القطائع الإبستيمولوجية بكل من تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم (الجزء الأول)

أسامة البحري
2020-10-21T07:52:00+01:00
دراسات وبحوث
أسامة البحري21 أكتوبر 2020آخر تحديث : الأربعاء 21 أكتوبر 2020 - 7:52 صباحًا
القطائع الإبستيمولوجية بكل من تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم (الجزء الأول)

الطالب أسامة البحري ـ شعبة علم الاجتماع بني ملال
1 : القطيعة الابستيمولوجية بالفلسفة المفتوحة وكذا بفلسفة النفي ” كونزيت و باشلار ”
من بين أنصار الفلسفة المفتوحة نجد: كونزيت و نظريته الاديونية التي تتبنى فكرة إخضاع أسس العلل و بنيات المعلولات الى التمحيص الفكري و كذا التنقيب التجريبي ، و ينقسم ديالكتيك كونزيت إلى مبدأين : الأول يرتبط باعادة مراجعة اية فكرة أو قضية فيلولوجيا وكذا ابستيمولوجيا بدون ان تتدخل الذات، ثانيا: في خضم العلاقة القائمة بين الموضوعية و الذاتية يجب اذن ان تخضع الأفكار الى قاعدة الاستمرارية في تنظيم الافكار عبر رثق المنهج الامبريقي بالمنهج العقلي، وفي هذا الصدد نادى كونزيت بتحقيق معرفة نظرية وكذا تجريبية تتحقق عبر تجارب علمية تجعلها مرئية ولها وزن علمي متين.

وفي هذا الصدد سيسلم كونزيت بفكرة أساسية وهي ان الفكر يجب أن يكون فلسفة مفتوحة، تتقبل ما يناقض ما هو قبلي و ما هو جديد، ولهذا فالمبدأ الأساسي الذي تتأسس عليه هذه الفلسفة المفتوحة، يتمحور اساسا حول إعادة إستدارة الوعي حول مبادئه و أفكاره و مناهجه، بدون اعتبار وجود اية قانون مطلق، وعلى هذا المنوال يكون كونزيت قد انتقد المادية الجدلية و الوضعية المنطقية، لأن المعرفة حسبه لا تنحصر بقواعد مفروضة على العقل كما نجد مع الجدلية المادية أو ما هو لا مادي كما سنرى مع الوضعية المنطقية، بل ان المعرفة حسبه هي معرفة عقلية و تجريبية معا، فعملية اركيولوجيا المعرفة هي انعكاس حسبه، لخلفية نظرية ماضوية منها تتمخض ادوات التنقيب الابستيميه ومنها تتمخض المفاهيم، فكل ما هو ابستيميه ـ عقلي له مكونات تجريبية وما هو إبستيميه ـ تجريبي به مكونات عقلية افتراضية، فهذه الثنائية هي التي يتمسك بها كونزيت.

وفي نفس مسار هذه الفلسفة المفتوحة ظهر غاستون باشلار الذي اعتبر فلسفته هي فلسفة للنفي تتمم الفلسفة المفتوحة لكونزيت، فهي فلسفة تنفي نفيا مطلقا المعرفة العفوية والساذجة كما ينعتها بورديو أو المعرفة العامية كما ينعتها باشلار، وفي هذا الصدد ينفي باشلار التجربة الإبتدائية او المعرفة المبنية على الوصف الذي يتأسس على الخبرة فقط، فهي فلسفة اذن لا تعترف بالأفكار البسيطة حسب تعبير جون لوك، “اي المبادئ الأولى”، و لكنها تعترف بها إن تعرضت إلى تمحيص نقدي خالص و محض، يزيل عنها الغمام الابستيميه الذي يكسوها، وفي هذا السياق سيسلم باشلار في عمله فلسفة النفي: بأن فكره ليس بفلسفة عدمية أو فلسفة سلبية، بل على العكس من ذلك هي فلسفة بناءة، وطبعا هذا ما نلاحظه بتاريخ الفكر فقد تأسس نظريا على خاصية باشلار هذه ، فلو لم تظهر كتابات ديكارت مثلا، كعمله تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، التي، تبتدأ بتأملات فكرية عقلية وتنتهي بتأملات غيبية، ناتجة عن وجود تفكير يتأسس على مبادئ قبلية أو مبادئ فطرية توجد مع العقل كما يرى ديكارت ناتجة عن الله، لما نهضت النزعة التجريبية مع جون ) لوك بكتابه: مقال في الفهم البشري، (رائد النزعة التجريبية الذي نفى فكرة الفطرنة الدماغية وغيرها بفكرة أن العقل يوجد “صفحة بيضاء” و بفعل الحواس نكتسب “أفكارا بسيطة”.

