ذ. محمد جناي
على الرغم من هذه القرون الطويلة على نزول الوحي الإلهي وتطور الزمان والمعارف والإنسان، فإن ذلك كله لم يسجل إصابة علمية أو فكرية على النص القرآني : ” لَّا يَاتِيهِ اِ۬لْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖۖ ( فصلت ، الآية41) “، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، فالنص الإلهي أو نص الوحي في الكتاب والسنة هو خالد مجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان ، ومؤهل للإنتاج في كل زمان ومكان، وهو خطاب الإنسان، سواء في ذلك المؤمن وغير المؤمن ، وهذه النصوص بما أنها من عند الله ومن الرسول فإنها بالضرورة معصومة، وخالية على وجه الإطلاق من النقص والخلل، ومن كل زلة أو هفوة تعتري خطابات النص.
وفي ضوء ذلك فإننا نقرر بوضوح أن العبث بالنصوص الشرعية ، المتمثلة في القرآن والسنة على وجه التحديد، ينبغي أن يظل بمنأى عن الذين يتذرعون بحرية التعبير أو البحث ، ويروجون لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها باسم تاريخية النص ، أو نسبية الأحكام الشرعية، أو غير ذلك من مداخل العدوان على عقيدة المجتمع وضميره، والساحة الثقافية تعرف في الوقت الراهن جدلا كبيرا حول مايسمى ب «القراءات الجديدة للقرآن الكريم» ، فدعوى إعادة قراءة القرآن الكريم حملة مغرضة أطلقها الحداثيون ، وانخدع بالدعوة إليها بعض المسلمين من دون أن يعدوا لها العدة ،كي يتمكنوا من دحض الشبهات المراد استغلالها من طرف خصوم الإسلام لنزع القدسية عن الوحي الإلهي، ولا شك في أن هذه الدعوة حق أراد بها البعض باطلا.
فنظرية تعدد قراءة النص وفق المناهج المادية الغربية، ونظرية موت المؤلف ، وحق الناقد في أن يفعل بالنص مايشاء ، وقصيدة النثر التي يراد بها إثبات صفة الشعرية لآيات الله البينات اعتراضا على الله الذي نفى هذه الصفة عن كتابه وعن نبيه نفيا قاطعا، كل ذلك وغيره مما خفي أدوات هدامة أعدها الانتهازيون لتحويل هذه الدعوة عن مسارها السليم .بل إن الأمر يبدو مضحكا ويدعو إلى الشفقة حينما يرى هؤلاء أن تفسير النصوص الدينية يجب أن يفسر تفسيرا ثوريا تقدميا، بدل التفسير الرجعي المتخلف الذي يعكس الاختيارات اليمينية المحافظة.
ونجد الدكتور محمد الجابري في جميع أطروحاته ومشاريعه تتمحور حول التراث والتحديث وقد سلك منهجا فكريا ينحو المنحى الفلسفي في قراءة التراث ، وقد وقع في مغالطات حادة، من ذلك قوله في كتاب (بنية العقل العربي):” اللغة والعقيدة والشريعة والسياسة ، في الماضي والحاضر ، تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي قلنا: إنه لاسبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها”، وقد كتب الباحث فؤاد بوعلي دراسة عن الأسس المنهجية للقراءة الحديثة للنص القرآني خصص جانبا منها لمدخل الجابري ، وخلص في نهايتها إلى القول : ” إن ما ورد في كتاب الجابري وغيره من الحداثيين هو محاولة جريئة للقفز على النص القرآني وربطه بالزمن الطبيعي وإفراغه من كل حمولة قدسية مطلقا، وبناء مجتمع المعرفة والديموقراطية والعلمانية من خلال تحرير النص من سلطة المرجعيات المتعددة ، وجعله متناولا بشكل منطقي وليس غيبيا حيث الإيمان بأن عملية إنزال النص إنما هي مقدمة لتجاوزه معرفيا وربطه بالزمن الطبيعي حتى يغدو مجرد إطار لغوي لتواصل عبادي دون أن يكون له وجود ظاهري في حاضر الإنسان ، وللوصول إلى هذا المستوى لا بد من إخراجه من سلطة مؤسسات القراءة التي حافظت للنص على قدسيته وانفردت بتأويله وتوجيهه الوجهة المرادة وزايلته عن النصوص البشرية، وذلك هو السر وراء القراءة الحديثة للنص القرآني”.
ومن أهم هذه القضايا التشكيكية في كتابات محمد عابد الجابري هي كالآتي:
أولا : القول بأن القرآن الكريم بين الزيادة والنقصان
صرح محمد عابد الجابري أن القرآن وقع فيه بعض التحريف ، وأكد ذلك في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم) وقد استشهد الجابري بنص لإقناع أهل السنة بالتحريف، وهو ماذكره نقلا عن القرطبي، ومفاده أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا ماهي عليه الآن ، أي 73 آية ، فهل هذه الرواية صحيحة أم أن الأمر غير ذلك ، والحقيقة أن هذه الرواية لا تصح لا سندا ولا متنا ، فأما إسنادها فقد أورد القرطبي عن أبي بكر الأنباري أنه قال :” وقد حدثنا ابن أبي مريم عن أبي لهيعة عن أبي الأسود ، عن عروة عن السيدة عائشة قالت : وهذا الإسناد لا يصح لوجود عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف” ، وأما متنها فهو منكر لأنه إذا كان المقصود من تلك الرواية أن سورة الأحزاب سقط منها أكثر من النصف بسبب النسخ ، فإن النسخ لم يحدث إلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يده فقط ، ولا يصح أن يقال :إنها أسقطت زمن سيدنا عثمان عندما كتب المصاحف، وهذا الذي أشارت إليه الرواية، لأنه لا يصح ولا يعقل أن ينسخ ذلك العدد الكبير من آيات سورة الأحزاب ويبقى المسلمون يتلونها إلى سنة 25 هجرية عندما كتب عثمان المصاحف إلى الأنصار ، فهذا باطل.
