عزالعرب لحكيم بناني
يعيش الباحث مفارقة لا يُحسَدُ عليها. تدفعه الحرية الأكاديمية إلى عدم الخضوع للإملاء السياسي، من أية سلطة كانت؛ وتفرض عليه الاعتبارات الحقوقية أن يتخذ موقفًا سياسيًّا في قضايا يجب أن تظل علمية مستقلة.
من الزاوية الأولى، مهما حاولت أن أكون محايدا، تفرض الاعتبارات السياسية نفسها على الباحث حينما يسعى إلى تحديد مجال البحث. ومن ناحية ثانية، إذا ما بلغت انتهاكات حقوق الإنسان حدًّا غير مقبول، لا يستطيع الباحث حمل قناع الحياد.
لا يعني ذلك أنَّ الحياد مذموم، بل هو المطلوب إذا ما كان الباحث يعتبر نفسه عالما في مجال مخصوص. ونحن ندافع دفاعا مستميتا عن الموضوعية وقابلية التحقق والنزاهة الأدبية وعن أخلاقيات البحث؛ وهي القيم التي اختفت أحيانًا حتى من أعرق الدول في البحث السوسيولوجي.
كانت الاعتبارات السياسية تؤثر على مسار العلم في جمهورية فايمار ؛ فكانت السوسيولوجية الألمانية اليمينية متحيزة ما بين الحربين للخصوصية الألمانية المتشبعة بسوسيولوجية الفهم؛ ولا زلت أتذكر تصورات فبيركانت A. F. Vierkandt و شبرانغر Spranger وغيرهما الذين كانوا يرفضون الاتجاهات الكمية في علم الاجتماع الأمريكي واستعمال قواعد الإحصاء، قائلين إنه لا يجدر بنا أن نصنع الأفكار في علم الاجتماع، كما يصنع الأمريكيون السيارات. كان الاعتقاد السائد هو أن علم الاجتماع يجب أن يحافظ على هويته الوطنية. وحتّى ولو اختفى تضخُّم الهوية وإخضاع العلوم الإنسانية للأحكام الجاهزة، لا يمكننا أن نتخلى بالكامل عن إخضاع العلم للسياسة.
إذا ما شاء عالم الجيولوجيا أو عالم الجغرافيا أن يقوم بدراسات في الجغرافيا الطبيعية أو البشرية للمنطقة الشرقية، فإنّه سيرجع إلى المادة العلمية التي توفرها مدينة وجدة ولا يستطيع الانتقال إلى تلمسان ولا إلى وهران لإتمام البحث، بما أنَّ الحدود السياسية تفرض قيودا على المعرفة العلمية. لا يوجد تقطيع علمي لمجالات البحث لا يسبقه تقطيع سياسي؛ وتفرض السياسة آنذاك قيودا على العلم، ممّا قد يؤثر سلبيًّا على نتائج العلم.
تشكو كثير من المجالات العلمية، في العلوم الإنسانية والاجتماعية على الخصوص من القيود التي تفرضها الحدود السياسية على مجالات تطبيق العلم. لا تطرح هنا مشكلة التعاون مع العلماء، بل مشكلة الحدود السياسية التي تمنع حرية البحث في إطار يتجاوز القيود السياسية.
لكن تطرح مشكلة التعاون بين المختصين في العلوم الاجتماعية، إذا ما كانت الاعتبارات متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية واستعمال سلاح التجويع حاجزًا نفسيا وإنسانيًّا وحقوقيًّا.
أنا شخصيا أنتمي إلى جيل تشبع بالقضية الفلسطينية وهو لا يزال في مقتبل العمر، وأحدثت في أنفسنا رجة نفسية كبرى، خصوصا وأنَّ القضية الفلسطينية كانت قضية المثقفين والأحزاب السياسية والتظاهرات الفنية الملتزمة والصحافة. وظلت تلك الصدمات المتوالية محفورة في الأذهان ولا يمكن إن تزول إلا من خلال إبداع طرق جديدة في المقاومة، وهي لا تقوم برأيي لا على العنف ولا على خضوع العالم لإملاء السياسة.
في ضوء الجدال المتعلق بالمؤتمر الدولي المرتقب، كان من الممكن أن يفكر علماء الاجتماع في دراسة هذا الموضوع بالضبط الذي تحوَّل إلى موقف سياسي. اقترحت وزارة التعليم العالي في المغرب برامج جديدة وطموحة وأعتقد أن عالم الاجتماع قد ينتهز الفرصة لدراسة سوسيولوجية النزوح والترحيل والإبادة الجماعية داخل المستوطنات والمخيمات أو أماكن الاحتجاز، سواء في لبنان أو الأردن أو تندوف أو غيرها؛ حتّى نحوّل الالتزام السياسي بالقضية الفلسطينية إلى مساهمة علمية في موضوع عابر للحدود ويقوم على المقارنات بين دول مختلفة. قد يكون المشروع طوباويًّا في المغرب، لأنّنا قد لا نجد الإمكانات الكافية، رغم وجود المختصين الأكفاء؛ وقد لا توجد رغبة سياسيّة تسمح بذلك؛ وقد نعتبر في الأخير أنَّ العلوم الاجتماعية يجب أن تتقيَّدَ بالحدود الوطنيّة. قد تصبح حدود الوطن هي حدود العلم؛ وقد لا تجد تأشيرة دخول هذه الدول. فعن أيّ علم نتحدَّث بعد ذلك؟