التموقع الذاتي وتشكيل هوية الشباب المتعدد الثقافات والأصول: أطفال وشباب مغاربة العالم نموذجا

محمد عسيلة
2019-11-10T21:36:38+01:00
آراء ومواقف
محمد عسيلة10 نوفمبر 2019آخر تحديث : الأحد 10 نوفمبر 2019 - 9:36 مساءً
التموقع الذاتي وتشكيل هوية الشباب المتعدد الثقافات والأصول: أطفال وشباب مغاربة العالم نموذجا

محمد عسيلة، أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للدراسات الاجتماعية التطبيقية و فاعل جمعوي
إن هذا الذي نحن فيه، نعيشه ونحمل همه كأسر وأمهات و آباء وفاعلين و”مستهلكين” قد أسال مدادا كثيرا وتعرضت له بعض الدراسات بالمتابعة والتحليل، لكن غابت فيه أحيانا الموضوعية التي نراها مُلزمة لكل دراسة ميدانية: إنه موضوع تشكيل الهوية لأبنائنا وبناتنا نحن مغاربة العالم ـ تشكيل الهوية في سياق الهجرة؛ في عالم ضيق ميكروسكوبي جهوي بالحي و المدينة والمدرسة وكبير ماكروسكوبي، عالم متضارب ومتناقض ومتصارع ومتعدد ومركب وعميق القيم والتوجهات.

ففي هذا السياق تتحدث العلوم التربوية والدراسات على هذه الفئة من الأطفال والشباب من أجل تسليط الضوء على الجوانب الإبداعية والإنتاجية للهياكل الخاصة بالهوية في سياقات الهجرة، فتستعمل في وصفهم مصطلح “ذوي الهويات المختلطة المهاجرة”. وذلك و بصراحة ما كان يحرجنا أحيانا في لقاءاتنا مع بعض المؤسسات التربوية والاجتماعية الألمانية ومسؤوليها: نعت أطفالنا وبناتنا في الأدبيات الألمانية منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى مداخل القرن الجديد بـ “المهاجرين والمهاجرات”: فئة ولدت وترعرعت وشبَّ عودها هنا وليس هناك وولجت رياض الأطفال والمدارس والجامعات ويحملون لَيْس فقط جنسية هذا البلد الآمنِ أهله، بل يتنفسون ثقافته و يشربون من منابعها ويتفاعلون مع مقاصدها كل حسب ناصيته.

كانت تحرجنا لأنها تضع حدودا فاصلة وتكرس بشكل أو بآخر إقصاء دفينا ودون قصد في مثير من المرات ومستترا لا يعرف مقاصده إلا الراسخون الفاعلون المتابعون المتتبعون لهذا الواقع المعيش في ديناميته و تجلياته. وتحضرني هنا تسمية دأبت عليها السياقات التربوية الإسكندنافية حين ذكرها لـ”أجانبها”: الدانماركي بدم جديد! أو السويدي الجديد في مقابل السويدي القديم، فيكون الوصف رغم إشكالياته الاصطلاحية حاملا لدلالة الجِدَّة و تركيبة الدم المقوي والمغذي والضروري للحياة ولا يمكن الاستغناء عنه البتة لأنه دم اختلط القديم منه بجديده!

لا أريد صراحة الخوض في نقاش يتدبر “المصطلح” علما أن هذا الأخير لا يمكن أن يكون دائما بريئا؛ فالتسمية لها ما لها وعليها ما عليها من وزر في تبني توجه أو تدويله، نعم نحمل وزر تبعيات المصطلح والتسمية والوصف الذي لا نصف بِه نحن أنفسنا بل نستهلك ما يحاول الآخر تسميتنا به حسب رؤاه ومنطلقاته ومزاعمه! فنحن المخضرمون من جيل مغاربة العالم في ألمانيا نحس بعبئه ونحاول حسب السياق والمقام والمقال مناقشته أو تفكيك دلالاته؛ فبالأحرى فلذات أكبادنا الذين نحتضنهم في جفون أعيننا ونحاول بما أوتينا من قوة و قلة حيلة سبر أغوار نفسياتهم لتمكينهم التمكين الأمكن من هوية تستند على الأصول المغربية وتعرف بوعي المنابع الثقافية و الدينية لتقوية مناعتهم ضد أي استيلاب فكري ولكي لا يسقطوا في براثن التطرّف و”اللاانتماء الفضفاض” المؤدي لا قدر الله الى هوية مَرَضية هشة، تعيش الانفصام و الهجن.

