أين نور “الكتاب”؟

عمر العمري
آراء ومواقف
عمر العمري23 نوفمبر 2019آخر تحديث : السبت 23 نوفمبر 2019 - 12:40 مساءً
أين نور “الكتاب”؟

يُصرّ بعض الباحثين على أن “عصر الأنوار” ماركة غربية صرفة، حدَثَ فوق تراب أوروبا، وفي زمانها، وفي سياق أحداثها، أي في زمان النهضة فيها، وفي رقعة جغرافية محددة هي التي انطلق منها “النور” إلى باقي المجتمعات، حاملا معه قيم العقلانية والليبرالية والديمقراطية والعلمانية والحداثة..

بدوره أكد الدكتور “حسن أوريد”، في لقاء حول “التنوير” نظمه أخيرا “مركز تكامل للدراسات والأبحاث” بمدينة مراكش، أن “التنوير” حدث تاريخي خاص بأوروبا، فلا يجوز نعت زمان آخر بـ”عصر الأنوار”، وشبّه ذلك بقانون “الجاذبية” الذي اكتشفه “إسحاق نيوتن”، متسائلا أيعقل مثلا أن يكون هناك قانون جاذبية خاص بجنوب إفريقيا أو إثيوبيا أو غيرهما؟

من وجهة نظر أخرى، أعتقد أن عصر “الأنوار” غير مرتبط بشعب معين أو بدولة بذاتها أو بقارة بعينها، أو بعصر دون غيره، أو أنه ماركة مسجلة باسم الأوربي أو الآسيوي أو العربي أو الإفريقي، وإنما هو “مسلسل إنساني كوني”، انطلق مع أول إنسان خٌلق على الأرض هو “آدم”، ثم ساهم في نشره بعد ذلك الأنبياء والرسل والأولياء والفلاسفة والمفكرون والمثقفون، كلٌّ حسب المستوى النوراني المتجسد فيه.

هبّت “الأنوار” مع “آدم”، فهو أول إنسان اشتغل بالعلم واجتهد في تعلم “الأسماء كلها” (وعلم آدم الأسماء كلها)، أي أن أول قرار أو مرسوم يطبق على الأرض هو الأمر بتعليم البشر، فكانت بداية “النور” و”التنوير” هو تعليم “آدم” الأسماء كلها، لذلك بقي “النور” مرتبطا بالعلم دائما وأبدا، ولا يمكن أن نتحدث عن عملية “تنوير” في الأرض دون ارتكاز على علم أو معرفة.

ساد الظلام على الأرض قبل آدم، فانطلق النور معه بواسطة العلم، لكن سرعان ما كان هذا “النور” يحجبه الظلام من جديد، مبعثُه وجود “مسلسل ظلامي كوني” موازٍ، له برامجه ومناهجه وعملاؤه، فكان كلما انحجب الظلام يرسل الله النور من جديد عبر الأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة. وهكذا يتعاقب أو يتعايش “النور” و”الظلام” على الأرض، في تدافع خطير إلى يومنا هذا.

واستمر مسلسل “التنوير” مع كل نبيء ورسول وحكيم وفيلسوف إلى بعثة “محمد” في الجزيرة العربية، وهي الفترة التي ساد فيها ظلام موحش على الأرض كلها، فكان الحدث التنويري الأكبر في تاريخ البشر هو نزول القرآن الكريم، وكان أول كلمة سطرت فيه هي “إقرأ”. وهي إشارة ثانية من الله إلى البشر على أن “القراءة” هي المفتاح الأبدي للتنوير المطلق، فكانت بداية “النور” مع تعليم آدم “الأسماء كلها”، واكتمل هذا النور مع أمر آخر في عصر “محمد” هو (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق).

وكانت رسالة القرآن هي “إخراج الناس من الظلمات إلى النور”، وهو أول كتاب يدعو بكل وضوح وقوة إلى “النور”، وأن هدفه الأساس والأسمى هو “التنوير”، أي تنوير “الظلمات” الكامنة في عقول البشر بالقراءة والعلم، فكان الكتاب “نور”، والذي أنزَلَه “نور”، والذي أُنزِل إليه “نور”، وهي معادلة تنويرية لم يحصل لها مثيل في التاريخ البشري على الإطلاق.

فيصف الله نفسه بأنه نور: “الله نور السماوات والأرض”، ويصف الكتاب المنزل: “واتبعوا النور الذي أنزل معه”، “فقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين”. ويصف الذي أٌنزل إليه الكتاب: “وداعيا إلى الله وسراجا منيرا”، كما كانت التوراة والإنجيل من قبل نورا، فهل هناك كتاب في التاريخ يتحدث عن النور والتنوير بهذه الطريقة المبدعة.

لكن هل شمل هذا النور كل البشر وكل الأمكنة؟ هذا هو الذي لم يحصل ولن يحصل أبدا، فهناك بالمقابل “المشروع الظلامي” الذي بدوره له كتب ورسل وعملاء، وهدفه الكبير هو “إخراج الناس من النور إلى الظلمات”، والقرآن يشير إلى أن هناك “كائنات” مشروعها الأساس هو السعي الحثيث إلى “إطفاء نور الله”، فيكون هذا التدافع هو سر الوجود واستمرار الحياة على الأرض.

ذهب “محمد” وبقي الكتاب الذي جاء معه، أي “النور” الوحيد المنزل من السماء، ورسالته الأبدية هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بالقراءة والعلم والعقل والحرية والعدل بين الناس، وهي القيم التي أشيعت في “عصر الأنوار” الحقيقي، عصر النبوة، في إطار مسلسل إنساني كوني كما ذكرنا.

وما عصر الأنوار في أوروبا الذي تحدث عنه الأستاذ “حسن أوريد” وغيره من المفكرين، إلا حلقة من هذا المسلسل التنويري الكوني الذي انطلق مع آدم، ولن يتوقف أبدا، فساهم “التنوير الأوربي” بشكل كبير ـ وبالأساس ـ في تطور وتطوير العلوم الحقة أو الدقيقة، مثل العلوم التجريبية والفيزيائية والذرية والرياضية وغيرها كثير..

هذه العلوم الدقيقة كان لها فضل كبير في إنارة العقل البشري، وهي تسير بشكل سريع نحو اكتشاف نور الله الأبدي وفك معادلاته المحيطة بالكون، فعندما انقطع وحي السماء بنزول آخر كتاب، بقي “القلم” منبعا متدفقا لوحي الله (الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) ، وقد امتلك العقل الغربي حظا وافرا من “وحي القلم”، وهذه هي إضافته النوعية، وأكيد أنه على أبواب اكتشاف “وحي الكتاب”، ذلك “النور” الذي انحجب إلى حين..
عمر العمري

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.