قراءة في كتاب الأستاذ عبد العالي معزوز “جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت”

دينبريس
2023-07-19T10:42:13+01:00
كتاب الأسبوع
دينبريس19 يوليو 2023آخر تحديث : الأربعاء 19 يوليو 2023 - 10:42 صباحًا
قراءة في كتاب الأستاذ عبد العالي معزوز “جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت”
من إعداد الطالب الباحث: نبيل شيلي (1)  
وصف الكتاب: 
قسّم الدكتور معزوز كتابه المذكور سلفا إلى خمسة فصول موزّعة على الشكل التالي:
تطرّق في الفصل الأول إلى إشكالية البرنامج الإستطيقي  و إعادة صياغة الحداثة، وجاء هذا الفصل على الشكل التالي:
تناول المؤلف في الأول مفهوم الانعطاف الإستطيقي، تلاه مباشرة الانتقال من النظرية النقدية إلى النظرية الإستطيقية، بعدها، انتقل المؤلف للحديث عن إشكاليات الخطاب الإستطيقي، ثم أيضا، تناول الأستاذ مفهوم إستراتيجيات الخطاب الإستطيقي للحداثة؛ من خلال العناصر التالية:
أفول المعنى والكتابة الشذرية بالإضافة إلى أزمة اللغة أو نموذج” الباراتكسيس”
أما الفصل الثاني: فجاء بعنوان الحداثة الإستطيقية ونقد التراث الإستطيقي، وذلك، عبر المحاور التالية:
أولا: في نقد الإستطيقا الكانطية، نقد الذات المتعالية، نقد الصورية، نقد الإشباع الخالص، نقد مقولة العبقرية، في مديح الجلال والجليل.
ثانيا: في نقد الإستطيقا المثالية الهغيلية، تفكيك النسق الهيغيلي، نقد مفهوم الروح، أسبقية الجمال الفني على الجمال الطبيعي، نقد أطروحة ” موت الفن”
 ثالثا: في نقد الإستطيقا الماركسية، أدورنو ضد لوكاش، في تقريظ مفهوم الرواية، الشذرة ضد الكل، جماليات السلب ضد جماليات  الإيجاب، أدورنو ضد غولدمان، تقويض مفهوم رؤية العالم.
رابعا: الحداثة الجمالية: أدورنو مع والتر بنيامين، في تقريظ مفهوم ” الدراما” في تاريخ وزمن الحداثة: سؤال المنظارية.
أما الفصل عنونه المؤلف بعنوان” نحو إستطيقا سلبية”، مفهوم للسلبي” بين النقد والمتعة، نحو عقل إستطيقي: استراتيجيات المحاكاة، أزمة العقل ألأداتي، إشكالية الطبيعية، إستراتيجية المحاكاة.
في حين تناول المؤلف في الفصل الرابع: مدارات الحداثة الفنية: استشكال، المدارات الاجتماعية، الفن نقيض المجتمع التحكمي، والفن والممكن، الفن و تفجير قوى الإنتاج، الفن والتقنية، المدارات الإستطيقية، في إستقلالية الفن، الفن وتفكيك الميتولوجيا، الفن معول للنقد،الفن و ثورة الشكل، الفن وخطاب الحقيقة، الفن ولعبة المظهر.
الفصل الخامس: حمل عنوان” فيزيونومية الفن الحديث” من خلال الفن تعبير عن الألم، الفن وجاذبية التجريد، الفن ورداءة القتامة، الفن والقبح، الفن والتنافر، في ما وراء ابتذال الصور، الفن إنقاذ العابر.
التعريف بالكاتب: 
عبد العالي معزوز أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن أمسيك  بالدار البيضاء، من مواليد سنة 1960، حاصل على شهادة الدكتوراه سنة 2003 في موضوع: الحداثة الجمالية عند ثيودور أدورنو تحت أشراف المرحوم محمد سبيلا.اهتم الدكتور معزوز بالجماليات منذ اللحظات الأولى من حياته الأكاديمية، وكتبه هي على الشكل التالي: فلسفة الصورة، فلسفة السينما الصورة السينمائية بين الفكر والفن، جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت الصادر عن منتدى المعارف سنة 2011.
التعريف بالكتاب: 
يعد كتاب” جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت” من أهم الكتب التي ألفها الأستاذ عبد العالي معزوز في مجال الجماليات. فهو حاول مقاربة تصوّر الفيلسوف الألماني” تيودور أدورنو” للخطاب الإستطيقي في الفكر المعاصر مع الإشارة إلى أهم التحولات التي طرأت على مجال الإستطيقا، وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب في طبعته الأولى، ويتكون الكتاب من 305 صفحة، ويناقش فيه المؤلف من البداية قضية محاولة  تأسيس أستطيقا نقدية ثورية سلبية شذرية تبتعد عن سجن  النسق والكلية، وتحتفظ بقدرتها على  الإبداع من خلال لغتها الحقيقية. سنحاول في هذه القراءة تسليط الضوء على مقاربة أستاذ معزوز لمفهوم جماليات الحداثة، عن طريق التركيز على محاولة دمج الخطاب الفلسفي جنبا إلى جنب مع الخطاب الإستطيقي، وبيان أهم التحولات التي عجّلت “بأدورنو” للتّفكير في خطاب مناهض لروح العصر ولروح النسق، ومعرفة هل بقي أدورنو وفيا لبعض المفاهيم الإستطيقية أم أنه تمكن من تجاوزها.
من الخطاب الفلسفي إلى الخطاب الإستطيقي
استهلّ الأستاذ عبد العالي معزوز كتابه” جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت” بالحديث عن التطورات التي عرفتها الجماليات على يد” أدورنو”، بحيث نذر نفسه هذا الفيلسوف لقلب العديد من المفاهيم في الحقل الإستطيقي. كما حاول هذا الرجل التمرد على كل القوانين التي كانت تنظم العمل الفني أو فلسفة الفن، فهو أعطى الثقة الكبيرة للفن الحر المستقل عن المنطق الحسابي والأداتي، راغبا بذلك، في تجاوز الحضارة القمعية القائمة على منطق التشيؤ  والتسليع الثقافي(2).
