حقيقة الإنسان بين كورونا والاذان

سماح عبدالرزاق
آراء ومواقف
سماح عبدالرزاق21 يوليو 2020آخر تحديث : الثلاثاء 21 يوليو 2020 - 3:06 مساءً
حقيقة الإنسان بين كورونا والاذان

الحمد لله رب العالمين حمداً يبلغ رضاه، نحمده حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، والصلاة والسلام على أشرف من اجتباه مبعوثا رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما لا يُدرَك مداه.
إن عالمنا اليوم في حاجة إلى قيم الدين، لأنها تتضمن الفضائل التي نلتزم بها أمام خالقنا رب العالمين، والتي تقوي فينا قيم التسامح والمحبة والتعاون الإنساني على البر والتقوى، لا في سماحتها وحسب، بل في استمداد طاقتها من أجل البناء المتجدد للإنسان، وقدرتها على التعبئة من أجل حياة خالية من الحروب والجشع، ومن نزعات التطرف والحقد، حيث تتضاءل فيها آلام البشرية وأزماتها، تمهيدا للقضاء على مخاوف الصراع بين الأديان…
أما بعد:
قد يتساءل البعض عن الرابط في العنوان بين الإنسان وكورونا والاذان، وما العلاقة بينهم؟
فنقول مُتَّكلين على الله العليم الخبير بأنها علاقة فلسفية مادية وروحية بين الخلق والأمر، بين الغيب والشهادة، بين المادي والروحي، بين البداية والمآل، بين الداء والدواء، بين الماضي في الحاضر للمستقبل، بين الحق والواجب، بين حرية الاختيار وفردية التبعات، بين المسؤولية والمحاسبة، بين السعادة والشقاء.
إنها رحلة مع التاريخ الإنساني في الزمان والمكان في رحاب الكون كله، فالتاريخ ممتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو فعل الإنسان وكسبه، ونجاحاته وأخطاؤه، وهو المسؤول في نهاية المطاف عن نتائج أفعاله. فالإنسان هو محور التاريخ، وهو المكلف بأن يحقق إرادة الله في التاريخ.
فنطرح تساؤلات عدة حول حقيقة الإنسان، والغاية من خلقه في هذا الكون، وما قيمته الحقيقية وسط الخلق كله، وما هو المآل والخاتمة لهذا الإنسان. وما هي الآثار التي يتركها بأفعاله وتصرفاته على الكون والحياة والإنسان؟ وماهي تصوراته وتوقعاته لسعادته في الحياة الدنيا والآخرة.
وسوف نقسم الموضوع إلى أجزاء ثلاث وهي: حقيقة الإنسان، ثم كورونا التي ترمز للابتلاء، وأخيرا الآذان الذي يرمز إلى الحرية والانعتاق من الأسر والتقليد.