ثانيا: مسألة انتفاء أمية محمد صلى الله عليه وسلم
أثار محمد عابد الجابري هذه الشبهة وقد سبقه إليها كثير من المستشرقين ، والرد على هذه الشبهة نقول : إنه من القضايا التي أطبقت عليها كلمة العلماء قديما وحديثا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا، أي لا يقرأ ولا يكتب قبل بعثته وبعدها ، اللهم إلا من شذ وذهب إلى غير ذلك وهو رأي لا يؤبه له، لأن النصوص القطعية في دلالتها وثبوتها تنعت الرسول الكريم بالأمية، وأنه بعث في قوم أميين، بالإضافة إلى بعض الوثائق التاريخية التي تلتقي مع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في تقرير أمية محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم إن إرادة الله اقتضت أن يكون النبي أميا، حتى صارت تلك الصفة من خصائصه، ولعل الحكمة من ذلك أن النبي لو كان يحسن القراءة والكتابة لوجد الكفار والمشاركون في ذلك منفذا للطعن في نبوته ، أو الريبة برسالته، وقد جاء تصوير هذا المعنى في قوله تعالى :”وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذاٗ لَّارْتَابَ اَ۬لْمُبْطِلُونَۖ (سورة العنكبوت ، الآية48)”، وإن إثارة قضية محمد صلى الله عليه وسلم والغاية منها ليست علمية ، ولكنها غاية علمانية، تتوخى زعزعة ثقة المسلمين المعاصرين في صدق نبيهم وصحة قرآنهم وصلاحية شريعتهم للتطبيق الدائم، وتبذل محاولات متجددة لبلوغ هذه الغاية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والعسكرية تحت قناع مزيف من الدعوة إلى الإصلاح والانتصار للحرية، ومواكبة العصر واحترام حقوق الإنسان.
ثالثا: فرية شرب النبي صلى الله عليه وسلم الخمر قبل تحريمه
امتاز الأنبياء على بقية البشر بالبعد عن اقتراف المعاصي وعزوفهم عن الشهوات واجتنابهم لكل مايخل بالمروءة أو يهدر الكرامة أو يحط من قدر الإنسان،ولكن مع كل هذا فإن الجابري يرى غير هذا حيث يقول في سلسلته المعروفة (بمواقف) في سياق تعداد نعم الله على الناس في قوله تعالى :” وَمِن ثَمَرَٰتِ اِ۬لنَّخِيلِ وَالَاعْنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراٗ وَرِزْقاً حَسَناًۖ اِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَۖ (سورة النحل ، الآية67)والمعنى على حد زعم الجابري أن الله أنعم عليكم بثمرات النخيل والأعمال ، من تلك الثمرات ما تتخذونه مايسكر بفعل التخمير، ومنها ما تأكلونه في حالته الطبيعية رزقا حسنا، ثمرا وعنبا وكان الصحابة آنذاك (والرسول نفسه صلى الله عليه وسلم) كما تشير إليه بعض الروايات.
وختاما:
فالحداثيون حاولوا إسقاط الفهم هذا أي المنهج الاستشراقي ، على الإسلام والقرآن ، فقاموا بتفسير الإسلام في ضوء هذه النظريات التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي تقوم على أساس مادي متعال للدين، كما نظروا للإسلام والقرآن على أنهما مقيدان بفترة تاريخية معينة لا تمتد إلى غيرها، فالعبرة عندهم بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، بل نجد حداثيينا يستعينون ويعتمدون على بعض المنحرفين في الفرق الإسلامية.
ـــــــــــ
هوامش:
كتاب القراءة المعاصرة للنصوص الشرعية، دراسة تحليلية نقدية للمؤلف الدكتور عبد السلام أحمد فيغو ، الناشر دار الكلمة للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 2016 .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14871
سلام تويلةمنذ 4 سنوات
نعم تطبيق تلك النظريات على النص الديني كتابا و سنة يسوي بين الإنتاج البشري القاصر المشوب بالنقص والوحي المقدس الموسوم بالكمال.
وتلك الدعوات -دعوات القراءة الجديدة للنصوص الشرعية- تؤدي من إلى نزع تلك القدسية وجعل المتلقي لتلك النصوص حرا في الفهم والتأويل أو التعطيل بدعوى العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ وان التشريعات السماوية محرج اقتراحات تصلح لزمان دون آخر ولمكان دون غير.
لكن السؤال المطروح ، هل يمكن أن يجتهد اهل الاختصاص في إعادة قراءة النصوص الشرعية قراءة منضبطة تراعي التمييز بين الثابت والمتغير ؟ تميز بين الغايات الثابتة والوسائل المتجددة؟ تراعي المقاصد الشرعية فالشريعة عدل كلها رحمة كلها مصلحة كلها.