الحرية وأثرها في نهضة الأمة واستقرارها

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي30 مارس 2022آخر تحديث : الأربعاء 30 مارس 2022 - 9:26 صباحًا
الحرية وأثرها في نهضة الأمة واستقرارها

ذ. محمد جناي
الحرية هي الصفة الطبيعية الأولى التي يولد بها الإنسان، فهي من مقومات فطرته، التي فطره الله تعالى عليها، قال صلى الله عليه وسلم: “ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، ويُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ” ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ} [الروم: 30]، رواه البخاري، يقول ابن عاشور عن أصالة الحرية في الإنسان: “والحرية بهذا المعنى حق للبشر على الجملة، لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكن فيه حقيقة الحرية ، وخوله استخدامها بالإذن التكويني، المستقر في الخلقة “، وعبر عن هذا المعنى الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه موبخا واليه على مصر، عمرو بن العاص رضي الله عنه، بعد ما تناهى إليه أنه يعامل الرعية باستعلاء يقول :” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا “، بمعنى أن ” كونهم أحرارا أمر فطري”.

فخلق الله الإنسان حرا مختارا، قادرا على الفعل ونقيضه، لأن الله وضع كل شيء بمقدار، ومنح الإنسان القدرة على الاختيار الحر، والإبداع المثمر، فخلق النفس الإنسانية وسواها، وجعلها مختلفة الاستعداد في النزوع نحو الخير أو الشر، والهدى أو الضلال، يقول تعالى عن هذه الإرادة في خلق الإنسان مختلف في الاستعداد والاختيار الحر ، معبرا بالإلهام: “فألهمها فجورها وتقواها” سورة الشمس. ومعبرا بالهداية ” وهديناه النجدين” سورة البلد، ” إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”، وهذه الحرية من مقتضى عدل الله تعالى، لأنه لا يتصور تكليف بدون اختيار حر.

ولهذا ومن المسلم به أن حرية الإنسان من أهم القضايا الدينية والفلسفية التي شغلت الإنسان قديما، وعلاقة ذلك بالطبيعة المحيطة به، وحدود العلاقة بين إرادته وسلطة الآلهة، وحدود العلاقة بين حريته وحرية الآخرين من أبناء جنسه، واختلفت الرؤية الدينية والفلسفية في توصيف ذلك، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة العملية.

إلى أن جاء الإسلام وأكد أن الحرية أصل في الإنسان، ومنع الرق والإكراه، وحث على حرية النظر والتفكير، واستعمال العقل، في الكتاب المسطور والكتاب المنظور، لاستخلاص الحقائق بكل حرية، وأكد على ضرورة التعبير عن الآراء، وعرضها على الآخرين، ومناقشتها بمنهج الجدل بالتي هي أحسن، وأعطى الحق المخالف الديني في ممارسة عباداته، وإظهار معتقداته بكل حرية، وأجل الحكم في ذلك إلى يوم القيامة.

جاء الإسلام ووجد ظاهرة الرق والاسترقاق من الظواهر المعروفة والمنتشرة في المجتمع الإنساني يقول ابن عاشور :”إن شريعة الإسلام جاءت وحكم الاسترقاق عريق في نظام الأمم وفي تمدنهم ومتسلسل مع تاريخ حضارتهم”، ويقول القرضاوي: “جاء الإسلام فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستبعدين: فكريا، وسياسيا، واجتماعيا، ودينيا، واقتصاديا، جاء فأقر الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر “.

جاء الإسلام والإنسانية تعج بأشكال الظلم والطغيان، والبؤس والشقاء، فكان القوي يأكل الضعيف يقول علال الفاسي: “نظر الإسلام للرقيق القائم وقت نزول التشريع فحرر كل الذين استعبدوا بوسائل الجاهلية من استعباد الأقوياء للضعفاء بكل وسائل البغي والعدوان “، ويقول محمد عمارة: “لقد حرر – الإسلام- الضمير الإنساني من الإكراه الديني، وحررت فتوحات دولته شعوب الشرق من الطغيان الذي قهرها وقهر حضاراتها ودياناتها عشرة قرون، ثم ترك جماهير هذه الشعوب وما يدينون”.