إن عيشنا كأقلية في مجتمع أغلبيته تختلف معنا رغم انتماءنا لها: تختلف عنا دينيا وعقائديا و ثقافيا يجعل مهمتنا ومهمة أطفالنا و بناتنا وشبابنا نحن مغاربة العالم أمام هذا الزخم الإعلاني والإعلامي والتحدي الذي لا يرحم ولا يدر صعبة ومعقدة كي نصل إلى تحقيق ذواتنا الثقافية وإبراز “نحن” الواعية الفاعلة التي تحمل شئنا أم أبينا على الأقل هُويتين وانتماءين و “قلبيْن”! وعِشقيْن: عشق وحب لألمانيا و عشق وحب للمغرب؛ عشق وحب للثقافة الألمانية وعشق وحب للثقافة المغربية!! وهنا أتوقف لحظة: أين تتجلى هذه الثقافة المغربية التي تمركزت في نفوس هذه الفئة من الأطفال والشباب وماذا قدمنا لهم لكي تعيش هذه الثقافة وتنمو وتتقوى في قلوب وعقول فلذات أكبادنا إلى جانب الثقافة الأروربية/الالمانية؟ أسأل بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد يرحمكم الله!

فجميل أن نصدر نداءات ومطالب مبنية على حسن النية والنوايا، تأخذنا فعلا حين نستعرضها أمامنا ونستعرض نتائجها أقول تقودنا إلى “مدينة فاضلة”جميلة تحيا فيها فقط الفراشات و لا يوجد بها إقصاء ورفض ولا حرور، لا يوجد بها يمين متطرف، لا توجد بها صراعات مبتذلة و مشاحنات، لا يوجد بها عنف ضد الأقليات الدينية، لا نسمع بها أصواتا سياسية تنادي برحيل “الأجانب” إغلاق المساجد واللائحة تطول.

لقد حاول المفكر ستيوارت هول في إحدى مقالاته معالجة موضوع “الهوية الثقافية والعولمة” في مفهوم النظرية الاجتماعية، حيث أشار كثيرا إلى”أزمة الهوية “التي تعيشها هذه الفئة ذات الخلفية الثقافية المهاجرة Migration-Background.

ما استوقفني عند “هول” هو حديثه عن “الهويات”الثقافية بصيغة الجمع وهذا ما علينا التفكير فيه نحن مغاربة العالم دون تعصب بل بحنكة وحكمة و بصوت عالً وعلينا تجاذب النقاش الرصين حوله وتبادل المقاربات الناجحة فيه: فلذات أكبادنا لهم “ثقافات متعددة”وسنخطىء إذن ـ حسب هول ـ المسار والمصير اذا قزمنا ذلك في هوية ضيقة واحدة، مستندين في ذلك على حس فطري أولا بالانتماء لوطننا و لديننا الحنيف ولثقافتنا المغربية. سنكون هنا قد قمنا بإقصاء “الواقع” و”الآخر المختلف” والممتد فينا بحكم الغالبية والكثرة أولا وبحكم مؤسساته وأدوات تأثيره داخل السياقات المدرسية والتربوية والتعليمية والتكوينة وبحكم الترسانة الاعلامية الحاضرة وبحكم علاقاتنا التي نيفت على نصف قرن معه في الشغل والمتاجر والحياة اليومية وهذا كله يترك آثارا (بصيغة الجمع كما قال هول واصفا الثقافة بصيغة الجمع) في النفس والقلب والحال والمآل.

