رمضان بين متطلبات الجسد وتغذية الروح

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس2 مارس 2025آخر تحديث : الأحد 2 مارس 2025 - 10:42 صباحًا
رمضان بين متطلبات الجسد وتغذية الروح

د. يوسف الحزيمري
خلق الله الإنسان من جسد وروح، وكل مِنْهُمَا يحْتَاج إِلَى مَا يتقوت بِهِ ويتنعم بِهِ، “وجعل الجسد منزلاً للروح لتأخذ زاداً لآخرتها من هذا العالم، وجعل لكل روح مدة مقدّرة تكون في الجسد، فآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان، فإذا جاء الأجل فرّق بين الروح والجسد”.

ومن ثم طلب الشارع في أحكامه الموازنة بينهما، فلا طغيان لأحدهما على الآخر، فالجسدُ عيشه: الأكلُ والشرب، والنكاح واللباس والطيب، وغير ذلك من اللذات الحسية.

وأمَّا الروح: فقوتُها ولذتها وفرحها وسرورُها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها، وفيما يقرب منه مِن طاعته في ذكره ومحبّته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه.»

وجعل “المقصودُ من خلق الجسدِ: حصول الهداية للرُّوح، كما قال – تعالى -: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}” قال القاسمي في محاسن التأويل: “وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. وأيضا، فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة. أما الأحوال الروحانية، والمعارف الإلهية. فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونة عن الكون والفساد”.

وجعل سبحانه لكل منهما جزاء لما اجتهدا به في طاعته، قال ابن الشيخ: “لما كان المكلف مخلوقا من ‌جسد ‌وروح وأنه اجتهد بهما فى طاعة ربه اقتضت الحكمة أن يجزيه بما يتنعم ويستريح به كل واحد منهما، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة في القرآن، وجنة الروح هى رضى الرب سبحانه”.

قال الإمام الرازي عند قوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} [سورة البينة (98) : آية 8] “اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولا والرضا ثانيا….، فاعلم أن العبد مخلوق من ‌جسد ‌وروح، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب”.

فكان من أركان الإسلام صيام شهر رمضان فضله سبحانه وتعالى عن باقي الشهور، وشرفه بأن أنزل فيه كتابه المبين، فأضحى يسمى شهر القرآن، قال تعالى: {شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ } [البقرة: 185]، وفيه يتم الامتناع عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي هذا الامتناع تدريب للجسد وصحة له، وترقية للروح في معارج السلوك إلى الله بقراءة القرآن، والقيام به في صلاة التراويح.

وإذا نظر إلى واقع الناس اليوم تراهم مقبلين على تنعيم أجسادهم بما لذّ وطاب من الطعام والشراب مع الإسراف والخيلاء، ومعرضين غافلين عما ينفع أرواحهم ويزيدها إيمانا وهدى، وعما يحرق الله به ذنوبهم ومعاصيهم، وقد قيل في تسمية رمضان لأنّه يرمض الذنوب، أي: يحرقها. بمعنى: يمحوها، وقيل: لأن القلوب تحترق فيه من الموعظة، والقرآن.

فها قد أقبل شهر رمضان ونحن في بدايته، فليكن هذا الشهر شهر عمارة القلوب بالطاعات والقربات، وعمارة المساجد بالذكر والصلوات، وعمارة الأوقات بالبر والصِّلات.

ولنجعل لأنفسنا ميزانا للموازنة بين متطلبات الجسد وتغذية الروح، فلا نفرط في أحدهما على حساب الآخر، يقول الإمام محمد رشيد رضا في مقال عن الدنيا والآخرة بمجلة المنار: “ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا، ولو حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية، وكان كالبهائم السائمة والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال، هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة”.

قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ}.

رابط مختصر
كلمات دليلية

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.