1 – حقيقة الإنسان
إن الفكر الإسلامي أسس رؤيته الفلسفية لأصل الإنسان على فكرة خلق الله تعالى له على صورته. ويؤكد القرآن أن الإنسان وُهبَ روحا، يُعَرّفُها بأنها من روح الله. يقول الله تعالى:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). (الحجر:28-29). ومن هنا حَلَّل (الفكر الإسلامي) النفس الإنسانية إلى مقوم حيواني يستقي الإنسان منه أحاسيسه وشهواته، ومقوم فكري يستقى منه عقله.
وتَحدَّث القرآن عن إنعام الله على الإنسان بحواس، وبقدرة على معرفة الكون، وعلى معرفة الله وإرادته، جديرة بالثقة فيها بدرجة مناظرة للوحي. يقول الله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء :36). ويقول:(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).(السجدة :9). ويقول:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (فصلت: 53).
فالعضو الذي يستطيع به الإنسان إدراك وفهم الوحي من جهة هو العقل، وهو بالتالي الملكة التي يستطيع بها أن يعرف ربه من جهة أخرى. وهذه الصورة الإلهية كائنة في كل البشر على السواء، ويستحيل تدميرها أو فقدانها، ومنها يتشكل جوهر إنسانية الإنسان، وهي أنبل وأغلى ما يمتلكه، فهي نفخة من روح الله. ويعد الإنسان في حكم العدم في غيابها، وإذا ضعفت فإن الإنسان يوصف بالخبل أو الجنون، وعندها يرفع عنه التكليف.
وتتفق الرؤية الإنسانية الإسلامية في موقفها هذا من العقل مع الرؤية الفلسفية الإغريقية (لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو)، مع وجود فارق بينهما بخصوص سنام العقلانية. فهي عند الإغريق: الثقافة، وعند المسلمين: التقوى. إلا إنه عند التدقيق يتبين أن التقوى الإسلامية تجب الثقافة الإغريقية، لأن الإقرار لله بالربوبية، أي بكونه الخالق والمالك والحكم هو أسمى درجات العقلانية التي عرفها الإنسان. إلا أن الإسلام يختلف جذريا:
أولا: مع الرؤية الإنسانية الإغريقية، التي تعترف بإنسانية المواطنين الأحرار، بينما تصنف العبيد في فئة أخرى أدنى من سابقتها.
ثانيا: مع الرؤية الإنسانية اليهودية بذات الدرجة، التي تسلم بوجود الصورة الإلهية في كل البشر بالفطرة، ولكنها تفرق بينهم بالمولد والطبع معطية أتباعها وضعية مختارة.
ثالثا: مع المسيحية التي تمايز بين البشر من حيث امتلاكهم جميعا ناموسا طبيعيا، وتدعي اختصاص أتباعها بناموس إلهي بحكم إيمانهم وتعميدهم.
رابعا وأخيرا: مع الرؤية الإنسانية العلمانية الأوربية، التي تستمد هويتها من الثقافة الأوربية على سبيل الحصر، وتهبط بالآسيويين والأفارقة وغير الأوربيين عامة إلى مستوى أدنى من مستوى البشر.
فلم يستطع حتى رائد التنوير المفكر الكبير ايمانويل كانط، المنادي بالعقل الخالص، أن يصل بعقلانيته إلى نهايتها المنطقية، وخصص وضعية أدنى للآسيويين والأفارقة.
أما الإسلام فيرى أن كل البشر سواسية، ويُذكّرُ الله تعالى البشرية مرارا في القرآن أن:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات :13). ويقول: (َومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ). (الروم :20-22).
وبعد أن يقرر القرآن أن كل البشر يعودون إلى آدم وحواء، وأنهم من تراب، وأساس التفاضل بينهم هو التقوى، يطرح سؤاله البليغ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ). (الزمر:9).
وفى حجة الوداع تنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى إتمام الله الدين. ووجد النبي أن من المناسب في هذا الموقف الجليل، أن يُذَكر المسلمين الذين كان جلهم آنذاك عربا من حيث العرق، وكلهم عرب من حيث اللغة والثقافة أنه: {لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى} (1).
فالأمر الأخلاقي التكليفي المخاطب به الإنسان لا يلتفت إلى الماضي، ولا يتعلق بحدث وقع في الماضي، سواء كان هذا الحدث يشير إلى هبوط، أو إلى فداء تَمَّ على يد شخص آخر. ومنبع هذا الأمر ليس مثل تلك الأحداث الماضية، بل هو يتعلق جملة وتفصيلا من حدث حاضر أو مستقبلي. ومن هنا لا يعرف الإسلام أي تبرير بالإيمان، ولا أي تاريخ للخلاص.
ولا تنبثق أخلاقية الإنسان في منظور المسلم، من الإيمان بحدث خلاصي ماض، بل بالإيمان بمعية الله تعالى. ويعنى استحضار وجود الله تعالى في هذا المنظور، وجود الحق والقيمة، اللذان يؤسس الإنسان دعوى ولايته وسعيه عليهما. وتتوقف صدقية تلك الدعوى على تحريك الإنسان لمعطيات الزمان والمكان على نحو إيجابي يجعلها مجسدة للإرادة الإلهية في الكون.
ويؤكد الإسلام أن الروحانية ذاتها بكل فضائها، تصير في حكم العدم، إذا لم تصبح واقعا ملموسا، متجسدا في رجال ونساء يمشون على الأرض. فأخلاقية المسلم ذات تَوَجُّه مستقبلي كامل، حتى حين تكون غاية في المحافظة والركود. ومن هذه الإيجابية الأخلاقية يستمد المسلم حيويته. فمع تحريره من إصر الماضي وأغلاله، يصير المسلم نموذجا للنشاط وللإقبال على الحياة، وعدوا لدودا للزهد في الدنيا وللحط من قدر التاريخ.