اعتبر الأستاذ معزوز في كتابه هذا على أن التنظير الحقيقي للفن بالنسبة ” لأدورنو” كان في كتابه المعنون” النظرية الجمالية”. وهنا يشير المؤلف إلى التأثير الكبير لفكر الفيلسوف الوجودي” كيركغارد” على فكر أدورنو الجمالي. كما كان ” أدورنو” عالما بعالم الموسيقى، بتأليفه كتابا تحت عنوان” فلسفة الموسيقى الجديدة”. وكان ” أدورنو” مهتما بالموسيقى اللانغمية  التي تتميز بالتنافر لتكون بذلك الموسيقى بمثابة الثورة على الفكر الإستدلالي(3) .
تميّزت حياة “أدورنو” الفكرية بثلاث مراحل؛ والمرحلة التي تشكل النضج الفكري لبزوغ الفكر الجمالي من منظور المؤلف، هي المرحلة الأخيرة بعد العودة من المنفى في الولايات المتحدة الأمريكية، واستقراره في ألمانيا الفيدرالية، هنا بدأت تختمر الأفكار الفلسفية والإستطيقية، لتأسيس حداثة إستطيقية مناهضة للروح الهيغيلة و الفكر المتطابق، وبالتالي، الدعوة لعالم غير متصالح ومتعدّد في كل شيء(4) .
حاول ” أدورنو” في كتابين أساسيين له وهما “الجدل السلبي والنظرية الإستطيقية”،  تبئير و تأزيم الإشكاليات العويصة في الحداثة التقنية، فهذان الكتابان لا يدعيان تقديم الحلول النهائية لكل الأزمات الناتجة عن العقل الكلي القمعي، بقدر ما يقومان بقلب مفاهيم الحداثة رأسا على عاقب. فالغاية من الروح “الشذرية” هي إحداث تصدّعات وتمزّقات لمفهوم النسق، وللروح “الهوياتية”. كما لا يمكن أن تكتمل الصورة للحداثة الفلسفية من دون المرور على الحداثة الإستطيقية، وتتحول هذه الأخيرة إلى لحظة ترميم وتعديل وإنقاذ ما هو مقموع  ومنسي في العقلانية(5) .
ترى كيف قارب الأستاذ مقاربته لمفهوم البرنامج الإستطيقي وإعادة صياغة الحداثة؟ 
جاء الفصل الأول بعنوان” البرنامج الإستطيقي و إعادة صياغة الحداثة”، بحيث وضع المؤلف أولا؛ للحديث عن الإنعطاف الإستطيقي. تطرق الأستاذ إلى ضرورة الترابط في فكر “أدورنو” بين ما جاء في كتابه الجدل السلبي وبين ما جاء في كتابه النظرية الإستطيقية. كانت الشرارة الأولى للخطاب الإستطيقي من خلال توصل كل من ” أدورنو وهوركهايمر” إلى التشكيك في قدرة العقل لإنتاج الحقيقة، والحلم بالحرية والسعادة التي تحوّلت إلى أوهام مع عصر الأنوار(6) .
لنفهم جيدا ما تصور الأستاذ معزوز بخصوص نظرته للجماليات وعلاقتها بالحداثة،  ارتأينا الانفتاح على بعض كتب أدورنو، من أجل تعميق الفهم في كتاب ” جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت.
لقد طرح “أدورنو” سؤاله في كتابه جدل العقلنة(la dialectique de la raison)  كيف أنه عوض أن تتمتّع الإنسانية بظروف  تحقّق إنسانيتها بشكل فعلي، سقطت في صورة جديدة من البربرية ( barbarie)(7)؟
العقل أصبح مسيطرا على الإنسان، ولا يمكن تصحيح مساره إلا عبر التعقل ذاته حسب أصحاب مدرسة فرانكفورت، وقد تبلور هذا العقل المسيطر مع الثورة العلمية الحديثة التي عرفتها أوروبا خصوصا مع فلاسفة وعلى رأسهم فرانسيس بيكون (1561-1626) .
فقد سعى بيكون الذي يعد أب الفلسفة التجريبية، السيطرة على الطبيعة وجعلها موضوعا للمعرفة التجريبية، فقد شكّلت هذه الأخيرة من منظوره بمثابة سلطة في يد الإنسان، ولا تقوم هذه المعرفة إلا عبر التّقنية، فالناس يريدون التعلم من الطبيعة كيفية استغلالها وتحطيم الفكر الأسطوري، فهذا الفكر شكل عقدة لجميع الأنتروبولوجيين والفلاسفة الذين كان هاجسهم الاكبر هو تحليل مغزى الأسطورة، وجعل كل حقائق الوجود معروضة وواضحة عن طريق العلم(8) .
يعتبر بيكون أن السعادة ستكون عقيمة (stérile) إذا عرفنا الشيء بدون وظيفة المنهج الفعال، فهو وحده القادر على تحرير العالم من السحر، وبما أن العالم أصبح فوضى  “chaos”كان لابد من تنظيمه وفقا للمنهج التجريبي، الذي  في نظره لن يترك أي مجال للصدفة، وأن كل الأمور أصبحت خاضعة للدراسة العلمية، وتم تجاوز كل الأفكار التي تدعي الحقيقة بدون منهج، فمعظم الآراء كانت تقوم على إسقاط الذاتية على الطبيعة(9) .
وهذه الفكرة كانت هي أساس الفكر الأسطوري،كانت الأسطورة تدعي إبلاغ وسرد الأصول، وهذه المعلومات التي تحملها الأسطورة تصبح مذهبا، أي أن الإنسان لم يكن يعرف الكون إلا عبر الفكر الأسطوري الذي يحكي له عن كل شيء، فحتى ذاته لم يكن يعرفها بمعزل عن الأسطورة.
