أشرف الحزمري
موقف الجابري من العرفان من المواقف الشهيرة والمعروفة في فكرنا العربي المعاصر، ودائما ما يتم اختزاله في موقف سلبي راديكالي، لكن من يتتبع تطور فكر الرجل سيجد أن ثمة تغيّرًا في هذا الموقف نلمسه ما بين كتابيه “التكوين” و”البنية” وخاتمة مشروعه “نقد العقل العربي الذي خصصه لـ”الأخلاق”، ففي العملين الأوليين ثمة استبعاد واضح للتصوف دون التمييز بين مجالاته، حتى إن تحليله النفسي لشخصية العرفاني في “البنية” تبرز الجابري مخاصما حتى لبعض الجوانب الإنسانية الكونية في نفسية الصوفي، مثل القلق الوجودي.
لكن عندما ننتقل إلى كتابه “العقل الأخلاقي العربي” سنجد أن بعض التفاوضات حصلت مع هذا الجانب الروحي في الإسلام من خلال بعض المعالم، لاسيما أنه سيتواجه معهم على أرضية العمل وليس النظر، وهؤلاء أرباب عمل وأهل تخلق، وهذا سيضطره أن يشطر التصوف إلى نزعتين، أحدهما سيخصص لها بابا في الذم والاستبعاد، ويعدّها أحد روافد العقل الأخلاقي العربي التي كرّست لقيم فناء الأخلاق، بينما النزعة الثانية سيجلبها ويأتي بها للموروث الإسلامي.
وسيعتبر الحارث المحاسبي نموذجها، وفيها سنلمس إعجابا شديدا بشخصية المحاسبي وفكره الصوفي، وسيكشف لنا الجابري عن موقفه الإيجابي من هذا الموروث وامتداداته، لأنه يهتم فقط بأخلاق الدين ويراعي الجانب الروحي في العبادة ويقوم على التحليل الدقيق للسلوك الديني لنقده وفضح الاغترار بأحكام العبادات ورسومها، وسيفصل هذا عن التصوف الذي يروم الكشف وينتهي في إسقاط التكاليف الذي يرفضه، وسيعبّر عن امتعاضه من النزعة الأخلاقوية في التصوف، والتي لا تقوم فيها الذات على الاشتغال على نفسها في “صمت وتواضع” كما يقول، ولكن على خطابية دعوية وإيديولوجية تفضّل فيها نفسها على غيرها.
يقول الجابري في فقرة وجيزة في كتابه “العقل الأخلاقي العربي” يلخص فيها موقفه من التصوف:
(إن “آداب السلوك” الى الله، كانت معروفة -قبل الإسلام- كنوع سام من “الأخلاق” السامية تدعو الى التقوى والزهد ونكران الذات، والتزام التواضع والورع في التعامل مع الناس.
ومع أن هذه الأخلاق قد وجدت تطبيقها بإخلاص وتفان في كثير ممن اختاروا هذه السبيل وساروا فيها بصمت وتواضع، فإن المتكلمين في التصوف ودعاته قد تصرفوا كزعماء “فرق” و”أصحاب مقالات”، أي كإيديولوجيين بالتعبير المعاصر، فجعلوا من فرقتهم وحدها “الفرقه الناجية”، وإذا كانوا لم يكفّروا غيرهم من الفرق -صراحة- فقد احتكروا الصواب والرشاد وسمّوا أنفسهم وأصحابهم “أهل الله”..)
ــــــــــــــــــــ
صفحة الكاتب على فيسبوك
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22816