العقلانية النقدية في الثقافة العربية: مقاربة تاريخية

ذ. حسن حلحول
2020-04-10T18:56:03+01:00
featuredآراء ومواقف
ذ. حسن حلحول10 أبريل 2020آخر تحديث : الجمعة 10 أبريل 2020 - 6:56 مساءً
العقلانية النقدية في الثقافة العربية: مقاربة تاريخية

الاستاذ حسن حلحول
مفهوم العقلانية النقدية
إن العقلانية النقدية هي عملية ذهنية يقوم بها المشتعل بها، كآلية منطقية، للتخلص من الاحكام المطلقة، الناتجة عن البدع العقلية الشائعة، سواء كانت هذه الشائعة في العلوم، أو في الفلسفة او في الفكر او في تأويل النصوص الدينية ، فهذه النصوص يكون فيها الإنسان سجينا في إطارها لا يقوى على التخلص منها.

إن العملية العقلانية النقدية تؤسس على مبدأين وهما النسبية والتحررية، باعتبارهما من القيم العظمى المبنية على قواعد العقل التي تجعل حدا لهذه الشائعات والأحكام المطلقة التي التصقت بهذه المجالات التي تؤدي إلى اجلها المحتوم، بيد أن نمو المعارف كيفما كانت تعتمد بالكلية على الاختلاف والخلاف في النظر إلى الاشياء، من خلال العقلانية النقدية الهادفة والبناءة.

وبالجملة إن العقلانية النقدية هي طريقة للتفكير تعتمد على إبداء مطلق الاستعداد للاستماع الى الادلة النقدية ومن خلالها البحث عن الاخطاء والتعلم منها، انطلاقا من القولة المشهورة لرائد العقلانية النقدية “كار بوبر” : “قد أكون أنا على خطأ وقد تكون انت على صواب، وببذل الجهد، قد نقترب اكثر من الحقيقة”، وبهذه المقولة يكون قد تم إبعاد إمكانية التأويل الدوغماطيقي، التي تفسح المجال للعقلانية النقدية للامتناهية.

يبدأ النقد العقلاني من بنية موروثة أساسية، يمكن تحديدها في ثلاث مستويات: بنية الشكل، بنية الموضوع، وبنية المفاهيم.

قد تتعرض هذه البنيات المتوارثة لقراءات ولتأويلات متعددة، أو لطرح إشكاليات متعددة، في الحالة التي تكون فيها العقلانية النقدية احكمت وأصابت في تحديد آليات الاختلاف بين الاشكاليات القديمة وبين الاشكاليات الجديدة، تكون في نفس الوقت فتحت آفاقا جديدة من ممارسة النقد العقلاني لاشكاليات غير متوقعة بشكل جدلي يعتمد على عنصر المحافظة على ما هو تقليدي و تاريخي لإستبعاد الخطأ بواسطة العقلانية النقدية التي أقامت الحجة ضدها.

والمقصود بها تلك المبادئ الأساسية والرئيسية، التي تتميز عن بعض التوجيهات النقدية، التي قد تكون بالفعل شروطا أولية للمناقشة، من قبيل الرغبة في الوصول إلى الصدق او الاقتراب منه، وهناك مقولة لافلاطون وهي عندما لا توجد أرضية مشتركة بين الذين يعتقدون هذا، والذين لا يعتقدون ، فمن منظور آرائهم لا بد بالضرورة أن يزدري كل فريق منهما الاخر”٠

وفي هذا السياق نسوق قصة تاريخية حكاها ابو التأريخ ” هيرودوت” في كتابه “التاريخ” والتي لها دلالة كبيرة وفيها عبرة عن لختلاف الناس في معتقداتهم، فقال: أن ملك الفرس (داريوس) كان يريد أن يلقن الاغريق درسا، فاستدعى الإغريق الذين لهم شأن ويقيمون في امبراطوريته، فكان من عادتهم حرق موتاهم، فسألهم الملك عن الثمن الذي يرضونه سيدفعه لهم، ويلتهمون موتاهم، فكان جوابهم لا شيء على وجه الأرض، يمكن أن يغريهم على فعل هذا.

فاستدعى الملك “الكالاتيين” الذين يأكلون موتاهم فسألهم بحضور الإغريق عن الثمن الذي يرضونه، لكي يحرقوا موتاهم فكان أن تعالى الصراخ في القاعة، وناشدوه أن لا يذكر هذه البشاعة، فبالرغم من تباين العادات فإن لا شيء يمكن أن يقنع هذا الطرف او الاخر، ولكن هذه المواجهة قد تترك تأثيرا عميقا، وأنهما تعلما شيئا جديدا يجعل كل طرف يطور مهاراته في طرح الأسئلة حول الموضوع كيفما كانت مقدسة، وبهذا تكون الاسئلة تولد الأسئلة إلى ما لا نهاية.