     فإذا كان إله الأسطورة هو الذي يخلق كل شيء، فإن العقل أصبح شبيها بالإله، وبما أن هذا الأخير هو الخالق لهذا الكون، فالإنسان يصبح هو القادر على تنظيم هذا الوجود بمعنى حلت الصفة الإنسانية محل القدرة الإلهية، ويتحول العقل إلى ديكتاتور تجاه البشر، ولا مجال في هذا الكون إلا للإنسان العلمي الذي يفهم الأشياء بالقياس إلى العمل بها. مع عصر الأنوار حلت “الميتولوجيا “في المجال الدنيوي ولم يعد شيئا لا وجود له للتفسير، واعتبرت الأنوار أن من يكتفي بالحياة دون معيار عقلاني، يتراجع إلى مرحلة ما قبل التاريخ (10)
يرى “ادورنو” أن عصر الأنوار هو عقلنة الرعب “الميتولوجي”؛ أي ليس هناك اختلاف بين ما تدعيه الاسطورة وبين ما تدافع عنه الأنوار. نلاحظ أن مفهوم الثقافة تحول وانتقل من ثقافة تؤمن بالفكر الاسطوري الضامن لكل الحقائق، ويتخذ سمة المقدس، ويتم تقديسه إلى ثقافة عصر الأنوار التي راهنت  على الإنسان لتجاوز جميع المشاكل المطروحة عليه، لكن سرعان ما سقطت هذه الثقافة الأنوارية في تناقضات عدة، بحيث ساهمت هذه الثقافة في إعادة نماذج من الأساطير اليونانية، وهنا يعتبر كيركغارد، بأن التنوير قد تضافر مع الأخلاق البروتيستانتية(11) .  فثقافة الأنوار كانت هي المسؤولة عن ظهور العقل الطغياني الذي يسيطر على الحواس بشكل كلي، وبالتالي لا يجعلها تبدع في حريتها، بقدر ما يقيّدها بالواقع المعاش، ومن ثمة يصبح العقل مسيطرا على الذات الإنسانية التي تذوب في تناقضاته، وهذا العقل هو العقل الأداتي الذي يعامل الإنسان كأداة.
بعد هذا التحول في مفهوم العقل حسب رواد الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، تم الإنتقال مباشرة من النظرية النقدية إلى النظرية الإستطيقية، فكيف تم هذا التحول؟ هل هو عجز في مواجهة القضايا المجتمعية والهروب لعالم اللاواقع واللاوجود؟ هل يفسر هذا بضعف الفكر الفلسفي أمام الواقع العنيد؟ ثم لماذا روّاد النظرية النقدية( الجيل الثاني، الجيل الثالث) ذهبوا في طريق أخر، الذي هو البحث عن حلول جذرية لمشاكل الواقع سواء من خلال مفهوم العقل التواصلي أو من خلال مفهوم التبرير والاعتراف في الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية؟
رغم التقدم الكبير الذي حققته النظرية النقدية في تكييف مفاهيمها مع الواقع المعاصر، محاولة بذلك تجاوز “النظرية التقليدية” التي كانت تعتمد على شمولية الواقع، وأن الفكر قادر على تحليل الواقع بطريقة عقلانية مثالية( فيخته و شلنغ و هيغل)، لكن من منظور المؤلف نفس المصير ستواجهه النظرية النقدية مع أدورنو التي غرقت في أوحال الأيديولوجيا، وسمّمت كل ميادين الحياة، لتدور من جديد في حلقة مفرغة، وفي تكريس الفكر الأسطوري(12) .
وجّه الفيلسوف “هابرماس” نقدا  لا ذعا “لأدورنو” بخصوص “نظريته الإستطيقية” التي أعتبرها “هابرماس” مجرد تحوّل إلى ما هو غير عقلاني، وصنّف هذه الإستطيقا في خانة الرومانسية، وادعائها تقديم الحل النهائي لكل أزمات العصر الحديث. في حين بقي الناقش ساخنا بين فلاسفة “مدرسة فرانكفورت” حول العقلنة الحديثة والحداثة الإستطيقية، إذ يرى “أدورنو” بأن الفن لا يتجاوز العقل، كما هو الحال عند أصحاب التوجه الرومانسي، فهذا يعتبر كون الفن يفوق نشاط العقل. أما الفن السلبي، فهو القدرة على تعميق وتشخيص مشاكل العقلانية، لتصبح ممزّقة وتظهر فيها الجانب اللاعقلاني(13) .
يرى الأستاذ معزوز على أن هذا النقد الموجه لأدورنو لا يمثل الهروب إلى العالم غير العقلاني، كما يظن “هابرماس” بقدر ما هو مناسبة لتكثيف إحراجات العقلنة بهدف تمزيقها وتفكيكها من الداخل.
سقطت “النظرية النقدية” في عدّة مشاكل، ما جعل العقل النقدي عاجزا أمام تصاعد الأداتية  والتشيؤ على كل شيء، فأصبح من المستحيل الاتكال على العقل للإنتاج الحقيقة. لهذا تم التوجه صوب البديل المتمثل في الخطاب الإستطيقي، الذي يقوم على جدلية السلب              Négativité) (، فالسلب يهدم التماسك والانسجام والمعنى والدلالة، كما أنه يقوم على عملية النفي، على العكس الجدل الإيجابي الذي يدعي الشمولية والوحدة والتناغم والنظام، هذا ما أنتج لنا حسب المؤلف الثقافة العقلانية، والمجتمع الاستهلاكي القمعي التحكمي(14) .
إقترح “أدورنو”حسب المؤلف إستراتيجيتان وهما: الإستراتيجية الفلسفية من خلال كتابه” الجدل السلبي” “La dialectique négative”، يتبنى فكرة تنفي التطابق الجذري(15) .