وكان جون لوك الذي ظهر كرد فعل على الفلسفة العقلانية لديكارت دافعا لظهور الفلسفة التجريبية أيضا مع بركلي بعمله المشهور “مبادئ التفكير البشري” ودافيد هيوم بعمله “رسالة في الطبيعة البشرية” وانتصرت هذه التراكمات إلى الحواس وكذا التجربة العلمية التي حللت فعل الإكتساب عبر تحليل دقيق أدى الى ظهور إيمانويل كانط” القرن 18″ الذي وازن بين النزعة العقلانية والنزعة التجريبة في كتابه “نقد العقل الخالص” الذي يعتبر الثورة الثانية من بعد الثورة الكوبرنيكية.

ولهذا فإن هذا الديالكيتيك الابستيميه الذي تراكم نظريا و امبريقيا عبر القطائع الابستيمولوجية، هو ذاته الذي نجده بفلسفة باشلار، وكذا بفلسفة كانط، ولكن الميزة الابستيمية التي ميزت فلسفة باشلار تتمثل في قدرتها على التركيز المطلق حول أسس الصورة العلمية التي لا تتضح ابستيميا و نظريا الا عبر تفكيكها و نقدها، ففلسفة النفي إذن لدى باشلار، لا تعترف بالكمال المطلق للمعارف، لانها تتاسس على نفي وتكذيب ما هو عفوي بالمعرفة البشرية، فهي اذن لا تعترف بالكمال المعرفي الذي نجده لدى بعض النظريات، لانها تفسر المعرفة بأنها: “مجرد فرضيات تبنى بنفي كمالها و نقدها بإستمرار” ، فان الفكر اذن لا ينفصل عن تاريخ العلم، ان توسطهما النقد الابستيميه.

ومن خلال هذا العرض الذي قمنا به حول فلسفة باشلار نجد من زاوية أخرى أن جان بياجيه بفلسفته التكوينية قد انتقد فكرة النظرة الكمالية للمعرفة، التي كانت سائدة من أفلاطون إلى إيمانويل كانط، ولكن عبر تقدم العلوم أصبحنا نؤمن بفكرة لا النهاية بالمعرفة، و هكذا فإن جميع المبادئ حسب بياجيه، قابلة للمراجعة و التصحيح، فهي اذن تتطور على شكل تراكمي مستمر، ومن أهم التطورات التي وقعت بحقل المعرفة نجد انفصال الفلسفة عن الإبستيمولوجية، لأنه و كما يسلم بياجيه، قد أصبح العلماء يهتمون بتطور فلسفة العلوم و الإبستيمولوجية، وهذا ما عمل عليه بياجيه أيضا، عبر ربط ما توصل إليه حول النمو السيكولوجي بالمعرفة العقلية، وعبر هذا الربط أصبح لدينا توليف بين ما هو خاص وما هو عام: أي “إبستيمولوجية تكوينية “، و هي دراسة تكوينية تنتصر إلى ما هو داخلي بالإنسان، وتتعلق أساسا بعملية “التوليد” الذي يقع بين الحالة الدنيا و الحالة العليا، وكان منهج هذه الدراسة شاملا لدراسات حول علم نفس الطفل بشكل عام، تنبني على منهج مزدوج: التحليل المنطقي الذي يصف ويحلل أساسا كيف يتم الإنتقال من درجة دنيا إلى درجة عليا، ثم التحليل التاريخي النقدي، أي كيف يتم مطابقة و ترجمة المعرفة الداخلية بالواقع، وترى هذه الإبستيمولوجية التكوينية أيضا بأنه، لا يمكننا فهم واقع حي من مبادئه المرحلية الأولى أو الأخيرة، بل يجب تسليط الضوء المهمش الوسيط ببن الأولى والأخيرة و هو التحول والديناميكية، ومن خلال تصور كونزيت و باشلار وبياجيه نخلص إلى أن الإبستيمولوجية في نظرهم هي فلسفة للعلوم مفتوحة.

