وبشريعة رحمة للخلق أجمعين..(3)

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس20 ديسمبر 2021آخر تحديث : الإثنين 20 ديسمبر 2021 - 7:37 صباحًا
وبشريعة رحمة للخلق أجمعين..(3)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
متابعة لموضوع (رسول عربي أمي.. برسالة ودين عالمي.. وبشريعة رحمة للخلق أجمعين) الذي كتبت فيه مقالين، فهذا المقال عن الرحمة في الشريعة الإسلامية، سوف يكتب في أربع مقالات لسعة الموضوع وأهميته.

3-1 مقدمة.
3-2 خصائص الشريعة الإسلاميّة.
3-3 تجلي الرحمة في الأحكام الشرعية.
3-4 شبهات حول الشريعة.

(3-1) ـ مقدمة:

إن الإسلام دين ودولة، حكم وشريعة، منهج ورسالة، وهو وحدة متماسكة ونظام كامل متكامل، تترابط أجزاؤه وتساند وتؤيد أنظمته بعضها بعضا، وتهيئ قوانينه جوانب الحياة للفكرة الكلية الشاملة.

فالعبادات (التوحيد) تمهد للأخلاق(التزكية)، والأخلاق تهيئ للتشريع، والتشريع يمكن للدولة، والدولة تيسر الحياة للعبادة والأخلاق والتشريع(العمران). فالإسلام ليس قانونا وتشريعا وحكما وعبادة فحسب، إنه لأفقٌ للأخلاق ورسالة للروح، ودعوة للخير والحب والإخاء والتعاون. (1)

…والإسلام كدين عام للناس كافة، وكعقيدة ارتضاها الله ختاما لرسالاته، حينما جاءت أنظمته وشرائعه، إنما جاءت كليات عامة تصوغُ روحَ الأشياء، وتُبدع ناموسها، وتترك للناس التطبيق بما يلائم حياتهم، ويحقق مصالحهم، ويكفل سعادتهم وقوتهم، وتنطلق عقولهم حرة لتتجول في مرونة وسماحة مُجتهدة مُبتدعة مُنظمة مُتطورة…. فكل كلية في التشريع الإسلامي خلية عامرة بالحياة المتجددة، التي ترسم الأفق الأعلى للروح الإسلامي، ثم تترك للمشرع التفصيل والتقنين، والمطابقة بينها وبين واقع الحياة، ومقتضيات العرف، وملابسات الزمان والمكان… (2)

.. فتعاليم الإسلام (أحكامه وشرائعه) تشتمل على ما يختص بمناحي الحياة كلّها؛ لأن الدين في تعريف الإسلام هي صناعة الحياة وتحريك التاريخ في الزمان والمكان. ومهمته الخلافة التي أراد الله للإنسان أن يتولاها، تختص في جزئها الأكبر بإقامة الحياة الاجتماعية، وتنظيم المعاملات فيها وفق أحكام الله، وهذه لا تقتصر على شؤون الأسرة، وإنما تتناول أحكام التعامل المالي والاقتصادي، وشؤون الدولة والإدارة الحكومية، وأحكام القضاء وقوانين تحقيق العدل، وكلها أحكام تتعلق بالواقع الاجتماعي. أما قضايا العبادات والأخلاق الفردية فلا تشكل إلا الجزء اليسير من تشريعات الإسلام، فضلاً عن أنّ كثيراً من أحكام العبادات هي اجتماعية بطبيعتها مثل الحج والزكاة، وبعضها
اجتماعية في تأثيرها مثل الصلاة والصوم… {} (3)

ومصطلح الشريعة الإسلامية مفهوم شامل للمنهج الرباني السليم، فهو السبيل والطريق الأقوم الذي اختاره الله عز وجل لعباده للعيش الكريم، وقد أراد سبحانه للشريعة الإسلامية أن تكون آخر الشرائع وأكملها، ولذلك جاءت على شكل يضمن لها البقاء والاستمرار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فهدف الشريعة الإسلامية يشمل ما هو مادي وما هو روحي، فهي شريعة معتدلة، توازن بين الجانب الروحي والمادي للإنسان، وقد قال الله عز وجل:( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (القصص: 77)

كما أنها تهتم بالسلوك الداخلي للإنسان، أي ما يلج بداخل الإنسان من أحاسيس ونوايا، وتهتم كذلك بالسلوك الخارجي أي بكل ما يأتيه الإنسان من أعمال وأفعال ملموسة.

والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وهو المعجزة الربانية البيانية الخالدة الذي سحر العقول ببديع نظمه، وروعة بيانه، ودقة تصويره، وأُعجب بجمال الفاظه وتعابيره. وقد استغرق تنزيل القرآن الكريم 23 سنة، نزل بعضه في مكة المكرمة خلال 13سنة، وبعضه الآخر في المدينة المنورة خلال 10سنوات.

وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الآيات المنزلة في مكة تسعى إلى تبيان أسس العقيدة الإسلامية، وكذلك إلى توحيد الله سبحانه والإيمان به وبملائكته وبرسله واليوم الأخر. أما باقي النصوص القرآنية المنزلة في المدينة فقد كانت تتضمن مجموعة من الأحكام والمبادئ التي تنظم الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية داخل المجتمع، وكذلك بتنظيم الدولة والمجتمع، والعلاقات بين المسلمين فيما بينهم، وبينهم وبين غيرهم. فهو كتاب يخاطب الناس أجمعين ولا يفرق بين الغني والفقير أو القوي والضعيف. وهو شريعة ودستور للناس أجمعين بغض النظر عن اختلافاتهم (الدينية والعرقية واللغوية.)، يقول عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات:13). وكما يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدوره في هذا الصدد: “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”. (مسند الإمام أحمد).

“فشرع الله واحد بالنسبة لجميع البشر، لأن مصدره واحد من عند الله تعالى. وتماما كما أن الله واحد أحد، ورب كل المخلوقات بما فيها كل بني الإنسان بالقطع، فإن شرعه واحد بالنسبة للجميع على حد سواء. ولا موضع في ظل هذا الشرع لمحاباة الله لأحد، ولا لاستثناء أحد من الخضوع له”. (3)

ومنذ اليوم الأول فهم المسلمون أن رسالة نيبهم تنطوي على دين وتشريع. أما الدين فهو العبادات التي أمر الله بها وافترضها على عباده، وهي خالصة له جل جلاله، ولا مجال للعقول فيها. وأما التشريع فقد جاء أولا وقبل كل شيء لخير الناس وسعادتهم وتنظيم حياتهم، وإقامة نهجها على أقوم السبل… وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه طوال حياته كيف يجتهدون في دينهم، وكيف يدورون بأحكامه مع المصالح العامة. وقد واجه المسلمون في فجر حياتهم مشاكل كبيرة في فهم التشريع وفي تطبيقاته على واقع حياتهم، فكان يشجعهم على حرية التفكير والاجتهاد، ويملأ قلوبهم ثقة وطمأنينة عند الخوف من الخطأ مع الاجتهاد، فللمجتهد المصيب أجرين وللمخطئ أجر. (الحديث).

لكنهم استطاعوا بالفهم العالي لروح الإسلام وعلمهم بالقرآن والسنة أن يدوروا بالأحكام مع المصلحة العامة في سماحة ويسر، كانتا السر الأكبر في قوة العالم الإسلامي، التي انبثقت في سرعة فُجائية مُذهلة، فطوفت راياتها حول العالم في فتوحات عالمية تاريخية. وعلى هذه الحرية المطلقة، والسماحة المشرقة، والاجتهاد الكريم الواسع الآفاق، قامت حياة المسلمين مند فجرهم الأول…. وتشربت نفوسهم الحرة مبادئ الإسلام، فكانوا يختلفون في فهمهم للقضايا، وفي فهمهم للأحداث، ولكنه اختلاف الأحرار، لا يعرفون لجاجة ولا خصومة، ولا يتنابزون بالألقاب، ولا يتراشقون بالتهم، ولا يفكرون في أن يحجروا رأيا أو يقيدوا فكراً… (4)