العقلانية النقدية عند ابن رشد
إن المدرسة العقلانية النقدية في الثقافة العربية، نجد لها أسسا واضحة المعالم في فلسفة ابن رشد، فابن رشد هو أول فيلسوف عربي استطاع أن يستعمل منهح العقلانية النقدية، لنقد الخطاب الديني (المتصوفة ، الفلاسفة، المتكلمة) في زمانه، محاولا عقلنة الدين وشرعنة الحكمة، وهذا ما نلمسه في مؤلفه “تهافت التهافت”، الذي تعرض فيه للنقد والتحليل من خلال كتاب “تهافت الفلاذذسفة” لأبي حامد الغزالى، الذي تناول فيه حقيقة الاختلاف الذي كان دائرا مع الفلاسفة خصوصا ابن سينا حول المقولات التالية: مسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة حشر الأجساد، ومسألة قدم العالم.

وكان ابن رشد قد تعرض للنقد العقلاني للمؤلف تهافت الفلاسفة، واعترض عليه وكلفه ذلك مخاصمة الغزالي وتخطاه، في هذه المسائل مستفيدا بالجدال الذي كان دائرا حولها، فأخذ يجتهد مستعملا العقلانية النقدية المبنية على المبادئ الرئيسية والأساسية في هذا المجال، فقام بالتحليل والتمحيص، والتعليل والتوجيه، واعتبر من رمى الحكماء بجحود علم الله للجزئيات، فإنه لم يفهم مراميهم، ولم يدرك أبعادهم، لأنهم لم يجحدوا في نظره علمه بها على الإطلاق وإنما جحدوا العلم الشبيه بعلم الحوادث أي العلم المعقول للموجودات، لا ما كان علة لها.

واعتبر ابن رشد ان قول الغزالي يدخل ضمن أعلى مراتب الجدل، ولم يصل إلى درجة البراهين، لأن مقوماته عامة قريبة من المشترك. فابن رشد يقسم خطاب الناس إلى ثلاثة: البرهانيون، هم أهل الاستدلال العقلي (الفلاسفة)، والجدليون الذين يجادلون من أجل الجدل لا إلى الوصول إلى الحقيقة (المتكلمة)، والخطابيون وهم عامة الناس ليس لهم رأي في هذه الامور.

أما فيما يخص مسألة قدم العالم فقد وجه ابن رشد للغزالي انتقاداعقلانيا، وذلك عندما سلك في بحثه مسلكا فلسفيا خاصا، فقدم العالم عنده لا يعني غير مخلوق بل المقصود منه أنه لم يخلق دفعة واحدة، لأن ذلك يفضي إلى القول بأنه كان مسبوقا بالعدم، وانما خلق خلقا مستمرا متجددا يدوم به رغم تغيره، فالخالق يفعل فعلا متصلا منذ الأزل، على أن صفة القدم بالنسبة إلى العالم ليست هي صفة القدم التي لله عزوجل. يكون بذلك قد ألغى مفهوم المرجح الذي معناه انه لم يكن للوجود مرجح، بل كان العالم ممكنا عنه إمكانا صرفا.

اما بخصوص مسألة بعث الأجساد، فإن ابن رشد لم يقل بحياة الروح بمعزل عن الجسد يوم القيامة، وإنما قال إن هذه الأجساد التي في هذه الحياة لن تعود ثانية، وأنه يعود في الحشر ما يشبهه، وتكون بذلك أجساد أخرى أكمل غير هذه الأجساد، باعتبار حياة الآخرة هي حياة الكاملة، وبالنسبة للغزالي فانه دافع عن القضايا الكلامية الديني الأشعرية، وهولاء تمسكوا بما جاء به القرآن الكريم فالبعث عنده روحا وجسدا كما هو.

ويستفاد من هذا أن العقلانية النقدية عند ابن رشد تقوم على حوار فلسفي أصيل يتمثل أساسا في عرض قضايا المتكلمين والفلاسفة في المشرق ونقدها نقدا منطقيا معتمدا على منظومة العلوم الطبيعية وارغانون االارسطي (القياس البرهان المقولات الجدل إلى آخره).

إن ابن رشد إرتأى انه من الواجب عقليا نقد وتقييم المنظومات العقيدية الدينية لسببين وهما الأول: التشديد على دور العقل في التقييم النقدي للاعتقادات الدينية، بدل المطالبة بالاثبات الحاسم لصدق المعتقدات الدينية.

ثانيا: بسبب نظرته الخاصة إلى العقل نفسه، فهو يؤكد دوما طرح النظريات الدينية المنافسة، لتقيس إيجابيات النظريات المنافسة لها مقارنة بنظيرتها ومن ثمة تعريضها لنقد خاص. فقد بين في كتابه “فصل المقال وتقريرما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” ذلك التميز الابستمولوجي والاجتماعي والسياسي بين العامة والخاصة، فهذه الثنائية عند ابن رشد لها معنى دقيق، لتمييز خطاب البرهاني للخاصة الذي يمارس فيه العقلانية النقدية للمعتقدات الدينية بشكل مستمر اللامتناهية للتأملات النقدية، وهو موجه لهذه الفئة التي تستوعب التأويل والنقد العقلاني، وخطاب الخطابي والشعري الجدالي الذي يناسب العامة وخاصة العامة. فانه يحرم تناول هذه المسائل أمامهم، لأن ليس كل ما سكت عنه الشرع من العلوم يجب أن يفصح عنه لجمهور الناس، فينبغي أن يسكت عن المعاني التي يتوصل إليها البرهانيون، ويعتبر عقول الناس مقصرة عن الخوض في هذه الامور الشائكة التي تتطلب الإلمام الواسع بأدوات التحليل البرهاني.