2 ـ القطيعة الابستيمية بفلسفة العلوم
حينما نعود الى عمل أوغست كونت “دروس في الفلسفة الوضعية ” سنجده قد تساءل عن كيفية خلق إنسجام نظري بين كل من بنية الحقل الفكري وكذا الحقل السوسيولوجي، وفي هذا السياق سلم كونت بأن مرد الإختلاف النظري بين كل من العقل اللاهوتي والعقل الوضعي، يتمثل أساسا في ابتعاد الانسان عن واقعه المعاش، وذلك عبر تناوله لأمور كان من الصعب عليه الوصول إلى حقيقتها “الميتوس” فأعادها بذلك إلى الأوهام” الارواح الشريرة ” وكذا الى المتعالي “ اللاهوت” ولكنها ستكتسى فيما بعد” طابعها الميتافيزيقي “الحالة الميتافيزيقية”، التي ستقودنا مباشرة إلى فكرة كونت المحورية والتي تؤمن جدلا بانه ان ركز الإنسان على دراسة الظواهر مبتعدا عن التأملات الميتافيزيقية وكذا عن التعالي، فإنه سيتوصل مباشرة إلى الجواهر التي تحكم الظواهر وكذا الوقائع الانطلوجية، التي ستجعل منها سهلة المنال وكذا خاضعة لقبضة العقل الانساني (الوضعي)، وهذا من اجل غاية واحدة هي: الاستفادة منها فكرا و عملا.

إهتم كونت ايضا إلى جانب ما سلمنا به آنفا، بتصنيف العلوم، وهي على النحو الآتي: الرياضيات – الفلك – الفيزياء – الكيمياء – البيولوجيا – السوسيولوجيا، ولم يعترف كونت بباقي المعارف لأنه يرى أنها مجرد تطبيق لهذه العلوم، فمثلا السيكولوجيا هي تطبيق للسوسيولوجيا والفيزيولوجيا، ولهذا فقد أصبح من الممكن، بفعل تقدم العلوم الوضعية (الرياضيات – الفيزياء – الكيمياء – البويلوجيا ..) إنشاء علم إجتماعي وضعي يكون للمجتمع كالفيزياء بالنسبة إلى الطبيعة، وهذه هي المهمة الرئيسية للفسلفة الوضعية التي نادى بها أوغست كونت مؤسس السوسيولوجيا ) والتي لا مناص لتحققها مادام أن كل علم غارق في تخصصه، وهذا ما يجعل من بعض العلماء يتجاوزون بعض المواضيع ، تحت دعوى ان العلم لا يجدي فيها شيئا، وفي هذا الصدد سيبلور اوغست كونت فكرة اساسية تدافع عن خلق تخصص علمي جديد يضاف إلى جانب الاختصاصات الأخرى، والذي سيعنى بدراسة التعميمات العلمية، وهذا ما سيكون لنا (فلسفة للعلوم تشتغل كأداة منهجية تفصل بين العفوي و العلمي ” القطيعة الابستيمية”).

ولهذا فإن الباحث حسب كونت يجب أن يهتم بالعلوم ، وذلك عبر فهم جواهرها و مناهجها و غاياتها من اجل القطع مع كل ما هو خارج عن العلم، ففلسفة العلوم هذه حسب كونت هي التي يجب أن تحتل مكان الفلسفة الميتافيزيقية ، لكي تصبح هي و الفيزياء الإجتماعية (السوسيولوجيا ) يشتغلان في نقطة واحدة عبر “تفسير الاجتماعي وضعيا – القطيعة الابستيمية ” وفي سياق نقاشنا حول الوضعية الفرنسية التي كانت لها قيمة علمية بفرنسا ”القرن 19”، نجد أيضا ان بالقرن بألمانية قد ظهرت وضعية جديدة تزعمها الفيلسوف و الفيزيائي: ” أرسنت ماخ “.

