محمد زاوي
التاريخ ليس عرقيا!
لم يتأسس التاريخ على عرق، ولا تتفاضل التجارب التاريخية بالأعراق. هذا ما أكده بعض كبار الأنثروبولوجيين، وهم أقرب إلى الأنثروبولوجيا منها إلى التاريخ. وذلك مثل كلود ليفي ستراوس الذي يرفض القول بانبناء التاريخ على العرق في كتابه “العرق والتاريخ”، بل يعتبر هذا القول دعوة عنصرية لا تتقدم بها المجتمعات، فضلا عن أنها لا تثبت بتاريخ. ولا ندري من أين جاء د. كلاب بادعاء “دفاع العروبيين عن العرق العربي في المغرب”؟ ولا مَن هم هؤلاء “العروبيون” الذين يبني كلاب على خطابهم ومواقفهم “العنصرية”؟
إن ارتباط “القوميين” المغاربة، بل والدولة المغربية نفسها، بالعربية كلغة أو بالثقافة العربية عموما، لم يُبنَ على أساس عرقي، وإنما على أساس تاريخي تمتزج فيه الثقافة العربية الإسلامية بالتاريخ؛ لا باعتبارها ثقافة أسمى من باقي الثقافات، وإنما باعتبارها ثقافة دولة، ثقافة تأسيس الدولة المغربية ووحدتها. وما كانت لتستمر في المغرب أو في أي بلد آخر إلا على هذا الأساس، عكس البلدان التي عرفت وجود دول قبل الفتح الإسلامي (مثل إيران وتركيا). وبالتالي، فسواء كنا مازيغيي الجينات أكثر مما نحن عرب، أو عربيي الجينات أكثر مما نحن مازيغيون، فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئا، والواقع هنا هو: دولة عربية إسلامية بالتاريخ لا بالعرق.
لا يرد الدكتور كلاب على هذا الطرح، بل يفضل توجيه سهام نقده “الإيديولجي” (أدلوجة “العرق الموري”) إلى طرح لا يقول به أحد، أو على الأقل لم يسبق لي أن وجدت -كمهتم- أحدا يردده في الأوساط القومية المغربية. لا أحد يقول “نحن عرب بالعرق”، ما يقال هو “نحن عرب بالدولة”. وهذا ما فشل كلاب في رده، للأسباب التي ذكرتها في المقال السابق، فطفق يرد على طرح عرقي غير موجود ولا يقول به أحد من “العروبيين” كما يسميهم. ما لا يستوعبه كلاب هو أن القومية كفكر وإيديولوجيا نتاج وعي سياسي حديث، وبذلك فهي دعوة لا عرقية، بل تاريخية تهمها مصلحة الدولة وتدافع عن العربية الفصحى باعتبارها لغة دولة، لا لغة عرق.
يبذل د. كلاب جهدا في استقراء الروايات التاريخية (ابن عذاري، ابن أبي زرع، ابن خلدون، الخ) للرد على رواية أخرى هي رواية الحسن الوزان؛ فيقول مستخلصا: “والحقيقة هي أن الوجود العربي لم يكن بالكثافة التي تقدمها الروايات، التي ذهب ضحيتها الحسن الوزان؛ إذ زعم أن القبائل التي عبرت من شبه الجزيرة العربية إلى مصر “نحو عشر قبائل عربية نصف سكان صحراء الجزيرة العربية وبعض بطون قبائل اليمن، وكان عدد الرجال المحاربين يناهز خمسين ألفا ولا يكاد يحصى عدد النساء والأطفال والبهائم”، ويعد هذا العدد مبالغا فيه بالنظر إلى رواية ابن خلدون” (عبد الخالق كلاب، أوثان السلفية التاريخية، مرجع سابق، ص 19). ونظرا لزيف هذه الإشكالية تاريخيا، فإنها لم تجد لها تمظهرا في واقعنا الحالي، ما حمل صاحبها على استصحاب “سجال” تاريخي قديم في واقع لا يحتمله ولا يعرفه. نحن في واقع دولة تتقدم في التاريخ، لا في واقع عرب وأمازيغ في حاجة إلى تحديد أعدادهم.
لسنا أيضا في واقع يطلب التنقيب على جينات العرب والأمازيغ، فهي نتائج لا تقدم ولا تؤخر في تاريخ المغاربة، مهما استفيد منها في تكتيك إيديولوجي بعينه. إلا أن وجهة د. كلاب هي غير هذه الوجهة، إذ وجد في “الفحوصات الجينية” ضالة إيديولوجية لا تخفي نقمتها على “المشرق” وهو في سياستها أصيل مهما اكتسبت من خصوصية تاريخية و”ما قبتاريخية”. يقول كلاب: “تبقى نتائج الفحوصات الجينية هي الأداة العلمية الدقيقة لحسم هذا الجدل، فبالاعتماد على دراسة جينية أجريتها على 36 عينة، تبين أن الجينوم الطاغي هو جينوم شمال إفريقيا بـ 85 ٪ (…) ويأتي جينوم شبه الجزيرة العربية في الأخير بنسبة 0,08 ٪” (نفس المرجع، ص 20). وقد غاب عن وعي كلاب أن هذه النتائج التي يسوقها لتبخيس الدور العربي في المغرب، لا تزيده إلى حضورا واعترافا بضرورته التاريخية. فإذا كان هذا العرق أقليا ومنحسرا ولا يكاد يعثَر عليه بين باقي الأعراق المغربية (شمال إفريقيا/ إيبريا/ جنوب أفريقيا)، ما الذي أبقاه صامدا وحاضرا كثقافة وتاريخ طيلة 13 قرنا وزيادة؟! هذا سؤال كافٍ ليعرف كلاب أننا ندافع عن العربية في الدولة والتاريخ لا في العرق، وأن إشكاليته الإيديولوجية تبحث في الجينات والأنثروبولوجيا، وهذا مبحث ضخم يجب على د. كلاب أن يخوض غماره في المختبرات ويخاطب به العلماء أصحاب التخصصات، وآنئذ تثبت جدارته أو تنتفي!
(يتبع)