العقلانية النقدية المتطرفة
إن هذا التوجه النقدي الذي يركز على النقد الحقيقي للمعتقدات وللتراث الاسلامي بصفة عامة، لا يحكمون حكما قطعيا أبدا بانتهاء النقاش حولها إلى نتائج ختامية ولا يقولون بوجود أية ضمانة عقلية على صحة آرائهم، ويقابلها “النزعة الإيمانية المتطرفة” التي لا تتخذ من المعتقدات الدينية موضوعا لتقييمها وفحصها العقلاني.

وحسب الباحثين والمفكرين، فان هذه المدرسة الفكرية هي الأولى التي تكونت في المسيحية، ويعتقد أنصارها أن المسيحية لم تأت لإقناع عقول البشر ولا يمكن فهمها على ضوء المنطق والعقل، فالوحي عندما نزل على الأنبياء فانه سد مسد كل المعارف الأخرى، طالما أن الأمور المهمة لأجل تحقيق الفلاح والسعادة موجودة في الكتاب المقدس، لذلك لا حاجة إلى المعارف الاخرى سواء كانت منطقا او فلسفة.

ومن المفكرين في الثقافة العربية الذي ينتمي الى هذه المدرسة الايمانية المتطرفة شيخ الاسلام تقي الدين أبي العباس احمد ابن تيمية الذي يرفض استعمال العقل على الإطلاق بل يصل به الأمر بكل بساطة إلى تكفير كل من يخالفه في الراي، وقد يظهر ذلك في مؤلفاته ونأخذ على سبيل الذكر ” كتاب الرد على المنطقيين” الذي يرفض فيه استعمال العقل بالكلية في المسائل الدينية، ومن بين ما جاء فيه قوله “خلط مقالات أهل المنطق بالعلوم النبوية وإفساد ذلك للعقول والأديان…وهذا مقام شريف ينبغي أن يعرف (الغزالي). فإن بسبب إهماله دخل الفساد في العقول والأديان على كثير من الناس، إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في ” الحدود” بالعلوم النبوية التي جاءت بها الرسل”.

وفي مقام آخر فانه قال” فإن أرسطو كان وزير الاسكندر بن فيليبس المقدوني، وليس هذا ذا القرنين المذكور في القرآن ….وجماهير العقلاء من جميع الأمم يعرفون الحقائق من غير تعلم منهم بوضع أرسطو…ان هذه الصناعة زعموا أنها تفيد تعرف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها وكلا هذين غلط”، بل اعتبر ابن سينا مشركا وشركه أعظم من مشركي العرب والنصارى، ونحوهم.

كورونا والعقلانية النقدية
اننا ونحن نعيش والعالم حالة الحجر الصحي، بسبب وباء كورونا، الذي ادخل العالم في حيرة من امره، لان الدول العظمى لم تكن تتوقع أن يقتحمها هذا الوباء، ولم تعد له العدة لمجابهته بسبب ثقتها المفرطة في تقدمها التكنولوجي، على اعتبار أن ما يدور في العالم وما هو كائن وما سيكون على السواء، يكون في علم هذه الدول مسبقا، ومطلعة عليه قبل حدوثه في العالم، وإذا به باغثتهم كورونا، فغيرت مجرى الحياة في العالم.

وهذا الامر لن يمر بدون ان تراجع هذه الدول نفسها، وتسعي الى استعمال العقلانية النقدية في جميع مجالات العلاقات الدولية، الحياة العامة السلطة، الاقتصاد السياسة، الاجتماع، القانون، التقاليد، التعليم، الصحة، البحث العلمي، لان هذا الوباء سيفرز نخبة حاكمة ومحكومة جديدة، كما سيبرز مفاهيم كونية جديدة وعلاقة الموطن مع الدول غير التي كانت سائدة من ذي قبل.

أما في المجال الديمقراطي، والحقوقي، فانه ستتغير المعايير والمبادئ الاساسية المعتمدة عليها لا على المستوى النظري ولاعلى المستوى الممارسة، ويبدو انه اي الوباء سيفضي إلى ابراز العقلانية المعرفية المبنية على الإدراك الحسي باعتباره أساس المعرفة، واحساس المجتمع الدولي وادراكه بخطورة الوباء وما أحدثه من اضطرابات في المجتمعات ستظهر معرفة جديدة ومنظور جديد للاشياء، بناء على العقلانية النقدية.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.