اللقاح الروسي و”العلم بالأحجيات”

ادريس عدار
آراء ومواقف
ادريس عدار14 أغسطس 2020آخر تحديث : الجمعة 14 أغسطس 2020 - 9:21 صباحًا
اللقاح الروسي و”العلم بالأحجيات”

إدريس عدار
بسخرية تفاعل كثيرون مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقاح ضد فيروس كورونا المستجد. سخرية من الإنتاج وكأن رئيسا يوجد في قلب الصراعات الدولية سيجازف بمصيره ومصير بلاده بمجرد أوهام. وسخرية من كوننا شعوب غير منتجة للدواء وقصارى جهدنا هو أن نستعد للحقنة في المكان المناسب. قال ألكسندر جونزبورغ، مدير المركز القومي للبحوث للأوبئة والأحياء الدقيقة، في حوار صحفي إنه سيتم إعطاء اللقاح في الكتف الأيمن. لكن السخريات الماكرة جعلتها في مكان آخر.

لسنا مسؤولين عن التخلف العلمي، وليس كل الغرب يفهم في العلم، لأن العلماء دائما فئة نادرة.

في الجملة الناس متساوون في القدرة على الابتكار. أقصد الناس فكما الروسي والأمريكي والبريطاني يبتكر فغيره يبتكر من أية دولة في هذا العالم، بدليل أن كثيرا من العلماء الموجودين في هذه الدول هم من دول ما يسمى العالم الثالث. سيقول الساخرون: هؤلاء أبدعوا لأنهم هربوا؟

قد تكون أجواء الحرية وغيرها عاملا مساعدا لكن ليست أصلا في المشكل الذي نطرحه. هناك في هذا العالم من يحدد آفاق البحث العلمي. غير مسموح لنا بارتياد عوالم العلم، فالمسموح به هو “علم الأحجيات” بتعبير توماس كون صاحب كتاب “بنية الثورات العلمية”، أي أن ما يمكن لعالم (بكسر اللام) من هذه الجغرافية، هو ملأ البياضات المتوفرة مثلما هو الأمر بالنسبة للكلمات المتقاطعة، وقد أورد كلامه عن علم الأحجيات في سياق الحديث عن الثورات العلمية، التي تأتي بعد انسداد الأفق، ومن تم اجتراح نموذج إرشادي جديد للعلوم.

يقول نجيب الحصادي مترجم كتاب “كون ضد بوبر” لستيف فولر: للنزاع بين كون وبوبر خباياه وأبعاده السياسية والاجتماعية. المناظرة الشهيرة التي جرت وقائعها في جامعة لندن سنة 1965، لم تشكل فيما يزعم المؤلف حدثا لافتا فاللافت لم يحدث على خشبة المسرح بل حدث قبل وبعد المناظرة، هذا يعني أن هناك أشياء سكتت عنها المناظرة.

لقد خاض كون وبوبر في خلافات حادة، فيما صمم هذا الكتاب لفهم مجمل نطاق القضايا التي تفصل بين مذهبيهما الصريحة والضمنية، وكما هو متوقع، فإن الأسئلة التي يثيرها، ويحاول الإجابة عنها، تتجاوز بكثير حقل فلسفة العلم: العلاقة بين المثقف والسلطة، قدرة العلم على توحيد المعارف البشرية، أهمية التاريخ للحياة الإنسانية، المناخ السياسي الذي أسهم في الترويج لمذهب كون، المسؤولية التي تلحق كون جراء صمته عما كان يحدث في كواليس المركب الصناعي العسكري في أمريكا الحرب الباردة.

هناك صمت عن صناعات ذات طابع غير أخلاقي.

يبقى سؤال مركزي مطروح دون جواب. ما هي الحدود المسموح بها للعالم (بكسر اللام)؟

كتاب مشيو كاكو حول “الفيزياء المستحيلة” ممتع لهواة الخيال العلمي. لكن من أدرك الحد الأدنى من الفيزياء يعرف أن الفيزياء المستحيلة، عير مستحيلة حينما تتوفر شروط التنزيل على أرض الواقع، وحينها تنتقل من القوة إلى الفعل. بمعنى أنها باعتبارها معادلات “صادقة”، لكن تحويلها إلى ميدان الإنجاز تبقى شروطه غير متحققة.

غير أن حصر شروط تحويل الفيزياء المستحيلة إلى غير مستحيلة في ما هو مادي يلغي أمرا أساسيا يتعلق بمن يتحكم في العلم حتى يسمح بتحويل المستحيل إلى غير المستحيل. ولهذا عندما قرأت الكتاب تساءلت: كم من الأمور المحسوبة على الفيزياء المستحيلة تحمل هذه الصفة فقط لأن رغبة الفاعل الأساسي في الصناعة الدولي لا تتفق مع هذه الحقائق؟ يعني أن الخروج من المستحيل إلى غير المستحيل لا يرتبط فقط بتحقق الشرط المادي ولكن بمن يتحكم في صناعة الخرائط في الجغرافية السياسية؟

نحن في هذا العالم المسمى عالما ثالثا غير مسموح لنا بتجاوز مستويات معينة من الإدراك العلمي. وأي تفكير في هذا التجاوز ينبغي أن يكون مقرونا بتحمل تبعات ذلك على مستوى بعيد. عندما تفكر في اقتحام العلم فكر أولا في الحصار والتجويع ومحاولات التركيع. فما يدور اليوم في الشرق حول “النووي” لا علاقة بالأسلحة نهائيا. ولكن له علاقة بالخروج عن “الطاعة العلمية” للغرب. وما كان يبدو معجزات غربية سيصبح مجرد عمل عادي إذا تمكن الآخرون من الوصول إلى مستويات في البحث العلمي. وشرط كثير من الصناعات ليس “العلم والمعرفة” فقط ولكن الطاقة. فالصراع هناك على امتلاك طاقة تمكن من اقتحام أي مستوى من مستويات التصنيع.

اللقاح الروسي هو خروج عن “الطاعة العلمية” للغرب. روسيا ظلت مختلفة عن هذا الغرب حتى وهي تلتقي معه في الجغرافيا والثقافة.

واجهت في الحقبة الشيوعية حربا إعلامية غير متكافئة قام بتغذيتها كثير مما يسمى منشقين عن الاتحاد السوفياتي. حدثتنا الدعاية الغربية عن الجيش الأحمر وأنه قتل الملايين، ولم تحدثنا عن الجيش الأبيض، الذي يشبه إلى حد كبير ما يسمى الجيش السوري الحر. واستدعاء لمفهوم “الحاضر شاهد على الغائب”، ينبغي أن يكون حاضر الجيش الحر” شاهدا على ماضي “الجيش الأبيض”.

وما زال الغرب منتصرا في الحرب الإعلامية. ربما المفاجأة كانت في أن الغرب لم يكن يتوقع نهوضا جديدا لروسيا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. لكن يبدو أن روسيا ورثت كل هذا الماضي بعد أن أزالت الذهون عن جسد “الاتحاد السوفياتي”. وبما أن الأمر خرج عن السيطرة سيتم توظيف الإعلام من جديد وسيدفعون كثيرا للزمار بتعبير الكاتبة البريطانية سوندارز في مؤلفها عن الحرب الباردة الثقافية، بل هناك زمار “تابع جيلالة بالنافخ” لن يدفع له أحد.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.