وقد ظهر هذا الإتجاه الفينومينولوجي كرد فعل على فلسفة المطلق لهيغل وكرد فعل ايضا على فكر فخته وشلينج والنزعة الميكانيكية التي كانت سائدة بالفلسفة الطبيعة منذ نيوتن، وقد انتصر هذا الفكر بشكل كبير إلى لامادية بركلي، والذي يتزع فكرة أن الإنسان لا يكتب معرفته من أي مكان آخر سوى الحواس، وأن الكل الذي تكونه الأحاسيس هو رمز، لأنه وكما يرى ماخ: الأحاسيس تتكتل مع بعضها البعض لتعطينا مركبا، قابل لأن يسمى بأي إسم ك”شجرة – ” ماء ” الخ، ويعتبر هذا المركب أو الرمز الذي يتمخض عن تداخل الأحاسيس نسبي.

و في هذا الصدد سيسلم ماخ بأن جواهر الوجود ليست هي الموضوعات المادية و الأجسام، بل دافعهم الأساسي هي الأصوات و الألوان، و يتقدم ماخ اكثر من ذلك مسلما بان الاهتمام بالمادة والقابل للملاحظة هو دافع للا إهتمام باللاظهراتي و المتخفي، وكان هذا الطرح الذي ينتصر إلى نقطة الإحساسدافعا محوريا لتمخض الوضعية الجديدة التي تدافع عن وجود القطائع الابستيمية في كل سياق نظري، وقد عرفت هذه المدرسة ايضا باسم التجريبية لأنها أعلت من قيمة التجربة المصحوبة بالعقل، وبذلك تكون قد اعلت من الفكرة المثفق عليها من طرف التجريبيين و هي أن التجربة مصدر للمعرفة.

ولهذا فقد حاربت فكرة الأفكار القبلية التي جاء بها الرواقيون و ديكارت، وقد جاءت أيضا هذه التجريبية المنطقية كرد على التجريبية التي نجدها مع جون لوك ودافيد هيوم التي تسلم بأن الانسان يستحيل أن يصل إلى معارف فلسفية أو علمية يقينية، لأن المعطيات التجريبية الحسية هي في نظرهم غير ثابتة ومحكومة بالتغير وبالتدفق حسب تبير أفلوطين، ولهذا فإن هذه التجربة المنطقية ستغير النظرة إلى التجريبية بقلب المحتوى رأسا على عقب، مركزة على أننا يمكننا التوصل إلى معرفة منطقية، ان ركزنا على القضايا التي تحمل محتويات منطقية كقضايا العلوم الطبيعية والرياضية مثلا، وأن نبتعد بذلك عن كل القضايا الفارغة من المعنى كالقضايا الميتافيزيقية و اللاهوتية، ومن منظور هذه المدرسة الوضعية الجديدة يوجد نوعان من المعارف: المعارف التي ترتبط بدافع اللغة وصور الفكر والمعارف التي ترتبط بفينومينولوجيا الواقع أو ما يتمظهر عن الواقع وما يتمخض عن التجربة.

وتعتبر المعرفة الثانية معرفة علمية تتمخض عن لغتنا التي تحمل معاني ” فكرية – ثقافية ” و على هذا للمنوال يجب أن نخضع لغتنا أيضا إلى تحليل منطقي صارم لكي نتوصل إلى الجوهر الأصلي الذي تنقله لنا التجربة، وهكذا تصبح لنا فلسفة موضوعها الاساسي هو تحليل الكيفية التي نتحدث بفعلها عنها، وهذا ما يعطينا ” منطق للعلم ”، ويرى كارناب في سياق هذا الموضوع أن ماهية هذا العلم لم تتحدد و لكننا سنميزه عبر نعته (منطق العلم )، والعلم حسب كارناب لا يرتبط بثاثا بالعبارات التي يصوغها العلماء، لانه هو المكون للحياة الجارية، و لهذا يرى كارناب أن هذا المنطق العلمي يجب أن يدرس كيفية تكون المفاهيم مثلا و كيفية تكون الفروض و كيفية تكون النظريات البيولوجية الخ، أي البحث في كيفية البحث لكي نحقق اكبر قطيعة إبستيمولوجية بالبنية البحثية لاسس معرفة العقل البشري.

