جسور التفاهم: دور المساجد والفاعل المدني المغربي في نسيج ألمانيا ما بعد الهجرة

محمد عسيلة
آراء ومواقف
محمد عسيلة4 فبراير 2024آخر تحديث : الأحد 4 فبراير 2024 - 8:05 صباحًا
جسور التفاهم: دور المساجد والفاعل المدني المغربي في نسيج ألمانيا ما بعد الهجرة

* محمد عسيلة

في قلب ألمانيا، حيث تتشابك خيوط التاريخ والثقافة والدين، تلوح قصة تطور ديني وهوياتي معقدة ومتعددة ومتداخلة الأبعاد. منذ عهد الإصلاح البروتستانتي الذي شهده مارتن لوثر، ظلت الديانات البروتستانتية والكاثوليكية تشكل نسيج المجتمع الألماني، مخلفة إرثًا يتردد صداه حتى اليوم. ولكن مع تقدم العصور، استقبلت أرض ألمانيا في العقود الأخيرة موجات هجرة جديدة، مما عقد التركيبة المجتمعية وأغنى المشهد الثقافي والديني بألوان جديدة وتقاليد متنوعة، لعل أبرزها الإسلام الذي برز كثاني أكبر ديانة في البلاد، ما فتح بابًا لتحديات وفرص جديدة في التعايش والتفاهم وخلق كذلك توترات جديدة.

في هذا السياق، يبرز دور العلمانية كعنصر أساسي في الحياة الألمانية، حيث تسعى الدولة للفصل بين الدين والشؤون الحكومية، ولكن دون إغفال الدور الذي يلعبه الدين في الفضاء العام والخاص. وتتجلى التحديات الراهنة في كيفية مواجهة التوترات الدينية ودمج المهاجرين والحفاظ على القيم الأوروبية في مواجهة تنوع هوياتي وثقافي متزايد.

في هذه الرحلة المعقدة، تقف المؤسسات الدينية ومنها المساجد المغربية على خط المواجهة، متحملة مسؤولية كبيرة في تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الثقافات والديانات. قدرتها على التكيف والتجديد والترافع الجيد والرصين قد يحدد بشكل كبير ملامح المشهد الديني والهوياتي في ألمانيا للأجيال القادمة، مرسخة بذلك أسس التعايش السلمي والتفاهم المتبادل في مجتمع متنوع ومتغير.

وفي هذا السياق نرى أن أفكار يورغن هابرماس حول الفضاء العام مع التحولات الدينية والهوياتية الجارية في ألمانيا تتناغم بطريقة تكشف عن أبعاد جديدة للتعايش والحوار. في رؤية هابرماس، يعد الفضاء العام منصة حيوية للنقاش الديمقراطي والتفاعل الثقافي، حيث يمكن للأصوات المتعددة أن تجتمع وتتبادل الأفكار بحرية واحترام. في السياق الألماني، حيث يتشابك نسيج التنوع الديني والثقافي بشكل متزايد، تتجلى أهمية الفضاء العام كمجال للحوار بين الديانات والثقافات.

هذه الفكرة تجد صداها بشكل خاص عندما نفكر في التحديات الناجمة عن الهويات المتعددة والمتغيرة في ألمانيا. تتطلب المواجهة البناءة لهذه التحديات من المؤسسات الدينية اللاهوتية بشكل عام والمسلمة بشكل خاص أن تتخطى حدودها التقليدية وتشارك بنشاط في الحوار العام. بالتواصل مع المجتمع بشكل أوسع، يمكن لهذه المؤسسات أن تسهم في تشكيل فضاء عام يعزز التفاهم المتبادل ويدعم الاندماج الاجتماعي.

في هذا الإطار، تصبح المشاركة في الفضاء العام ليست مجرد ممارسة في التعبير عن الذات، بل هي أيضًا عملية تعلم متبادل. من خلال الاستماع والتفاعل مع وجهات النظر المختلفة، يمكن للمؤسسات الدينية وأتباعها أن يكتسبوا فهمًا أعمق للتعقيدات الثقافية والدينية للمجتمع الألماني. هذه العملية تسهم في تعزيز نسيج اجتماعي يحترم الاختلاف ويحتفي بالتنوع.