وبالتالي فمنطلق انتقاد أدورنو لمبدأ الهوية مبني على عدم وجود ترابط منطقي بين الذات والموضوع، بمعنى أن هناك مناطق غير معقولة في الموضوع بالنسبة للذات، والذات في صراع جدلي مع الموضوع، بهذا يقترح أدورنو مبدأ التفكيك عوض المماثلة في كتابه “الجدل السلبي”. فالذات الإنسانية ليست متطابقة مع الموضوع، بل هي في تعارض معه ولا تماثل بينهما، لأن الموضوع يعتمد على الواقع، وبما أن هذا الواقع قمعي تسلطي يعتمد على الثقافة المصطنعة التي تناسب النظام القائم ،فإن الذات غير حرة فيه(16) ، لهذا السبب يفصلها أدورنو ويجعلها  تمارس حريتها الخاصة في عالمها الخيالي. فالوعي يستطيع أخذ أفكار الأنا موضوعا للتفكر عوض البحث عنه في الواقع. كما أن الذات تتمثل في نقد تصوراتها عن الموضوع ونقده، وقد أدى هذا إلى تخلص الفكر من وهم إدراك الواقع،  بكونه كليا، لأن هذا  يعني تحويل الموضوع أو الواقع إلى كتلة كلية.وحاول بذلك أدورنو تأسيس طريقة سلبية تقوم على الاختلاف والتفكيك عوض التماثل بين الواقعي والعقلي، وبالتالي التخلص من الروح النسقية، التي تقوم على تمجيد العقل التماثلي،والانتقال من روح التماثل إلى اللاتماثل ومن الإيمان بواحدية المعنى إلى زوالها وتعددها وزوال النسق العقلي الهغيلي.
 نفهم من ذلك أن أدورنو، يرفض وضع العقل في إطار ضيق، باعتباره يوجد خارج التاريخ أو خارج نسق منطقي مسبق، وإنما عقلا تاريخيا يتوفر على ثقافته الخاصة التي تبتكر وتبدع في عالمها الخاص، متحرّرة من الثقافة التي تؤمن بالمفاهيم الإيجابية المتمثّلة في الهوية والتماثل والمطابقة، والانتقال إلى الجدل السلبي للكشف عما هو مغيب من حقائق وأفكار، عن طريق إثارة المفارقات والتناقضات والإشكالات(17) .
وعليه فأدورنو يبتغي من وراء هذه الروح الجدلية السلبية التوجه إلى اللاحقيقة واللانسقية واللانظام عبر روح التجزيئية. ولم يقتصر نقد “أدورنو” على العقل الفلسفي المثالي الميتافيزيقي، إنما تعداه إلى نقده للثقافة التي ينتجها المجتمع الرأسمالي باسم التقدم والعلم.
لقد كان هاجس أدورنو هو إدخال الجدل في المجال الإستطيقي، فكل شيء في تحول دائم في هذا الصدد يرى أدورنو أن ليس هناك شيء قبيح بحيث يمكن أن يصبح هذا القبح جميلا، وكما لا يوجد شيء جميل، فمن غير الممكن القول بأن الجميل يغرب الشمس دائما، وأيضا بإمكان الفتاة الجميلة أن تتحول إلى فتاة مخيفة جدا، ومن هنا يصبح الجميل والقبيح غير متناسبين، ولكن بالأحرى يصبحان كل واحد نفيا لأخر(18)  .
أما إستراتيجية الفن فهي تتجلى في استعادة ما هو مقموع في الذات، فهذه الطريقة تؤدي إلى قلب آليات الحداثة، و أسس الحداثة الأداتية، كما أنها زحزحت النسق. وهنا يرى الأستاذ معزوز في هذا الكتاب” جماليات الحداثة أدورنو و مدرسة فرانكفورت” بأن “أدورنو” حاول تقويض “مذهب الهوية” والتطابق وفسح المجال أمام الزائل والعابر والمخفي ليصبح موجودا، فكيف ذلك؟ لتأسيس خطاب حداثي متمرد على نسق العقلنة، “فأدورنو”حاول تأسيس حداثة لا تواصلية، وهنا يرى أن اللغة أصبحت خادمة للثقافة الجماهيرية(19) .
إذا كان الخطاب الفلسفي العقلاني يقوم على النظام والتواصل والإستمراية وشمولية الفكر، فإن الخطاب الإستطيقي يحاول الهروب من النسق، ومن ثمة، يحاول قراءة هذا العالم من خلال فن المحاكاة، بواسطة أسلوب النفي المتعلقة بالكتابة الشذرية(fragment) ، بحيث هذه الطريقة “التفكيكية” تحاول التشويش على كل ما هو منتظم، وبالتالي، عدم ضمان الحقيقة، فهذا الخطاب يقوم على الفراغات وعدم الكمال وغياب المعنى والدلالة(20) . هل هذا يعني أن “أدورنو” يدعو إلى الانفتاح، يعنى الخروج من مبدأ الهوية إلى مبدأ التعدد وزوال المعنى، وبالتالي الدعوة لتبني موقف مفاده أن هذا العالم غير متصالح ويحتاج للتصالح من جديد بواسطة الأخر؟
يظهر الخطاب الفني النقائض التي سقطت فيها العقلانية، فهو خطاب غير مستقر، لا يقول الحقيقة ولا ينفيها، لا يثبت ولا ينفي، لا يدعي اليقين واللايقين،  فهو محكوم عليه بالتخلي عن كل الوعود بالسعادة لكي يستمر في الوجود، فالوعد متعلق بالثقافة الرسمية. فأسلوب “أدورنو” حسب المؤلف أسلوب غير مألوف” يتميز” ب “الباراتكسيس”             parataxis””، وهذا الأسلوب يسمح بالجمع بين المتناقضات، وعدم التماسك، وفي هذا يقول” أينياس مييرسون”) i meyerson ) ” من الصعب عرض هذا الكتاب المكتوب بلغة جدّ مجردة، وبمصطلح عائم. فهو كعرض غير منتظم ينتقل من موضوع لأخر، ومن مسألة لأخرى، ويجمع بكيفية متعمدة الأضداد “(21).
تطرّق المؤلف في كتابه السالف الذكر إلى قضية أساسية تتعلق بأزمة اللّغة من منظور “أدورنو” وذلك من خلال تتبع السيرورات  الاجتماعية لتقهقر اللغة، ويرجع المؤلف تراجع اللغة إلى طريقة تقسيم العمل المسؤولة عن انحطاط اللغة،فأصبحت محصورة في الجانب التواصلي، وفي هذا يقول أدورنو” فالتواصل هو بالفعل تكيّف الفكر مع النافع، الذي ينخرط بواسطته في مقولة السلع(22) .