وهكذا يمكننا القول بأن الوضعية المنطقية تلح على توجيه نظرة نقدية إلى المكونات المعنوية – اللغوية التي تعبر بها العلوم عن وجودها ، من اجل غاية اساسية تتمثل في الحد من المعرفة العفوية التي تدخل إلى الحق العلمي، زد على ذلك نجد وجهة نظر أخرى، و هي وجهة النظر التطورية مع هربرت سبنسر التي تؤمن بأن عالم الفكر والمؤسسات الإنسانية في تطور، عبر تأثر الأشكال العليا من الواقع (الماكرو – سوسيولوجي)، بالميكرو – سوسيولوجي اي بالأشكال الدنيا من الواقع، ومما لا شك فيه أن مفهوم التطور ليس بمفهوم جديد، بل نجده في حقل البيولوجية ظهر مع تشارلز داروين بكتابه أصل الأنواع بالقرن 18، وأقام بمفهومه هذا ضجة إبستيميه إكتسحت جل ميادين المعرفة لتصبح كما كانت و لازالت بعدما أقحمت بالحقل الفكري ، لتصبح علاقة فكرية ضرورية وشبه حتمية كعلاقة التطور من المادة إلى الفكر، ومن بين من تأثروا بنقطة التطور هذه نجد هربرت سبنسر 1820 – 1903 الذي كان من أولائك الذين أقحموا مفهوم التطور بالعلوم الإنسانية.

ولهذا فقد أقر بأن قانون التطور هو مبدأ ينطبق على جل مكونات الوجود و أبعاده، وفي كتابات سبنسر نجد أنه قد إجتهد في رثق أو توليف مختلف العلوم التي عاصرها، ليعطينا فلسفة تركيبية، مركزا على مبدأ التطور بكونه قانونا أساسيا في جمع شتات العلوم مكونة وجدة متناسقة، مشكلة بذلك حقلا من العلوم، مكون من العلوم المجردة “المنطق ، الرياضيات ” والعلوم المجردة – المشخصة ” الميكانيكا، الكيمياء، الفيزياء ” العلوم المشخصة ” الفلك، الجيولوجيا، البيولوجيا، السيكولوجيا، السوسيولوجيا ” ومن خلال ما صرح به سبنسر في كتاباته يتبين لنا أنه قسم المعرفة إلى ثلاثة: المعرفة العامية ثم المعرفة العلمية ثم المعرفة الفلسفية، وهذه الأخيرة و هي المعرفة الفلسفية، هي التي كما سلمنا تجمع شتات العلوم بمساندة من مبدأ التطور، و هذه في حد ذاتها فلسفة للعلوم التي تقيم تحولات بين الماضي و المستقبل، بفعل محاربة الثبات الحاضراتي، زد على ذلك نجد وجهة نظر المادية الجدلية التي اعتمدت أيضا قانون التطور و لكنه تطور دياليكتيكي قائم على صراع الأضداد.

ويرى إنغلز في هذا الصدد بأن الفكرهو تاريخ تطوري ، و يقر أيضا بأن الدياليكتيك هو الذي يوضح ما يقع من تطور في جل أبعاده، و ينتقد أيضا انغلز الذين يهمشون الفلسفة و في نفس الوقت يستعملونها و المشكل كما يقر انغلز بمحاولتهم الإبتعاد عن الفلسفة فهم يستعملون أسوأ فلسفة و لهذا فهو يرى بأن العلماء مهما فعلوا فهم تحت سيطرت الفلسفة و يختم إنغلز بتوجيه سؤال مفارقاتي وهو يبقى الإختيار بين فلسفة كموضة و الفلسفة كبناء عقلي نظري، هو أمر نتاج إرادة المعرفة التي هي أبعاد لا متناهية بفعل التطور الابستيميه للعقل، فهناك كما أشرنا مع انغلز من يعتمد الفلسفة كموضة وهناك من يعتمد على تاريخ الفكر و مكتسباته، وهذا الثاني حسب انغلز هو المادية الجدلية بالذات و فلسفة العلوم تنبني على هذه المادية الجدلية التي كما قلنا هي جسد تاريخ الفكر ومكتسباته، ويرى فاطاليف أيضا في سياق انغلز هذا ، أنه يجب اتحاد العلوم لتطبيق المنهج العام لنظرية المعرفة ، من أجل فهم تطور العالم و المنهج العام هنا هو الديالكتيك و تطور العالم هو المادية الجدلية.