بالتالي، يمكن للمؤسسات الدينية اللاهوتية في ألمانيا، من خلال الانخراط الفعال في الفضاء العام وتبني مبادئ الحوار كما يرسمها هابرماس، أن تلعب دورًا رئيسيًا في معالجة الأزمة الهوياتية. هذه المشاركة ليست فقط وسيلة للدفاع عن القيم والمعتقدات الدينية، بل هي أيضًا فرصة لتعزيز التماسك الاجتماعي وبناء مجتمع أكثر شمولًا وتفهمًا.

وفي تأمل الوضع الحدودي الذي تصفه فلسفة كارل ياسبرز، نجد أنفسنا أمام مفترق طرق حيث تتكشف الأبعاد الأعمق للوجود الإنساني. ياسبرز يبرز كيف أن الأزمات الشخصية والجماعية تدفع الأفراد نحو استجواب الذات والبحث العميق عن المعنى. في السياق الألماني المعاصر، حيث التحديات الهوياتية تصطدم بالتنوع الثقافي والديني، تصبح هذه الأزمات فرصًا للمؤسسات الدينية لتوجيه البحث عن الهوية نحو فهم أكثر تعقيدًا وإثراءً للذات والآخر.

من جانب آخر، ترتكز الأفكار الأخلاقية للدكتور طه عبد الرحمن على القيم الإسلامية كأساس للتفكير الأخلاقي والتجديد الاجتماعي. في تناوله للأخلاقيات الإسلامية، يدعو الدكتور طه عبد الرحمن إلى إعادة النظر في العلاقة بين الأخلاق والقانون والمجتمع، مقترحًا بذلك نموذجًا يمكن أن يسهم في الحوار الديني والثقافي في ألمانيا. إن دمج الأخلاقيات الإسلامية في النقاش العام يمكن أن يعزز التفاهم المتبادل ويساهم في تشكيل مجتمع أكثر تماسكًا.

على صعيد متصل، يسلط علي شريعتي الضوء على العلاقة الجوهرية بين الدين والثقافة، مؤكدًا على أن الدين لا يمكن فصله عن السياق الثقافي والاجتماعي الذي ينبثق منه. في ألمانيا، حيث يشكل التنوع الثقافي والديني جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي، تصبح رؤية شريعتي مهمة لفهم كيف يمكن للمؤسسات الدينية اللاهوتية أن تسهم في تعزيز الحوار بين الثقافات والديانات المختلفة، مما يدعم بناء الهوية المشتركة والتفاهم العميق بين أفراد المجتمع.

أما المفكر تشارلز تايلور في تأمله حول العلمانية الشاملة، يقدم نموذجًا يعترف بأهمية التنوع الديني والثقافي داخل المجتمع العلماني. تايلور يدعو إلى علمانية تحترم التعددية الدينية وتسمح بمشاركة الأصوات الدينية في الفضاء العام. في ألمانيا، يمكن أن تسهم هذه العلمانية الشاملة في إرساء أسس لمجتمع يتسم بالتنوع والشمولية، حيث يمكن للأفراد من مختلف الخلفيات الدينية والثقافية أن يشعروا بالانتماء والتقدير. يمكن للمؤسسات الدينية، من خلال الانخراط في هذا النموذج، أن تلعب دورًا حيويًا في تعزيز الحوار والتفاهم بين المجتمعات المتنوعة، مما يدعم الاندماج الاجتماعي ويقوي النسيج المجتمعي.

إن تبني مثل هذه المقاربات يتطلب من المؤسسات الدينية في ألمانيا أن تتجاوز الأطر التقليدية وأن تشارك بنشاط في صياغة مفاهيم جديدة للمجتمع والهوية. من خلال الجمع بين الحكمة القديمة والتحديات المعاصرة، يمكن لهذه المؤسسات أن تسهم في بناء جسور التفاهم والتعايش السلمي، مما يعزز التماسك الاجتماعي ويشكل مستقبلًا مشتركًا يتسم بالتنوع والاحترام المتبادل.

كما ان المفكر سيد حسين نصر، بوصفه مفكرًا إسلاميًا بارزًا، يقدم تحليلًا نقديًا للمفاضلة بين التقليدية والحداثة، مسلطًا الضوء على التحديات والفرص التي تطرحها هذه الديناميكية في السياق الألماني المعاصر. نصر يؤكد على أهمية الحفاظ على الجوهر التقليدي للإسلام في مواجهة التيارات الحداثية المتسارعة، مقترحًا بذلك نهجًا يجمع بين الاحتفاظ بالأسس الروحية والأخلاقية للتقاليد الدينية والانفتاح في الوقت نفسه على التحولات الاجتماعية والثقافية المعاصرة.