روى الطبراني” أن عمر بن الخطاب-وهو الخليفة-لقي رجلا له قضية فسأله: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال عمر: لو كنت أنا لقضيت كذا. فقال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك. فأجابه عمر: لو كنت أردتك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسوله لفعلت، ولكني أردتك رأي والرأي مشترك”. فأي سماحة من أمير المؤمنين، وأي فهم لحرية الرأي والفكر وأي تقديس لها”.

لقد جاء التشريع الإسلامي تشريعا أصيلا يحترم العقول احترامه للمنطق، ويدير أحكامه على العلة القائمة. فاكتسب المرونة التي تجعله تشريعا خالداً نامياً رابيا، لا يقف ولا يجمد عندما تنبثق في وجهه الأقضية والمسائل الطارئة.

ومبادئ تلك الشريعة على مستويين: مبادئ معيارية لا زمانية ولا مكانية عامة ثابتة، ومبادئ إرشادية توجيهية عامة قابلة للتكيف مع معطيات الزمان والمكان. (5)

فتاج هذا التشريع…تاجه المتلألئ في جلال وسموق، محوره الأكبر يرتكز على حرية العقل واجتهاداته، فقد جاء بالكليات الكبرى ورسم الخطوط العليا، وترك لأتباعه أن يجيلوا عقولهم في تطبيق تلك الكليات، وأن يفصلوا جزئياتها تبعا لمقتضيات حياتهم واختلاف بيئاتهم وأزمانهم ومصالحهم.

..وأحكام الشريعة تراعي الزمان والمكان عند تطبيقها، وتتطور صور تطبيقها مع المستجدات، وثمة قواعد أصولية تفتح المجال للتجديد والاجتهاد في الوقائع الحادثة، التي تسمح بالقول إن الشريعة صالحه لكل زمان ومكان. وهذا ما جعل الإسلام يتصف بالحيوية التي تعطي لأتباعه مفاتيح لكل ما يجدونه مقفلاً أمامهم، والناس هم الذين يستخدمون هذه المفاتيح فينطلقوا في الآفاق أو يختاروا البقاء في سجون العجز والتخلف… (6)

إن الشريعة ضمت تحت جوانحها حقائق حفظت مصالح كل العصور والأجيال، ومكنت المجتهد في كل عصر أن ينتزع -لأي حادثة تُعرض-حُكما يلائم مصلحتها. فالشريعة أقامت دعائم كلية، وينبني على كل دعامة منها أصول وأحكام يستخرجها العارف بطبيعة النوازل، القائم بمقصد الشارع في أمثالها، ومن هذه الدعائم قولهم” الضرر يزال”، ومنها” المشقة تجلب التيسير”… وقد استطاع المشرعون (الفقهاء والأصوليون) في شتى العصور أن يجدوا في الشريعة لكل نازلة حكما، إن لم يكن هناك النص المحدد، أو يتصرفوا في النصوص على وجه الحق والعدل والمصلحة العامة.

يقول الإمام الشاطبي:” إننا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، فأحكام المعاملات تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان مصلحة جاز. “(7)

ومن وفاء الإسلام بحق المصالح أن جعل للعرف والعادة مكانة في تفاصيل الأحكام، فإن من الأحكام ما يبنيه الشارع على رعاية حال مستمرة وسبب لا ينقطع، فيتعين العمل به في كل زمان ومكان، كالمنع من الربا، ومنها ما يبنيه على رعاية أحوال تتغير وعوائد تتجدد، وهذا النوع من الأحكام لا يلزم اطراده في كل عصر ولا إجراءه بكل موطن، بل يجري العمل فيه على ما يقتضي العرف السائد بين الناس. (8)