وضع “أدورنو” أزمة اللّغة في صلب اهتماماته، فالرجل كان مناهضا للروح المفهومية، والدعوة إلى الخطاب اللا- مفهومي(Non- conceptuel ، فهو يرى على الفيلسوف أن يواجه اللغة في انهيارها.يسمي” زيما” هذا التوجه؛ بنزع الدلالة عن اللغة، وتعريتها من المعنى، ويسمي “أدورنو” هذا الموقف” ما بعد أو ما وراء العلمي ” (23)
يرى المؤلّف في كتابه على أن الحل الذي يقترحه الفيلسوف” أدورنو” للخروج من أزمة اللغة يتجلى في استعادة البعد الإستطيقي، القادر على إرجاع للغة قوّتها المفقودة،وابتعادها عن البعد التواصلي. يظهر “أدورنو” أزمة الحداثة الأداتية، وفسح المجال أمام اللغة “المجازية”. وفي هذا يقول زيما” بأن أدورنو” تمرد على لوغوس النسق “(24)، فالكل يمثل اللاحقيقة، فهو حاول الشّك في صلاحية المعنى، وتقويض للكلية، لبناء إستطيقية غير متصالحة، ويصبح عدم التصالح هو الخاصية المميزة لقوّة العمل الفني السلبي.
شكّلت الرّواية حسب ” المؤلّف” أحد العناصر الأساسية في التمرد على الثقافة العامة، فهي تجسد كل التناقضات التي توجد في المجتمع الاستهلاكي، فهي تقول بأن هذا العالم يعرف العديد من التّصدعات والتّمزّق على جميع المستويات. كما تدل الرّواية على “سوداوية” العالم. فالرواية تقوم بتجسيد العالم بمشاكله وأعطابه وأوهامه، فهي تعبّر بلغة ساخرة على فضاعة العالم، وتظهر خرافته في العالم الفني(25) .
إذا كان العقل ثار في وجه الطبيعة، وحاول الهروب من سجنها، فإنّه سقط في صور جديدة من الوحشية، وفي صنع أساطير جديدة، لهذا يبقى دور الفن هو بيان هذا               التناقض الحاصل في الحداثة والمجتمع التسلطي.فالتّغيير الفني أو الإستطيقي للواقع لا يكون مباشرا، بحيث التغيير يكون بفضل الوعي بالمفارقات الموجودة في العقلانية الأداتية، والتي اكتسحت كل مظاهر الحياة، ولكن التّغيير يحصل عندما يتحرّر الفن من التواصل مع المجتمع. وفي هذا الصدد يقول “أدورنو” حتى يكون الفن حقيقيا، عليه فعليا أن يرفض الدخول في أنساق التواصل(….) وفي انسجام مع نفسه، يكون الانزواء النخبوي للفن المتطوّر هو رد فعل ضروري ضد المجتمع(26) .
وجّه ” أدورنو” عدّة انتقادات  لمفهوم “البراكسيس” الذي كان معمولا به في “النظرية الماركسية”، بحيث قام ” أدورنو من منظور المؤلف” بقلب هذا المفهوم، فلا يمكن حصره في الدائرة السياسية والاجتماعية، فمن المستحيل من هذا المنظور تغيير الوضع القائم، وعدم  قدرة هذا النموذج في معالجة التناقضات السياسية والاجتماعية، والتي تلوّنت بهيمنة الفكر الشمولي الإيديولوجي، وبالتالي، يصبح من الصعب الرهان على “البراكسيس” الذي ولد داخل رحم الأنظمة الشمولية(27) .
لكن بالمقابل، يرى ” أدورنو”  من منظور المؤلف أنّ مفهوم “البراكسيس” الجديد لم يبدأ بعد، فلا يمكننا الحديث عنه إلّا عندما نبتعد عن الفكر التسلّطي، والانتقال من الواقع القمعي إلى واقع الفن الحقيقي،  والتحوّل بذلك من “البراكسيس” السياسي والاجتماعي إلى ما هو إستطيقي. فهذا المولود الجديد لا يكرس الهيمنة ولا العنف ولا الإيديولوجية كما هو الحال في عصر الحداثة، فكيف يمكن لهذا “البراكسيس” الجديد التحرر والتأثير في المجتمع(28) ، وهل يمكننا القول إن هذا الهروب من المجال الفلسفي إلى المجال الإستطيقي هو ناتج عن فشل رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت في مواجهة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية؟  وكأنه هروب المنهزم من المعركة؟ وهل هذا التأثير يكون مباشرا للأعمال الفنية أم يكون غير مباشر؟
تحاول الثقافة الحديثة تزييف حقيقة الواقع، وذلك عن طريق كل مؤسساتها الرسمية، فهذه الثقافة جعلت كل شيء منمّطا ومزيفا في قوالب معينة، ما يسهل من مأمورية إخفاء كل التناقضات المجتمعية، وهذا ما يسميه “أدورنو”ب القناع التكنولوجي “(29).
صارت التقنية قناعا إيديولوجيا في المجتمع الحديث، والذي لم يعد يميّز بين الصحيح والخاطئ و الحقيقي والمزيف و التحرر والقمع، فهي تقوم بملأ هذا الفراغ الموجود، وتكرس نفسها لتذويب التناقضات، وإدخالها في بناء كلي. يتحدّث ” والتر بنيامين” عن التحولات التي عرفها الفن في عصر التقنية، فهي أزالت القناع النخبوي للفن(30) ، وجرّدته من كل الطقوس السحرية التي كان يرمز لها الفن في السابق. وهنا سيجرنا الكلام للحديث حول أصل الفن، والتغيير الذي طرأ على دور الفن في  المجتمع.
يرتبط الفن ارتباطا وثيقا بالتعبيرات البشرية، والسبب يعود إلى كون كل التعبيرات الفنية كانت من صنع الإنسان؛ بمعنى هو الذي خلق لنا أشكال فنية في الأصل،وإذا عرجنا على وضعية الإنسان البدائي، نلاحظ أن جميع الأعمال الفنية كانت تحمل عدة أبعاد؛ ومن بين هذه الأبعاد نجد البعد الطقوسي. كانت كل الأعمال تحمل بعدا مقدسا، وهذا من سمات الكائن البشري الذي يمتاز بفضوله، وهذا يدفعه ليحلل كل ما يحيط به في هذا العالم. كما أن هذا البعد السحري الذي تمتاز به الأعمال الفنية تكون لديه أهداف واضحة ،وهي تفسير الظواهر الطبيعية للبشر، وتفسير العالم ومصدره وغاياته، وفي هذا الصدد نجد لدى الهنود أن الفن كان يحمل طقوسا خاصة بالنسبة إليهم(31)  .
