6 يونيو 2025 / 18:09

الفردانية في البحث التاريخي: دراسة نقدية تحليلية

سليمة عبد الجليل بنجلون

تقديم عام

يُفترض في البحث التاريخي أن يكون مشروعًا جماعيًا تراكميًا، يشترك فيه الباحثون في ورش معرفية قائمة على الحوار والتكامل والتقاطع المنهجي. غير أن الواقع الجامعي المغربي، وفي أغلب الأحيان المغاربي والعربي، يكشف عن طغيان مقلق للفردانية داخل الحقل التاريخي، حيث أصبحت الأطروحات والكتب والمقالات، بل حتى الندوات، تميل إلى الطابع الفردي المغلق، بعيدًا عن أي ثقافة للمشاركة أو التعاون أو بناء المعرفة بشكل أفقي ومؤسسي. هذا الميل المتزايد نحو الفردانية لا يقتصر على الجانب المنهجي فحسب، بل يتغلغل في بنية المؤسسة الجامعية، ويعكس أزمة أعمق ترتبط بمفاهيم السلطة الرمزية، التمثلات النفسية للنجاح، الفلسفة الضمنية للتفوق، وأنماط التنشئة الأكاديمية التي لا تُشجع على العمل الجماعي. في هذا المقال، نحلّل هذه الظاهرة من خلال خمس مقاربات متقاطعة: علم الاجتماع، علم النفس، الفلسفة، علوم التربية، وتاريخ المعرفة.

أولاً: الفردانية في البحث التاريخي من منظور علم الاجتماع

1.1. غياب البنية الجماعية في الحقل الأكاديمي

يُعتبر الحقل التاريخي وفق تصور بيير بورديو فضاء تنافسيا يُنتج علاقات قوى بين الباحثين، تُبنى على التموقع داخل الحقل أكثر مما تُبنى على التعاون المعرفي. فالاعتراف الأكاديمي غالبًا ما يُمنح للفرد صاحب “الرأسمال الرمزي” لا للفريق المنتج، وهو ما يدفع الباحثين إلى الانكفاء على ذواتهم والاشتغال في عزلة، بدل الانخراط في مشاريع بحثية جماعية. وهكذا، تتحول الجامعة من ورشة جماعية لإنتاج المعرفة إلى فسيفساء من المشاريع المنعزلة، يتنافس فيها الجميع بصمت، دون أي أفق مشترك.

المرجع: Pierre Bourdieu, Homo Academicus, Éditions de Minuit, 1984.

1.2. منطق الامتلاك الرمزي للمعرفة

يشكل العمل التاريخي في كثير من الجامعات فضاء مغلقًا تُحتكر فيه المواضيع، وتُحاط المعرفة بحواجز غير مرئية، حيث يتم تصنيف الباحثين بين من “يملك” التاريخ ومن “يتعلمه”، مما يُقوّض فرص التعاون ويُكرّس عقلية الامتلاك بدل المشاركة. هذا المنطق يجعل الباحث يشعر أن نشره لفكرة هو تنازل رمزي عن سلطته، لا خطوة في مشروع جماعي.

ثانيًا: الفردانية من منظور علم النفس الأكاديمي

2.1. النرجسية المعرفية وآثارها

تحلل المقاربات النفسية الفردانية الأكاديمية من منظور اضطراب “النرجسية المعرفية”، حيث يُعرّف الباحث ذاته من خلال إنجازه الفردي، ويعتبر التعاون ضعفًا أو تبعية. هذا التمركز حول الأنا يجعل كل مشروع جماعي تهديدًا لهوية الباحث، مما يدفعه إلى تفضيل العزلة الأكاديمية. وغالبًا ما تتغذى هذه النرجسية من بيئة تفتقر إلى التقييم الجماعي، وتُكافئ الأسماء لا الإنجازات.

المرجع: Paul Wachtel, The Poverty of Affluence, Free Press, 1983.

2.2. الخوف من المحو والتلاشي

يرتبط رفض التعاون أحيانًا بشعور دفين بالخوف من أن يُمحى اسم الفرد داخل مشروع جماعي، وأن يضيع “صوته” وسط تعدد الأصوات. وهذا القلق من التلاشي يكرّس سلوكيات دفاعية لدى بعض الباحثين، تجعلهم ينسحبون من كل فضاء تعاوني حتى قبل تجربته.