يقول طه جابر العلواني: “لقد كان التحرير جوهر رسالة الإسلام ومحور عقائده وشرائعه، أدرك هذه الخصيصة من خصائص هذه الرسالة المضطهدون والمعذبون والمستضعفون في الأرض، فأقبلوا عليها بكل عقولهم وقلوبهم، وكانوا من حملة رسالة الإسلام الأولين، كما أدرك ذلك المستكبرون الجبارون فرفضوا هذه الرسالة وقاوموها، ووضعوا شتى العراقيل بوجهها، وأعلنوا الحرب بكل أنواعها حتى نصر الله عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده”.

إن الإشادة بقيمة الحرية التي نجدها في الخطاب الشرعي، ترجع إلى أهميتها في بناء الإنسان الصالح المصلح، ولأهميتها في بناء الدول والأمم، فالإنسان الحر هو الإنسان السوي، الذي كلفه الله تعالى بمهمة الاستخلاف وعمارة الأرض، والأمة الحرة هي الأمة القوية، التي كلفها الله تعالى بمهمة الشهادة على العالم، فمهمة الشهود الحضاري لا تتحقق بالعبودية والإكراه والاستبداد، بل تتحقق بالحرية الفردية والجماعية.

نهضة الأمة وضمان استقرارها رهين بحرية أفرادها، لأن الاضطهاد والقمع والاستبداد، يولد حالة الاحتقان، وينشر الأحقاد في المجتمعات، ويقلل العطاء والإبداع، فينتشر النفاق الاجتماعي، والكذب، والخوف، والتحلل الأخلاقي، فلا استقرار في ظل القمع ومصادرة الحريات، قد تتسبب الحرية في اختلالات معينة، في فترات معينة، وهذا لا يعني ضرورة قمع الحريات، بل إن تصحيح اختلالات الحرية في حاجة إلى الحرية، وهذا ما يؤكده علال الفاسي رحمه الله بقوله:ى” إن دواء الحرية صعب ، ولكنه وحده الدواء الصحيح”.

بغياب الحرية تنعدم في الدولة مقومات الراحة، والاستقرار النفسي والاجتماعي والسياسي، ويستولي على أفرادها القلق، ويتفشى فيهم الفقر، وتضعف همتهم، وتفقد البيئة الملائمة للإبداع والإنتاج، فإن فقدانها هو سبب الفتور الذي أصاب الأمة، وهو المسؤول عن تخلف الشعوب الشرقية، ويدل على ذلك الواقع في عالمنا العربي، ويعبر الكواكبي عن مخاطر فقدان الحرية بقوله: ” وإن بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع ، وتختل القوانين”.

فإن الحريات المدنية والسياسية لا تتناقض مع الاستقرار، بل الحرية تنمي الشعور بالمواطنة الحقيقية، فالمواطن الذي يتمتع بحقوقه وحرياته، يتفانى في خدمة وطنه، كما أن السماح بالعمل النقابي والسياسي والتنظيمي عموما، داخل وطن ما، يساعد على الوعي بالمسؤولية، والوعي بالحقوق والحريات، وممارستها عمليا، لأن وعي الناس بمسؤولياتهم لا يتم إلا بممارستهم للحرية على أرض الواقع.

من أهم مقومات نهضة الأمم هي الحرية؛ فالأمم والشعوب الحرة هي الأقدر على الصدارة وعلى الإبداع والتمييز والانفتاح في جميع مجالات الحياة، والشعب الحر تكون تحركاته منضبطة بضابط ذاتي وأخلاقي بدافع داخلي بدون تأثير خارجي يفرض عليه ما يريد، بعكس الأمم والشعوب التي تعيش تحت العبودية والظلم والطغيان تكون عاجزة وضعيفة وغير قادرة على الإبداع والإنتاج إلا في الحدود التي يسمح بها الطغاة وتغلق العقول والأفواه إلا بما يرضي أصحاب القرار والقيادة لهذه الشعوب، والتي غالبا ما تستخدم القوة والترهيب للسيطرة على شعوبها كما هو واقع أغلب الدول العربية والإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــ
هوامش

(1): النقد الذاتي ، الأستاذ علال الفاسي، المطبعة العالمية ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1952.
(2): طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، عبد الرحمن الكواكبي، دار النفائس ، بيروت ، الطبعة الثالثة ، الجزء الثالث، 2006.
(3): أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ، الطاهر ابن عاشور ، الشركة التونسية ، تونس المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر ، الطبعة الثانية ، 1985.
(4): الحرية وأثرها في الاستقرار والنهضة- دراسة في التأصيل الديني والفلسفي-،تأليف محمد الصادق العماري
لمنتدى النهضة والتواصل الحضاري ومنتدى العلماء ، الطبعة الأولى ، 2021

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.