يعتبر الأستاذ معزوز على أن أدورنو حاول في تصوراته الجمالية تفكيك كل الطقوس التي كان يرمز لها الفن في السابق، فالفن في عصره تمرّد على لغة الميتافيزيقا ولغة التعالي، وبالتالي الدعوة إلى تحرير ذاته من التعالي، والرجوع للمصالحة مع هذا العالم الإنساني. لكن في خضم هذا التحول العسير، أصبح الفن مهددا بالزوال في ظل التصاعد الكبير للحداثة التقنية. هنا يطرح المؤلف التساؤل التالي: فماذا حدث حتى تتحول سيرورة تحرره واستقلاليته إلى خطر يهدده بالزوال(32) ؟ هل يفهم من هذا أن الفن هو التعبير الإنساني عن القلق، وبالتالي فهو إنساني خالص وبما أنّ العالم صار أكثر توحشا وهمجية وتسمّم بما هو غير إنساني، بات الفن مطالبا بالرحيل إلى عوالم أخرى؟
يعتبر الأستاذ معزوز على كون قضية تحرير الفن من الأمور الأسطورية، لم يكن أمرا مفيدا بالنسبة للإنسان، فهذا الأمر، أدى إلى انفصال الطبيعة والطبيعة الإنسانية،على اعتبار أن الإنسان جزء من الطبيعة، ولا يمكن فصله عنها(33) .
يرى المؤلف أن أفضل وسيلة يمكن للفن المعاصر أن يمارسها هي مواجهة عقلانية الحداثة. عندما يواجه الفن كل الأوهام التي ظهرت مع العقل؛ من قبيل التحرر والتقدم، فهو يعرّي الوجه الخاضع لهذا التعقل الذي يخفي ورائه اللاعقلانية. فالعلاقة قائمة على التضاد، إذا كانت الحداثة التقنية بشّرت بالتحرر والهروب من الطبيعة، فإنها لم تسلم من ظهور بشاعة جديدة؛ تتجلى في التخلف والظلام والإرتكاس. وفي هذا يقول فاندربغ” فإذا فرط ( الفن) في استقلاليته سيكون خاضعا لميكانيزمات المجتمع،و إذا حافظ عليها، فهو لا يفقد فعاليته فحسب، و إنما سيتم إدراجه باعتباره مسالما وغير مؤذ. فهو مطالب بأن يتخذ وسائل العقلنة لمواجهة لا عقلانية العالم التحكي(34) .
 يعبّر الشعر عن حلم العالم، ويبيّن أن كل شيء مختلف. تقوم اللّغة الشاعرية برد فعل ضد  اغتراب العالم، ثم أيضا السيطرة التجارية على الأفراد. تتضمن اللغة الشاعرية القطيعة مع الماضي، بحيث الأنا الذي يتكلم في الشعر يعبر عن رد فعل ضد كل ما هو شمولي، وفي نفس الوقت يعتبر “أدورنو” أن هذا الأنا لا يزال يتحد بالطبيعة التي تشير إليها تعبيراته؛ وكأنّ الأنا فقدت جوهرها الأصلي الذي يميزها وتحاول البحث عنه في الطبيعة، وذلك عبر الحالة الإنسانية  التي تستطيع الطبيعة ارجاعها لحق الإنسان الذي سلب منه، في ظل الهيمنة المفروضة عليه. كما أن الطبيعة لا تخضع لمنطق التشيؤ (réification)، رجوع أنا الشاعر إلى الطبيعة يكون بهدف استعادة ما هو نقي وخالص فيها و عبر دمجه في اللغة الإنسانية لكي يصبح تعبيرا عن مأساة الإنسان، مما يخوّل للإنسان الاتحاد مع الطبيعة، فكل المشاكل التي تجعل الأنا مغتربا عن ذاته هي وجود أمور غريبة فيه،  ويزول كل هذا عن طريق اتحاد البشر بالطبيعة(35) .
 يضع “أدورنو” أزمة الحداثة في صلب اهتمامه  الإستطيقي، فالفن هو القادر على تفكيك و تمزيق كل التناقضات. فالقوة التي يتوفر عليها توجد في قوة السلب التي تكون عن طريق استقلاليته(Autonomie  )(36)،لكي يكون معارضا لكل التوجهات الإيديولوجية التي      تربط  وظيفة الفن بالمنفعة أو التسلية، فلا يجب أن يكون الفن مسيّسا، ولكن عليه أن يبقى داخل إطاره الإستطيقي. فالفن حسب المؤلف عليه تناول أزمة المعنى التي غابت في عصر التقنية، وفي هذا يقول أدورنو” لا يستطيع الفن أن يحافظ على  حقيقته و أصالته سوى بالتعبير عن أزمة المعنى، بواسطة دفعها إلى حدها الأقصى، و إلى ذروة السخط “(37).
لا يمكن للفن حسب المؤلف أن يساهم في خلق أساطير جديدة، خصوصا أسطورة العقل الأداتي. ولكن لا بد للفن من تحقيق الاستقلالية المرهونة هي أيضا بممارسة النقد، ليكون ناقدا لكل أحلام العقل وتقويض خطاب العقلنة، والهروب من الخطابات الإيديولوجية التي تتربص به. كما يشير الأستاذ إلى كون الفن النقدي لا يقوم إلا عندما يعتمد على ذاته؛ لأن كل ما هو خارجي محكوم عليه بالتشيؤ الذي يفتقر حسب المؤلف إلى المعنى والدلالة والهيمنة، وفي نفس الوقت عندما يعود لذاته يجد التمزق والتصدع، بهذا يصير الفن تعبيرا عن التناقضات سواء الداخلية أو الخارجية، لا يكون فنا إلا إذا تمكن من التشظي والتشذر، ليقول بأن العالم يعرف البؤس، وأن الذات بدون معنى، في هذا يقول أدورنو” إن الفن الحقيقي هو فن تجريبي، متشظ ومنشطر. ويقاوم بكيفية لا تقبل المصالحة الوعي الزائف(38) .
