سيدة مصرية اعتادت أن تستقبل العيد بطقوسه الجميلة, أولادها يعشقون الكعك المحشو بالملبن, ويشاركون في صناعته ويتنافسون في توصيل الصاجات إلي الأفران,
المنزل يمتلئ بهجة.. فرحتها هذا العام منقوصة, فالأسعار مرتفعة وهي تعد شراء الـ( بيتي فور) أو عين الجمل أو المكسرات رفاهية زائدة. زوجها يستقبل العيد وشبح الصدام المجتمعي بين ناظريه, هو يعلم صغاره أن قتل نفس واحدة أيا كانت هو قتل للشعب كله, بل للبشرية, لأن معناه أنك لا تؤمن بحق الآخر في الحياة( فكأنما قتل الناس جميعا). يشتكي من محسوبين علي الثقافة والإعلام يتحدثون بلغة الإعدام الثوري والسحل والمحو وكأنهم في غابة ينتصر فيها الناب والظفر, أحدهم كتب تغريدة يطالب بمحو خصومه من الميدان في يوم العيد حتي تكتمل الفرحة, أي لقمة هذه التي تتناولها علي جثة أخيك؟ وأي كرسي هذا الذي تنصبه علي الأشلاء والدماء؟
مثقف آخر يطالب بتوحيد خطبة العيد متوهما أنه أمام عصر جديد توحد فيه مقاسات الشعب وفق رؤية مؤدلجة مريضة لا تعرف إلا في المجتمعات الفاشية. الدولة المدنية تنظم علاقة الإنسان بأخيه وفق عقد اجتماعي, والدولة الشمولية تتدخل حتي في علاقة الإنسان بربه, وكيف يؤدي واجباته الدينية.
يأتي العيد هذه المرة والمصري يعطي ظهره لأخيه وابن قريته و زميل دراسته; لأن المشرب السياسي مختلف, في الأسرة الواحدة, وفي المكتب, وفي الباص. ليس سرا أن الشعب المصري منقسم:
1 ـ إسلاميون في ثقافتهم وسلوكهم وولائهم, ولهم انتماءات حزبية متعددة وممارسة سياسية ولديهم كامل حقوق المواطنة.
2 ـ ليبراليون لديهم ذات المواصفات وجميع الحقوق.
ربما الأغلبية لا يعنيها هذا ولا ذاك بقدر حاجتها إلي توفير ضروريات الحياة. الحرب الأهلية وهي أفدح السيناريوهات وأسوؤها لن تلغي هذا الانشطار, وليس بمقدور أحد أن يأتي بشعب آخر من المريخ, كل شعوب العالم تعيش أوضاعا مشابهة, من يعتبر الشعب أميا ليس له حق التصويت والقبول أو الرفض فهو يصادر الملايين ويحلم بما لا يحدث.
لن نحتاج إلي إعادة اكتشاف العجلة, فنحن أمام ثلاثة مسارات:
1 ـ توافق مجتمعي يقوم علي صناعة مناخ جاد للحوار و زرع الثقة وإقصاء كل عوامل الريبة والشك وأولها أنه ليس لطرف أن يحتكر الدعوة إلي الحوار دون سواه مادام طرفا فيه إلا بتفويض حقيقي لأن هذه نقطة تفوق, بل يتنادي إليه الجميع في ظل شفافية تتسامي علي المصالح الشخصية والفئوية, والأفضل أن تصدر الدعوة للحوار من طرف محايد, ولن يتم هذا دون إلغاء الإجراءات التي تطول فصيلا دون غيره ودون إلغاء فكرة الغالب والمغلوب أو فرض الأمر الواقع.
الأمر الواقع نحن نصنعه, الأمر الواقع هو أن قدرنا أن نعيش معا علي ظهر هذه الأرض الطيبة( مصر), وفي هذا الظرف العصيب, وأن نتشارك في المسئولية والغنم والغرم.
2 ـ الاحتكام إلي الآليات التي توصلت إليها البشرية بعد الحروب الدامية كالاستفتاءات والصناديق, لا شيء من قراراتنا البشرية مقدس, ولا شيء منها فوق الشعب, ولا ناطق باسم الشعب إلا الشعب, من حق الناس أن تقول لا! لفرد أو حزب أو جماعة أو حكومة أو إجراء أو برنامج.
3 ـ والبديل الثالث هو التفاني والاحتراب, ولست أخفي أنني طيلة هذا الشهر الكريم كنت قلقا من أن تنزلق مصر إلي حالة من الفوضي والاقتتال, كالذي يحدث في سوريا, ولكن المبادرات المحلية والدولية أعطت بعض الأمل, والمطلوب هو أن تخرج مصر غالبة منتصرة علي آلامها, ولن يحدث هذا دون تنازلات جادة من الغرماء. مصر التي عودتنا بضخامتها وهيبتها أن تتدخل في أزمات جيرانها أصبحت مأزومة!
مصر التي قبلت مفاوضات طويلة وشاقة مع خصمها التاريخي الصهيوني وما ترتب علي ذلك من تأثير علي علاقتها بمحيطها العربي والإسلامي لن تكون عاجزة عن احتضان أبنائها بجميع أطيافهم والاستماع إليهم وتغليب صوت العقل والحكمة, ولجم دعاة القتل والإقصاء الذين لا تطيب كعكة العيد عند أحدهم إلا أن تكون منقوعة بدم أخيه.
ما يجري في مصر لا يخص المصريين وحدهم, مصر ليست لنفسها بل للعرب والمسلمين, والتجربة المصرية سوف تستنسخ في بلاد كثيرة, ويجب أن تكون تجربة مستوعبة قادرة علي احتواء التيارات والمذاهب والأطياف وليست ثوبا مفصلا علي مقاس خاص, حتي من نضيق بهم نحن يجب ألا تضيق بهم أرض مصر( والأرض وضعها للأنام).
{jathumbnail off}
Source : https://dinpresse.net/?p=2482