ثالثًا: الفردانية من منظور الفلسفة الأخلاقية

3.1. بين وهم التنوير وحقيقة الطبيعة البشرية

في حوار شهير مع الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، أشار إلى أن الثقافة لم تمنع يومًا الإنسان من السقوط في السلوك السافل، وأن وهم التنوير الأكبر كان في الاعتقاد بأن التربية العقلية تؤدي بالضرورة إلى سلوك أخلاقي راق. هذا الموقف يفتح النقاش حول فصل الأخلاق عن المعرفة، ويوضح كيف أن الأكاديميين، رغم رقيهم الفكري، يمكن أن يتصرفوا بأنانية وعدوانية حين يتعلق الأمر بالتفوق أو النفوذ العلمي.

نص الحوار: لوك فيري – “الثقافة لم تمنع ألمانيا المثقفة من الوقوع في البربرية”

3.2. غياب التواضع الفكري كمقوم أخلاقي

الفردانية في المجال التاريخي قد تكون نتاجًا مباشرًا لغياب التواضع الفكري، حيث يتحول المشروع البحثي إلى أداة لتعظيم الأنا، لا لتحرير العقل أو فهم المجتمع. وهنا تظهر الحاجة إلى فلسفة أكاديمية جديدة تؤمن بأن الفكر لا يُنتج إلا بالمشاركة، وأن المعرفة لا تكتمل إلا حين تتقاطع وتتفاعل.

رابعًا: الفردانية من منظور علوم التربية

4.1. غياب التربية على العمل التشاركي في التكوين الجامعي

تعاني مؤسسات تكوين المؤرخين في العالم العربي من غياب رؤية بيداغوجية تُشجع على العمل الجماعي، سواء على مستوى الورشات، أو الإشراف المشترك، أو إعداد البحوث. التعليم الجامعي لا يزرع في الطالب ثقافة الفريق بل يدفعه نحو الاجتهاد الفردي والتميز الانعزالي، مما يجعل ثقافة التعاون شبه غائبة عند خروجه من سلك التكوين.

4.2. غياب البنية التنظيمية للمشاريع التعاونية

حتى حين يتوفر بعض الأساتذة أو الباحثين على الرغبة في العمل الجماعي، فإن غياب مؤسسات حقيقية تدعم هذا التوجه يعرقل أي محاولة للانخراط فيه. لا توجد مختبرات نشطة، ولا منصات تمويل مخصصة للمشاريع التشاركية، ولا تحفيزات من الجهات المشرفة، بل هناك أحيانًا عرقلة صريحة لأية مبادرة خارجة عن “منطق الفردانية”.

خامسًا: تاريخ المعرفة والمأزق الحالي

5.1. من المؤرخ الموسوعي إلى المؤرخ الفرداني

شهدت القرون الماضية صعود مؤرخين موسوعيين كانوا يشتغلون في فرق أو تحت رعاية مؤسسات كبرى (كالكنائس، البلاطات، أو الجامعات الإمبراطورية)، أما اليوم فقد أصبح المؤرخ معزولًا داخل مكتبه، يكتب لنفسه، ويبحث ليرتقي في رتبته، لا ليشارك في مشروع حضاري. هذا التحول من التاريخ الجماعي إلى التاريخ الفرداني يضعف المعرفة ولا يعمّقها.

5.2. الحاجة إلى براديغم تعاوني جديد

من أجل تجاوز أعطاب الفردانية الأكاديمية، نحن بحاجة إلى تحول بنيوي في تصور البحث التاريخي، يقوم على بناء مختبرات مشتركة، وتشجيع التأليف الجماعي، وتثمين التعدد المنهجي، وتحفيز الباحثين على تجاوز منطق الأنا نحو منطق نحن. يجب إعادة كتابة تصورنا للتميز العلمي، لا على أساس الإنجاز الفردي فحسب، بل على أساس الإضافة النوعية داخل المشروع الجماعي.

إن الفردانية التي تُخيّم على البحث التاريخي ليست فقط نتيجة اختيارات شخصية، بل تعبير عن أزمة بنيوية وثقافية وأخلاقية تضرب الحقل الأكاديمي من جذوره. وقد آن الأوان لبناء فضاء علمي جديد يُنصف الجهد لا الأشخاص، ويعلي من شأن الفكر لا التحالفات، ويفتح الباب واسعًا أمام أفق تعاوني يكون قادرا على تجديد التاريخ، لا كمعرفة فقط، بل كموقف أخلاقي ومشروع جماعي في خدمة الإنسان.