يرجع “أدورنو” الفن واستقلاليته إلى لحظتين أساسيتين وهما: لحظة اللا- واقع و اللا- وجود، ولحظة الواقع والموجود” وعكسيا فلحظة اللا- واقع واللا- موجود في الفن لم تتحررمن الموجود “(39). يتكلم” أدورنو” حول مبدأ المغايرة كمفهوم أو الغيرية  le concept d altérite).
 لقد تبنى أدورنو منطق التفكيك في نسقه الفلسفي، لكي يتجاوز فلسفة هيغل التي كانت سائدة تلك الحقبة في المجتمع الألماني، رغم أنه انطلق من بعض أفكار هيغل في فلسفته، فهو سلك طريق التفكيك  ضدا على التجانس الهيغيلي. فلا يمكن التغلب على هذا التطابق إلا عبر الأخر الذي يمثل حسب أدورنو اللاتصالح، وهذا الأخر يحمل عدة معاني، فهو يدل أولا على عدم التجانس واللاتطابق، وسيكون الأخر هو ذلك الوجه الخادعla (figure trompeuse) ، بقدرما هو غائب أي الغير  بقدرما لديه إمكانية ليكون من لا وجود؛ بمعنى محاولة تحطيم الفكر الذي يعتبر نفسه في مركز العالم ولا يعترف بالأخر الذي يستحق أن يكون من الوجود هذا(40) .
لم ير أدورنو بأن الأخر يعني تصالح العالم، بل يقصد به بأن هذا الكون غير متصالح، ويحتاج بالتالي إلى الاختلاف والتعدد، وهذا الاختلاف لن يحصل إلا بواسطة الفن الذي يعتبره هو لغة العالم؛ أي الفن هو الوسيلة الوحيدة لتكريس الاختلاف وتحطيم  التطابق الحاصل في التيارات الفلسفية التي تحاول القبض على الحقيقة في أنساق معينة  ومضبوطة جيدا بواسطة الفكر المنطقي الذي لا يترك أي شيء للصدفة، لكن الغريب في الأمر، أن هذا العالم يعيش معاناة حقيقية ولا يمكن معالجة القلق الذي يعاني منه البشر في الفكر المثالي أو الفكر المنطقي، وإنما يمكن معالجة هذا القلق بواسطة الفن الذي يتجلى دوره في جعل غير الممكن ممكنا، بحيث  كل ما لا تستطيع الفلسفة دراسته أو التعبير عنه، يمكننا التعبير عنه بواسطة التجربة الفنية، ومن ثمة، تصير التجربة الفنية تركز على كل ما هو غير موجود، لطالما كان الآخر (l’autre) في الفن ليس موضوعا للمعرفة لكن كل ما هو مقصي بشرط كتجربة فنية(41) .
يكمن الفن في  كل ما هو مقصي، ويصبح بالتالي موضوع الفن هو الاخر كموضوع للتجربة الفنية. وسعيا من أدورنو إلى تبني النموذج التفكيكي، وجعل الاخر كتجربة جزئية كلية، نستطيع في الفن جعل اللامرئي مرئيا في التجربة الفنية، ويمكن كذلك تصور الكلي داخل الجزئي وليس ترتيب الجزئي تحت الكلي، كما كان عند هيغل(42) .
عندما تعارض “الأنا” الأنا الأخرى  فإن العالم يعارض العالم، وهنا نصبح أمام تعدد الدلالات والمعاني، ولا نسقط في النمطية والهوية، وبذلك يكون أدورنو فيلسوف اللامعنى، بحكم أنه يعتبر زوال المعنى في العالم، لأنه لم يعد هناك شيء له معنى واضح وبيّن بنفسه، فمن الحماقة تصور هذا الأمر في العالم المعاصر، وتم تكريس منطق اللاتطابق  واللاتماثل كذلك. ليتحول مضمون الحقيقة إلى مضمون تاريخي، عوض تقسيم العالم إلى الكلي والجزئي، أصبحنا نتكلم عن الأنا والأخر اللذان هما متعارضان بالأساس، وهذا الأخر يوجد خارج التاريخ، ويبقى دور الفن هو قراءة التاريخ في علاقته بالأخر، الذي هو ليس تاريخيا، يسمح مضمون الحقيقة)  (le contenu de véritéبرؤية الوقت والقلق في اختلافه خارج التاريخ، بحكم أن القلق حالة عادية للإنسانية. مضمون حقيقة الأعمال الفنية هو الكتابة اللاوعية للتاريخ في ارتباطه بما هو، بهدف قراءة التاريخ في علاقته بالأخر(43) .
خلاصة عامة: 
نستنتج من خلال قراءتنا المتواضعة لهذا الكتاب أن الأستاذ معزوز سلك طريق التبسيط في الكتابة، بحيث نجد الكتاب عبارة عن شذرات تحمل عناوين صغيرة، وجسّد فيها المؤلف مسألة الإنتقال من الخطاب الفلسفي إلى الخطاب الإستطيقي عمليا، من خلال أسلوب التبسيط وتوظيف مفردات ذات طبيعة شعرية أحيانا، ناهيك عن إعطاء مجموعة من الأمثلة.رغم يبدو من الصعوبة بمكان تلخيص فكر “أدورنو” بسبب أسلوبه الغريب في الكتابة، والقائم على عدم الترابط بين الفقرات.ثم تميّز أسلوبه بطابع شعري موسيقي، فهو يدمج كل هذه الأمور في كتابته التي تكون في قالب مجازي يكتنفها الغموض.
يصل المؤلف إلى خلاصة مفادها أنّ جماليات أدورنو، فهي محايثة، تستمد قوانينها من نفسها ولا وجود للتعالي. كما يلحظ الباحث أن معظم الأفكار التي يعزّز بها أدورنو خطابه الإستطيقي؛ فهي مستوحاة من أفكار مفكرين و أدباء في  المجال الأدبي؛ نذكر على سبيل المثال مسرحيات” بيكيت” التي غالبا ما توحي بعدم النظام والتشظي وسوء الفهم، وكلها توضح غياب النظام والفوضى في العالم المعاصر. كما أن “أدورنو” كان منفتحا على  روايات” فرانز كافكا” وقدرتها على تجسيد التناقض في عملها الفني، فقد شكّلت كتابات هذا الرجل تمردا وانزعاجا على الواقع.