القطيعة الابستيمولوجية بتاريخ العلوم
إذا ما عدنا إلى بيير بوترو سنجده يرى بأن دراسة تاريخ العلوم هو الوحيد الكفيل بأن يفتح لنا باب الوصول إلى حقائق جديدة ، نساهم بفعلها في تأسيس أسس للتفكير العلمي، و لهذا يميز بوترو بين أربع أنواع من تاريخ العلم، أولا: البحث الوثائقي، و يتعلق بجمع النصوص المتعلقة بمنهجية المفكرين والعلماء سواء القدامى أو المعاصرين، ثانيا: هو تجميع النظريات والفروض بشكل عام عبر العصور، والإهتمام بها من خلال تسليط الضوء عليها، ثالثا: و هو توطين النظريات، وذلك بإعطاء كل شعب خلفيته العلمية التي تتمثل في الإكتشافات، ولكن ما يهم الإبستيمولوجية بالخصوص من خلال هذا التقسيم الذي قام به بوترو و باقي تقسيمات العلم الأخرى، وهو أن التاريخ يجب أن يساهم في سماكة و عمق مهاد الفكر العلمي، وذلك بآلية أساسية وهي النقد واختيار ما يهم الفكر العلمي لأجل التطور، أي بتعبير الجابري ” ما يهم الإبستيميولوجية من تاريخ العلوم هو تطور المفاهيم و طرق التفكير العلمية، وما ينشأ عن ذلك من قيام نظريات معرفية جديدة 4 ”.

ولكن إن نظرنا من زاوية أخرى، خصوصا إلى كيفية تكون هذه المفاهيم ، فهل هي نتاج الإتصال أي هل هي لبنة فوق لبنة، أم هي كما يرى فوكو عبارة عن انفصالات وتعرجات، و هذه الوجهة النظر الثانية هي السائدة الآن بحقل المعرفة، وهي ترى بأن عمليات تكون المفاهيم أو الخطابات بتعبير فوكو، تختلف من عصر لآخر، فكل عصر و بناءه لمضامينه و مفاهيمه، فهو إذن تطور يتأسس على إعادة بناء نسق النظريات مما يؤدي إلى تعرجات بتاريخ الفمكر وانفصالات أيضا، فهو ليس تاريخا ستاتيكيا، بل هو عملية ديناميكية تتمخض عن فكرة ”التاريخ اللامكتمل ” أو بتعبير آخر وطبعا حسب راسل فهو يرى بأن كل فيلسوف يرى بأن الفلسفة وقفت بيديه وأنه يجب أن يضع الجديد، وهذه الديناميكية للعقل هي من جعلت من القطيعة الإبستيمولوجية، دائما ما تتحقق، لأن المفكر يرى بأنه لا يوجد اتصال بين القديم و الجديد، فالأمر يشبه سلسلة تنبني الجديدة من أخطاء الأخرى.

وهكذا، بمعنى آخر أن تاريخ العلم هو ليس تاريخ الآراء و النظريات العلمية، ولكنه تاريخ النشاط العلمي، أي أنه نشاط بين الخطأ والحقيقة، وهذا ما يضمن استمراريته، فهو عبارة عن نشاط الوعي الإنساني الذي له علاقة لصيقة بالواقع أي هناك علاقة وطيدة بين الذات و الواقع ، أي أمام علاقة مستمرة بين الذات و الموضوع ، وهذا ما يؤدي إلى ديناميكية فكرية تغير اللامتغير و تساهم في تدرج الابستيميه – ميكرو فيزياء عن ماكرو فيزياء المعرفة، والتي هي في صالح الجنس البشري، مما يجعلنا نقول أن تاريخ العلم و تاريخ البشرية هو خط واحد.

ولهذا يمكننا أن نخلص إلى أن الإبستيمولوجية هي علم المعرفة، وبما أن هذه المعرفة تتمخض عن الإحتكاك بين الذات العارفة و الموضوع، فإن الإبستيمولوجية إذن هي التي تهتم بالعلاقة التي تجعل من هذه العلاقة ”علاقة تجاذب” أي بطريقة مغايرة دراسة البعد الذي يدفع بالذات العارفة إلى الوصول إلى الموضوع، ويجعل من الموضوع يتجاذب حول الذات العارفة، وهذه العلاقة هي دافع تاريخ الأفكار التي تطورت بفعل تطور وعي الإنسان و تطور النشاط العلمي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.