18 أكتوبر 2025 / 09:36

نوستالجيا طانطان: طفولة 1983

عبد الخالق حسين
سمعت تلاوة للقرآن الكريم من على هاتفي للتو؛ قبل قليل كنت على المنبر أخطب خطبة الجمعة ؛ عدت إلى البيت ، جلست أنتظر قصعة الكسكس؛ غير أن صوت المقرئ محمد الزياني سوف يسافر بي عبر الزمن إلى مدينتي طانطان؛ وإلى زنقة مولاي ادريس بشارع الحسن الثاني بحي طانطان الأحمر؛ لقد جذبتني نوستالجيا سوف أسردها الآن..

الحد الذي أذكره:
المدينة : طانطان
التاريخ :قد يكون 1983
الموسم : رمضان
الوقت : صيف قائظ
الوالد رحمه الله في قيلولة بعد الظهر

المسجلة صانيو sanyo : ينبعث منها هذا الصوت الساحر ؛ سورة الأنفال بالضبط .. أعرف بعدها أنه المقرئ محمد الزياني ..

رائحة الاسفلت المنبعثة من شارع الحسن الثاني؛ حيث الشاحنات تصب القار السائل على الأرض..
أنا ملقى على حصير قديم هناك بعيد عن الوالد؛ تارة أسمع شخيره، و تارة التقط تلاوة المقرئ؛
الوالدة تعزل الشوائب غير الصالحة عن ربطتي “قزبر و كرافص” استعدادا لتحضير حريرة الإفطار
قطة باسطة ذراعيها؛ نصف جسدها تحت أسعة الشمس؛ و النصف الآخر يستمتع بالظل الظليل؛
صوت “نقط الماء” تتقاطر في “سطل” بدون يد ؛ تنزل القطرات بفواصل زمنية مسترخية بسبب عطل في الصنبور؛ إن احكمت إغلاقه؛ يمتنع و يسرب الماء كأنه مفتوح ؛ فنغلقه بلطف وبالحيلة حتى مستوى يسمح للقطرات بالحرية؛ صنبور لا يقبل الفتح و لا الغلق..

ذبابات تستعرض مهاراتها في الطيران؛ مصدرة طنينا متموجا يصدع ويخفث؛ كأنها في استعراض احتفالي؛ تأبى الإبتعاد رغم تلويحي باليد تهديدا؛ يبدو أنها “صبية ذباب” تعتبر التهديد نوعا من التسلية؛ و تقرأ تلويحاتي على أنها انخراط معها في ألعابها.

طرق خفيف على الباب .. يبدو أن ابن الجيران يطلب من والدتي قليلا من الطماطم المصبرة لأجل إكمال بعض عدة الإفطار.

صورة الملك محمد الخامس تؤثث الجدار الشرقي “للمصرية” أي بيت الضيافة؛ جدار مطلي بجير أبيض؛ تساقط بعضه كقطع من الآيسكريم الرقيقة..

في الجدار الغربي مسمار يتيم تعلق عليه الوالدة سبحتها؛ وأحيانا بعض المفاتيح
في الزاوية هناك؛ صينية اعداد الشاي؛ مع زنبيل الشاي و علبة السكر ؛ يسترهم عن النظر منديل قديم ؛ هو في الأصل قطعة من كيس دقيق مكتوب عليه بعض الحروف باللاتينية أعتقد أنها حروف مرتبة هكذا usa..
يبدو أن الذبابات قد ازعجت القطة فقفزت متدمرة محتجة؛ وغيرت المكان؛ مشيتها تدل على أن الذبابات قد تجاوزن حدود اللياقة و الأدب..

لازال وقت اذان العصر بعيدا ؛ في زاوية بيت الوالد ؛ فوق ( البيفي) وهو صندوق حديد طوله يتجاوز المتر ونصف؛ يضع فيه الوالد أشياءه الثمينة مثل ( كناش الحالة المدنية) وبعض صوره الفوتوغرافية وهو يرعى الغنم باللونين الابيض والأسود..

تتمركز ساعة مزعجة في هذا الوقت من اليوم؛ إنها ساعة الدجاجة و صغارها؛ يظل رأسها يعلو و ينخفض كأنها “تلتقط الحب”؛ لاهي التقطت الحب ؛ ولا المؤذن محمد سالم رفع أذان العصر..

أجمل ما يكسر سكون و رتابة الإنتظار هو مديح نبوي باللهجة الحسانية ترفعه الوالدة وهي تفرك في “البانيو باستعمال الفراكة” الخشبية( بدلتي المدرسية) الزرقاء المزينة بصورة شمس مشرقة صفراء على جانب الصدر الايسر؛ كانت من ثوب النيلون الحارق في الصيف؛ كانت إجبارية؛ ولكنها تنشر المساواة بين التلاميذ في المدرسة؛ كانت ابيات المديح تبدأ بقولها:
صلى الله على محمد//
كد الساكت ولمتكلم //كد نجوم الليل مظلم.. أي: اللهم صل على محمد عدد الساكتين و المتكلمين، و عدد نجوم الليل المظلم.
كان صوتها مطربا.. ورحم الله زمن ” الفراكة الخشبية”..

رغم حرارة الجو ؛ تدفئ الوالدة للوالد ” مقراجا “من الماء للوضوء قبيل اذان العصر بقليل؛ في الصحراء يتجنب الإنسان استعمال الماء البارد ما أمكنه ذلك..

صوت المقرئ محمد الزياني يضفي على الأجواء روحانية و طمأنينة لا توصف؛ لازلت كلما سمعت تلاوته ونحن في سنة 2025 أسترجع ” زمن البساطة و العائلة و ماقبل الحداثة القبيحة” ..

رائحة بدايات امتزاج مكونات الحريرة لا مثيل لها في كل روائح الاطباق اليوم..
إنها حريرة الأم.. و يالها من حريرة !!
فيها من كل الملذات نصيب؛ الدفئ ، الرحمة و المعنى و الدين و الوقار و حسن الجوار و طاعة الزوج و الكرم و الانفة و الحشمة و القناعة و صلة الرحم ..

كان المطبخ جدران ملونة بسواد لهب الكانون و طاولة عليها بعض الاواني؛ وكسكاس من القصب؛ ورحى من الحجر ؛ و لكن كان خبز الوالدة ( قطعة فنية ) و ( نكهات الإنسانية كلها مجتمعة فيه) لأنه خبز معجون بالحلال و الاستغناء عن ما في يد الخلق..

يستيقظ الوالد من قيلولته المقدسة؛ لقد قضى بدايات شبابه في صفوف المقاومة وجيش التحرير؛ وبقية كهولته في صفوف القوات المسلحة الملكية ؛ آن له أن يستريح..

يكمل وضوءه؛ يأمرني و أخي أن نلحق به إلى مسجد الشرفاء توبالت لصلاة العصر و قراءة حزب القرآن بعد الصلاة..

نطيع الأمر ؛ لنعيش أجواء المسجد بين العصر و المغرب في رمضان؛ وهي من أروع مقاطع الزمن النسبي في مسيرة عمري؛ وتلك حكاية سوف أحكيها في الجزء الثاني بحول الله.