نلحظ ممّا تقدم أن كتابات “أدورنو” تكمل كل واحدة الأخرى، فهي تتكامل مع بعضها البعض. فالرجل نذر نفسه للدفاع عن إستطيقية تجمع بين الأضداد، كإشارة إلى عدم النظام في الفكر الشمولي. كما يبدو أن الفن السلبي حسب المؤلف، هو دق ناقوس الخطر من أزمة وجودية تلاحق الإنسان المعاصر، فالفن لا يقدم الفرجة ولا  المتعة ولكن يقدم العزاء بموت القيم الإنسانية النبيلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ  طالب باحث في سلك الدكتوراه كلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء  
2 ـ   عبد العالي معزوز، جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت، منتدى المعارف، الطبعة الأولى بيروت 2011 ص 14-15                                                      3 ـ   المرجع نفسه  ص 15-16 
4 ـ   المرجع نفسه ص 17-18  
5 ـ  المرجع نفسه ص 20-21 
6 ـ  المرجع نفسه ص 30-31-32 
7 ـ  MAX Horkheimer Theodor , w , Adorno , la dialectique de la raison , fragments philosophiques , traduit d l’allemand par elbanakaufholz éditions Gallimard , 1974 p  13-14
8 ـ  Ibid p 15
9 ـ   Ibid p 33
10 ـ  Ibid p 46
11 ـ  Ibid p 47
12 ـ  أنظر جماليات الحداثة ص 37  
13 ـ  المرجع نفسه ص 45 
14 ـ  المرجع نفسه ص14-15 
15  – المرجع نفسه  ص 26
16 – ibid p 27
17 ـ لقد أخذ أدورنو فكرة نقد الهوية   من الفيلسوف كيكغارد  الذي اشتغل   علىه  في شهادة التأهيل ، وحاول أدورنو تطوير أفكار الفيلسوف الدنماركي في هذا  المجال، كما يبدو الأثر الواضح لفيلسوف هيغل على أدورنو خصوصا في مفهوم الجدل السلبي بحيث أعطاه أدورنو معاني أخرى، ضف إلى ذلك ، التأويل الفينومولوجي  لهوسرل حول علاقة الذات بالموضوع. رمضان بسطاويسي محمد،علم الجمال لىمدرسة فرانكفورت أدورنو نموذجا ،مطبوعات نصوص 90 ،الطبعة الاولى 1993   ص 47)
18 أ  Thodor , w, Adorno , Autour de la Théorie Esthétique , traduit de l allemand  par Marc Jiménz ET ELIANE Koufholz , paris KLINCKSIECK 1976 p 26-27
19 ـ  كتاب جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت ص 47-48 
20 ـ  المرجع نفسه ص 49 
21 ـ  المرجع نفسه ص 54 
22 ـ  المرجع نفسه ص 70-71 
23 ـ   يفسّر” زيما” التوجه العام “لأدورنو”نحو فن المحاكاة يعود إلى كتابات أدورنو الأولى” حول راهنية الفلسفة”. من بين الكتب التي تطرّق فيها “أدورنو” لأزمة اللغة هناك كتابه” أطروحات حول لغة الفيلسوف”( المرجع نفسه ص  72 
24 ـ  المرجع نفسه ص 75 
25 ـ  المرجع نفسه ص 114-115 
26 ـ  المرجع نفسه ص 179 
27 ـ  المرجع نفسه ص 210 
28 ـ  المرجع نفسه ص 211-212-213 
29 ـ   يشير المؤلف في كتابه إلى كون “أدورنو” لا يعالج قضية التقنية كما هي عند” هيدغر”، وإنما من الناحية الجدلية والتاريخية.  (المرجع نفسه ص 214- 215 
30 ـ  المرجع نفسه ص 231 
31 –  Theodor, w, Adorno , Autour de la théorie Esthétique p 97-98   
32 ـ  أنظر جماليات الحداثة ص 249 
33 ـ  المرجع نفسه ص 249 
34 ـ  المرجع نفسه ص 251 
35 أ  theodor adorno , notes sur la littérature , traduit de l’allemand  par sibylle muller , Flammarion , paris 1984 p 49
36 ـ  أخذ “أدورنو” مفهوم الإستقلالية من الفيلسوف ” كانط” لكن التغيير بينهما، هو أنّ أدورنو يجردها من الطابع المثالي، والتموقع على الذات. بل تتمثل الاستقلالية في الجدل القائم بين الهوية والمغايرة.( جماليات الحداثة ص 237)   
37 ـ  المرجع نفسه ص  241 
38 ـ  المرجع نفسه ص 253 
39 ـ  المرجع نفسه ص 247 
40  -Jean – Paul Olive, Expérience et fragment dans l’esthétique Musical d Adorno , Colloque international paris 13 et 14 mai 2004 p 288-289- 290- 291
41 ـ  Ibid p 291 
42 ـ  ibid p 292
43 ـ  ibid p 291
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لائحة المصادر والمراجع: 
بالعربية: 
عبد العالي معزوز، جماليات الحداثة أدورنو ومدرسة فرانكفورت، منتدى المعارف، الطبعة الأولى بيروت 2011 
رمضان بسطاويسي محمد،علم الجمال لىمدرسة فرانكفورت أدورنو نموذجا ،مطبوعات نصوص 90 ،الطبعة الاولى 1993   القاهرة
الأجنبية: 
  Max Horkheimer Theodor , w , Adorno , la dialectique de la raison , fragments philosophiques , traduit d l’allemand par elbanakaufholz éditions Gallimard , 1974 
Thodor , w, Adorno , Autour de la Théorie Esthétique , traduit de l allemand  par Marc Jiménz ET ELIANE Koufholz , paris KLINCKSIECK 1976
theodor adorno , notes sur la littérature , traduit de l’allemand  par sibylle muller , Flammarion , paris 1984
Jean – Paul Olive, Expérience et fragment dans l’esthétique Musical d Adorno , Colloque international paris 13 et 14 mai 2004
رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.