2 ـ الغاية من خلق الإنسان
يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56).
لقد جاء خلق الإنسان من الأرض، فكانت الأرض قبل الإنسان، ثم جاء الإنسان ليكون خليفة فيها، ولم تكن حياة الناس على هذه الأرض عبثاً، بل كان خلق الإنسان لغاية محددة هي عبادة الله سبحانه، ولفهم معنى العبادة في سياق الغاية من خلق الإنسان جاءت آيات أخرى (البقرة: 30).
فالخلافة في الأرض هي معنى العبادة، وهي إعمار الأرض. ولكي تتحقق الخلافة في الأرض جاء تمكين الإنسان فيها، فهي مُسخّرة له، ولذلك طلب الله منه إعمارها (هود: 61). فالعبادة خلافة في الأرض وتمكين وتسخير واستعمار لها بأمر الله ليعمرها الإنسان بالصلاح والإصلاح. فقيامه بالإعمار إذن هو استجابة لدعوة الله لما فيه حياته الطيبة في الأرض، وحياته في جنات النعيم، وبذلك تظهر العبادة بوصفها التعبير الكلي عن المقصود بالعمران في الأرض. فالغاية إذن من خلق الإنسان هي عبادة الله وحده، وهي طاعة أوامره التكليفية باختيار مسؤول، بتحقيق الجانب الأخلاقي من الإرادة البشرية عبر الفاعل الإنساني، وهي التي تحقق الخير الأسمى وتملأ الحياة بالقيم.
وجوهر مفهوم العبادة هو قيام الإنسان بالربط بين الموجودات وتوجيه العلاقة بينها باتجاه تلبية مراد الله تعالى، وإنجاز التكليف الرباني والمشيئة الإلهية. والتكليف الرباني هو أساس إنسانية الإنسان، وجوهر هذا التكليف هو الفعل الإنساني الأخلاقي، الذي هو أساس الوظيفة الكونية للإنسان. فالإنسان كائن عابد حر مسؤول مستطيع بفطرته، وبتلمسه لأسباب الاستطاعة في كون قابل لتلقى فعله فيه.
والمشيئة الإلهية تتحقق على نحو لا إرادي في غير عالم الإنسان، وكذا في شق من عالم الإنسان (كما هو الشأن في وظائف الجسد الإنساني العضوية والنفسية)، بينما تتحقق في الشق الآخر المتعلق بالوظائف الأخلاقية على نحو إرادي حر. فللحياة غاية وهدف أسمى هو تحقيق الإرادة الإلهية الخيرة من مستوياتها الأرفع شأناً والأعلى منزلة، دون إهمال صور أخرى من إرادة الله التي تُعدُّ وسائل وأدوات لعمران الكون، من مأكل ومأوى وتزاوج، وعلاقات أسرية واجتماعية وغيرها. (2)
والحمد لله رب العالمين.
(يتبع)

كتبه: عبد الرزاق سماح / باحث وكاتب في الفكر والحركات الإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــ
1 ـ أمين دويدار ، صور من حياة الرسول ،القاهرة :دار المعارف بمصر ،1372هـ/1953 ،ص 593.
2 ـ أنظر كتاب التوحيد (مضامينه على الفكر والحياة) للأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.