحتى إذا ما سمع أحدنا من المخالف قولا مخالفا لا يتفاجأ ولا يتصادم.
4- في رفع اليدين في الدعاء في غير صلاة الاستسقاء:
قد ذهب كثير من العلماء إلى جواز رفع اليدين في الدعاء في جميع أنواع الدعاء وليس ذلك خاص في الاستسقاء فقط، لكن التيار الغالب على تديننا الآن هو ذاك الذي يقصره على الاستسقاء ونحوه لظواهر النصوص، فظن الناس أنه الحق الوحيد الذي لا نقاش فيه، وأصبحنا نرى من ينكر رفع اليدين في الدعاء نكران المنكر.
قال الإمام النفراوي المالكي في كتابه “الفواكه الدواني” وهو يذكر آداب الدعاء «واختُلف هل يرفع يديه عند الدعاء أو لا ؟ وعلى الرفع فهل يمسح وجهه بهما عقبه أم لا؟ والذي في الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه”، فيفيد أنه كان يرفعهما ويمسح بهما وجهه»(6).
خاتمة:
هذا غيض من فيض، والأمثلة كثيرة جدا على هذه الأمور التي تعودناها وتلقيناها مسلمة فلم نستسغ فيها الخلاف، مع أن الخلاف فيها وجيه وشهير عند العلماء.
فلذلك لا بدّ من التريث والرجوع إلى التحقيق والتحقق عند سماع كل قول مخالف، ولا نكتفي بمجرد الدفاع والنكير والنكران والتبديع… لأن هذا ليس من منهج العلمية في الخطاب ولا منهج العلماء.
والله تعالى الهادي إلى الصواب.

ـــــــــــــ هامش الإحالات ــــــــــــــ
(1) كتاب “الكافي في فقه أهل المدينة”، (1/206).
(2) رواه الإمام الترمذي في سننه وقال فيه: «هذا حديث حسن غريب».
(3) كتاب “الرسالة”، (1/166).
(4) كتاب “الفواكه الدواني” (2/340).
(5) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، باب الاستمناء.
(6) “الفواكه الدواني”، (2/330).

{jathumbnail off}

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.