في البيئة الألمانية، حيث يتقاطع التنوع الديني مع مسار الحداثة، تصبح رؤية نصر محورية في تعزيز الحوار بين القيم التقليدية والمعاصرة. يمكن للمؤسسات الدينية اللاهوتية استلهام أفكار نصر لإيجاد توازن بين الالتزام بالتقاليد والاستجابة للمتطلبات الجديدة للمجتمع الألماني المتعدد الثقافات والأديان. هذا التوازن يتطلب من هذه المؤسسات أن تكون أكثر مرونة وتجددًا في تفسير التعاليم الدينية، مع الحفاظ على القيم الأساسية التي تعزز الهوية وتوفر إطارًا للمعنى والانتماء.

بالتالي، يمكن للمؤسسات الدينية في ألمانيا، من خلال الاسترشاد بأفكار نصر، أن تسهم في تشكيل حوار بنّاء يحترم الأبعاد التقليدية للدين وفي الوقت نفسه يستجيب للتحديات الأخلاقية والروحية التي تطرحها الحداثة. من خلال هذا النهج، يمكن تعزيز فهم متبادل أعمق وتعايش أكثر تناغمًا بين مختلف مكونات المجتمع الألماني، مما يدعم تكامل الهويات المتنوعة في نسيج واحد متماسك.

في ختام هذه الرؤية المعمقة للدور الذي تلعبه المساجد والفاعلين المدنيين في نسج تاريخ ألمانيا ما بعد الهجرة، من المهم تسليط الضوء على مساهمات الجمعيات المغربية والفاعلين المدنيين الآخرين في هذا السياق. يتميز التدين المغربي بمقاربته الفريدة التي تجمع بين الاحترام العميق للتقاليد والانفتاح على الحوار والتفاهم المتبادل، مما يجعله نموذجًا قيمًا في التعامل مع التعددية الثقافية والدينية والأزمات الهوياتية التي تواجه المجتمعات المعاصرة.

الجمعيات المغربية، بفضل ارتباطها الوثيق بالمجتمع وفهمها العميق للتحديات التي تواجه المهاجرين، تلعب دورًا حاسمًا في تعزيز الاندماج والتعايش السلمي. من خلال تنظيم الفعاليات الثقافية والحوارات الدينية والورش التعليمية، تساعد هذه الجمعيات على بناء جسور التفاهم بين المهاجرين والمجتمع الأوسع، مما يسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي والتفاهم المتبادل.

الفاعل المدني في ألمانيا، سواء كان ذلك ضمن الجالية المغربية أو الجماعات الأخرى، يمثل قوة دافعة للتغيير الإيجابي. من خلال العمل المجتمعي والمبادرات الشخصية، يمكن لهؤلاء الفاعلين تعزيز روح الانفتاح والحوار، مواجهة التحديات الهوياتية بمقاربات تعترف بالتنوع كثروة وليس كعائق.

إن التدين المغربي، بتأكيده على القيم الأخلاقية والروحية، يقدم رؤية تجددية تسهم في التعامل مع التحديات المعاصرة بروح من التفهم والتقبل. هذا النهج يمكن أن يكون مثالًا للمؤسسات الدينية الأخرى في ألمانيا، مشجعًا إياها على اتباع مسارات مماثلة للحوار والانخراط في الفضاء العام.

بناءً على هذا، يمكن للجمعيات المغربية والفاعلين المدنيين أن يلعبوا دورًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل ألمانيا متعدد الثقافات والأديان، مستقبل يستند إلى الاحترام المتبادل والتفاهم والتعايش السلمي. من خلال تعزيز هذه القيم، يمكن بناء مجتمع أكثر شمولًا وتنوعًا، حيث يجد كل فرد مكانًا وصوتًا في النسيج المعقد للمجتمع الألماني.

________

*أستاذ لمادة اللغة العربية والدين الاسلامي باللغة الالمانية – مسؤول على تكوينات أساتذة اللغات الاصلية بوزارة التعليم الولائية في ألمانيا ـ مستشار لدى نيابة التعليم في قضايا الجودة والتحصيل والمناهج

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.