10 يوليو 2025 / 06:22

للشريعة حكماؤها.. يَفهمون الدين ويقدِّرون المصالح

محمد زاوي
في كل بلد نظام للشريعة وإلا غدت فوضى للناس أجمعين، يتكلم فيها كل أحد. أما وقد تكلم فيها اليوم أصحاب الإيديولوجيات المختلفة، فقد وجب توحيد الصدور عنها درءا للمرجعيات المعاكسة للمصلحة، أي مصلحة الدولة.

يرى الحداثوي في الشريعة نقيضا للحداثة والتنوير، فيسعى إما لنقضها من أساسها، وإما لتأويلها حسب أغراضه، وأغلبها ما بعد حداثي، تفكيكي، يستهدف عناصر الربط المجتمعية من دين وأسرة ولغة…

أما “الأصولي” فيرى فيها تسويغا لخطابه المعارض، وربما مرجعا لنموذجه المثالي في فهم قضايا الدولة والمجتمع، يغترب بها عن الواقع الموضوعي بدلا من أن يجعل منها مدخلا لتحرير “العقل في مواجهة الواقع”.

وهناك صنف آخر من الفقهاء يلتزم منهج الدولة ـ في الفقه والعقيدة والطريقة ـ، إلا أنه سرعان ما يسارع للقول في القضايا المطروحة عليه، مهما علا شأنها أو دنا. وقد تكون المسألة اجتهادية تفتي فيها المؤسسات العلمية المعتمدة والمخولة لذلك، فإذا به يخالفها الرأي. فكان ذلك نتيجة حتمية لقول الفرد يعلم قضية، وتغيب عنه أخرى.

لتلقي الشريعة والتصدر فيها مسلك توارثه المغاربة وطوّروه؛ يحفظ طالب العلم القرآن ثم يُتبعه أساسيات من علوم الآلة والغاية، ليلتحق بجوامع ومعاهد التعليم العتيق، فيدرس بها حتى ينال العالِمية. وهذه تعني تمكن الفقيه من أدوات عمله لا ليركن إليها، بل ليختبرها من جهتين، في أمهات كتب الشريعة، وفي واقع الناس وما يعترضهم من أحوال.

فإذا برز الفقيه واستعد للإفتاء في شؤون العامة واعتبار مصالحها عند المحيطين بها علما وفهما، آنئذ تبرز الحاجة إليه، ليعين الدولة على حفظ مصالح المجتمع، لا ل”يقفز” في كل مكان وكأن القيامة قامت من أجل قضية لا يتصور ماهيتها، فكيف له باستنباط حكمها؟! فإذا برزت الحاجة إليه أصبح مرجعا في نظام فقهي ينتظم بتعدد الفقهاء في ظل وحدة السلطان، فيستفتى كفقيه من بين فقهاء كما كان يحدث في مغرب ما قبل “الحماية”، أو كعضو في مجمع فقهي كما هو حال فقهاء المجلس العلمي الأعلى.

هذه منزلة، أما الخروج على أهل العلم من الفقهاء المعتمدين ومراجعتهم في أقوالهم فلا عهد للمغاربة به من كبار الفقهاء، فما بالك بصغار الدعاة الذين إلى عهد قريب كانوا يحفظون متنا محدودة بحدود تجارب مشرقية، وإلى عهد قريب كانوا يحفظون بعض القصائد في عقائد الحنابلة، وإلى عهد قريب كانوا يطالعون بعض الفتاوى مفصولة عن سياقها ولا يكادون يعرفون منطق صاحبها…

يصمت الفقهاء المعتمدون عن قضية ما، فينبري للكلام دعاة “القنوات الفضائية” الدخيلة بحجة أن الفقهاء قد سكتوا؛ ولا يعي هؤلاء أن السكوت موقف فقهي، ربما يرى مصلحة الفقه في غض الطرف عن قضية ما، أو ربما هي من القضايا المخولة لأولي الأمر المحققين لمناطها، أو ربما هي مؤقتة وطارئة ليست بالمفسدة المؤكدة والكبيرة حتى يتكلم فيها “حكماء الشريعة”… وهذا تقدير للمصالح بأمر الدين، فالدين المصلحة و”حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله”.

لا يعي البعض هذا النظام الفقهي فيرى الدين شأنا خاصا لا بد من نصرته في الجماعة؛ وهذا خطأ كبير ممّن لا هو يفهم الدين، ولا هو يقدّر مصالح الجماعة؛ فيكثر الرد والرد على الرد، فيما كان النقاش سيحسم لو تكلم في الأمر من له أهلية الاجتهاد، واكتفى بالتقليد من دونه. وليس الاجتهاد لمن تمكن من علوم الشريعة فحسب، بل احتاج كل مجتهد إلى علم بالأحوال بقواعدها بنفسه أو بطلب من خبرة. ومن ليس له ذلك، “فليقل خيرا أو ليصمت”.

أما إذا تساءلنا عن الفقهاء الأقرب إلى تصور مصالح الجماعة، فهم بلا شك فقهاء الدولة وحكماء نظامها في الشريعة، لما للدولة من معطيات وقدرة على تصور الواقع كما هو.. ومن دونهم يصيبون ويخطئون، فليتريثوا إذن وليصمتوا إلى حين، لأن الفقه دين ودنيا، نظام في العيش والمصلحة كما هو نظام في الامتثال والجزاء.