أتحدث هنا كمتتبع دون الرغبة أو القصد إلى التلميح إلى وجود فكر المؤامرات و “نحن ـ الضحية” ودون الرغبة في إصدار أحكام قيمة جاهزة مبنية على التخويف والحذر ودون رغبتي في الإشارة إلى أن هذا “الآخر” يُكِنُّ لنا العداء ويريد تذويبنا في كلياته! و علينا أن نعد له ما استطعنا من قوة. أنا أسعى الى تصوير الوضع، تصويرا بالألوان وبثلاثية الأبعاد؛ حيث أحاول أن أشير إلى أن التفاعل الثقافي المرتبط بتشكيل الهوية لا يمر بطريقة سكونية وبتصور”الخط مستقيم” الذي ينطلق من البيت والمسجد مثلا ليعود إليه “سالما غانما” كما نقول، بل يمر هذا التفاعل من انحرافات وتقوسات ومنعرجات هابطة/صاعدة ومن التواءات وحين العودة إلى البيت أو المسجد مثلا لا ندري مدى عمق التأثير والدلالات والقناعات وحدة التفاعل والصدى الإيجابي أو السلبي الذي تركه هذا التفاعل في النفوس.

و يكون الأمر صعبا حين نفتقد تصورات العمل الشبابي ونفتقد إلى الكفاءات وإلى ثقافة الحوار داخل بيوتنا لأننا مُبتَلَعين من طرف الإكراهات اليومية ومُتَجاوزين من طرف التحديات. وهنا أسأل نفسي و إياكم: من منا يجالس أبناءه وبناته ويتابعهم يوميا لأزيد من ثلاث ساعات ـ أقول يوميا؟ ثلاث ساعات يقضيها معهم في الحوار وحسب الفئات العمرية في اللعب معهم أو المواكبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى تربوي وتعليمي وتثقيفي، ثلاث ساعات ليس في حضور فيزيائي جسدي محض: نحن في غرفة الضيوف وفلذات أكبادنا في غرفهم وفي أيدينا وأيديهم أجهزتهم وأجهزتنا المعلومة يتواصلون ونتواصل في خط غير مستقيم مع “أصدقاء”الفايس و”سناب شات” بالألوان وبالصوت وبالصورة! التواصل ليس عيبا أو مذلة؛ لكن علينا الاعتراف بأن هذا الذي نكون فيه ليس تواصلا وليس تفاعلا حقيقيا مع فلذات أكبادنا الذين نريد لهم الحصول على ثقافة واعية وهوية واعية وفكر أصيل متأصل.

فتشكيل هوية جامعة و أصيلة وسليمة لا يمكن في ظل ما سبق الحصول عليه “شفويا”و من خلال “خطب”أمام هذه العولمة.

لقد تحدثت في مقال سابق أن الهوية الإسلامية تتكون من العقيدة الإسلاميَّة والتي تجمع بين السلوك والعقيدة تصديقا واعتقادا بالله سبحانه وتعالى وكل أركان الايمان وذلك على مستوى الفرد و الجماعة، تجمع بين الفكر والروح والنفس وهنا يجب أخذ بعين الاعتبار عدم وجود تجانس عقائدي في المجتمعات التي نعيش فيها، بل تعدد محفوظ بالدستور وبالقوانين. هذه الهوية المبنية على العقيدة تحتاج إلى التاريخ وذلك من خلال الوقوف على عبره والاستفادة منها في شتى نواحي الحياة وكذلك تحتاج هذه الهوية إلى العلاقات الانسانية و البشريّة لتتدافع وتجد تموقعها الوظيفي الفاعل والمنتج وتحتاج كذلك إلى الركائز الثقافة والتي هي نسيج معرفي من علوم المجتمع، وقيمه، وآدابه، ولغته، ومنجزاته العلميّة. بهذا نكون قد حققنا أولا وحسب تصوري المتواضع فهمًا ناضجا لمسار تحقيق الهوية والتوقع السليم في مجتمعاتنا نحن مغاربة العالم.

و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.