..فشريعة(الرحمن) كائن حي، دائم النماء لا يقف ولا يجمد، لأن الوقوف عن الحركة سنة الأموات، والجمود طبيعة العاجزين… وشريعة الله لا ضرر فيها ولا ضرار، ولا ضيق ولا عسر، فقد جاءت لتكون عدل الله بين عباده، ولتكون خيراً ويسراً للناس كافة، ولهذا فهي تدور على قاعد مرنة تبعا لمصلحة الأمة، فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله، وحيثما وجد الضرر وثَبتْ قواعد التشريع الإسلامية المرنة العالمية فوق الزمان والمكان لتجد لها في سد الذرائع أو المصالح المرسلة ما ينقذها من هذا الضرر، وما يفتح لها من الرحمة أبواباً وأبوابا… (9)

إن هدف الشارع الأكبر هو العدل، فإذا ظهرت أماراته وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، وأي طريق وأي منهج أدى إلى القسط والصراط المستقيم فهو دين الله وشرعه. فهدف الشريعة إقامة العدل بين الناس، والعدل خير ورحمة، ولا يتفق العدل مع الضرر والضيق، وهذا هو الميزان الذي أُنزل مع الكتب السماوية…الميزان الذي يجب أن يمشي جنبا إلى جنب مع شرائع الله.

يقول ابن القيم في أعلام الموقعين: “…فإن الشريعة مَبْناها وأساسَها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكَمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلَت فيها بالتأويل.

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتَمَّ دلالة وأصدَقَها، وهي نوره الذي أبصر به المُبصرون، وهُداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل…وهي العصمة للناس، وقوام العالم، وبه يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا.”(10)

هذا هو التشريع الذي يوجه الحياة ومصالحها، ويحكم في قضايا الناس وشؤونهم، ويمشي معهم فيما يضطربون فيه ويتعاملون، فمن حق الناس أن يكون لعقولهم فيه مجال وتفصيل وبيان، ومن سنن الخلود والبقاء أن يكون مرنا متطورا مع المد الحضاري والخطو البشري.

هذا هو التشريع الذي وضع عنهم الإصر والأغلال والشدة التي فرضت في التشريعات السابقة، (الإصر: الأمر الغليظ؛ والأغلال: هي القيود). فكانت الرحمة في التشريع الإسلامي أن جُعل الأصل في كل شيء الإباحة الإلهية لا التحريم. قال تعالى في محكم التنزيل:( وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه…). (الجاثية:13). يُتبــــــع.
كتبه: عبد الرزاق سماح، كاتب في الفكر والحركات الإسلامية
ــــــــــــــــ
طه عبد الباقي سرور، دولة القرآن، ص 57-62، بتصرف.
(2) مصدر سابق، ص75-138، بتصرف.
{} إذا أضفنا إلى المعاملات، الأحكام المتعلقة بالدولة والأسرة والسلطة القضائية والحدود المتعلقة بذات الدرجة بالشأن الاجتماعي. فإنه سيتبين لنا أن كل أحكام الشريعة الإسلامية، عدا عدد يسير منها خاص بالشعائر والشؤون الخاصة، أحكام منظمة للشؤون الاجتماعية العامة.
(3) د. فتحي حسن ملكاوي، منظومة القيم العليا: التوحيد والتزكية والعمران، ص 54.
(4) دولة القرآن، ص 149-168، بتصرف. (5) د. راجي الفاروقي، التوحيد مضامينه على الفكر والحياة، ص 12.
(6) التوحيد والتزكية والعمران، ص 60-61. (7) الشاطبي، الموافقات، ج1، ص305.
(8) دولة القرآن، ص 161-162، بتصرف. (9) دولة القرآن، ص 65-75، بتصرف.
(10) ابن القيم، أعلام الموقعين، ج3، ص 11-12.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.