كانت هناك في قديم الزمان مدينة آمنة مطمئنة.. ازدهر أهلها وتفوقوا في كل شيء. كثرت أنعامهم وتزايدت. ونَضر نباتهم وأزهر.. زادهم الله بسطة في الجسم والأولاد والمال والمتاع.. واتسع بنيانهم، وفرهت مساكنهم، وأبدعوا في تأسيس المصانع، وتطاولوا في البنيان والعماد، حتى لم يعد هناك هدف جادّ لعمرانهم.. فأصبحوا يبنون بكل ريع آية يعبثون.. وحباهم الله بجنات وعيون، ومكّن لهم القوة والمال والعلم والمتاع، ما لم يتمكن لغيرهم..
ازدهرت هذه المدينة (الدولة) صناعيا ومعماريا وثقافيا وحضاريا، ونشأ معها وخلالها ملأٌ مستبدٌ مستفيدٌ من كل الميزات والخيرات والنعم. فاستقووا على الضعفاء، واستكبروا عليهم في الأرض بغير الحق، وقالوا: نحن سادة العالم وحكامه، فمن أشد منا قوة وجبروتا وعمرانا في هذه الدنيا.. وكانوا إذا بطشوا بمن خالفهم في النزاع، طغوا وأبادوا الحرث والنسل..
واستغلّ ملأ القوم، في عملية الحكم والتحكم، كهنوتا دينيا قائما على تعدد الآلهة، فاستعبدوا الناس باسم أصنام عملتها أيديهم.. كانوا سادة وما سواهم فعبيدٌ وأراذلُ قومٍ، لا رأيَ لهم، ولا ينفعون في عيرٍ ولا نفيرٍ. وكان للملأ أخ لهم يدعى “هود”. مكث فيهم طويلا. وتأذّى من استكبارهم وطغيانهم واستضعافهم للناس.. وكان رجلا كثير التأمل والتدبر، وظهرت عليه مبكرا بشارات الحكمة والفطنة..
وبدأ يسير في الناس معلنا أن هناك إلها واحدا. له الأمر والخلق. وأن ما يسود في المدينة من تعدد للآلهة هو افتراءٌ واختلاقٌ. وأن استعباد الناس وغمطهم حقوقهم ظلمٌ بيّنٌ.. وأن أراذل القوم لهم نصيب في أموال الأغنياء وأصحاب المصانع.. وأن الناس سواسية أمام إله واحد.. وقال هود مطَمئنا أصحاب المصالح: لا أطمع في أموالكم ولا أبغي أجرا لما أدعوكم إليه..
وضاقت المدينة بالأراذل ذرعا.. واحتقر كبراؤها هودا، واستصغروا دينه القائم على التوحيد والإنصاف والعدل.. لكن ما أغاظهم هو هذا الفيض الروحاني الذي استهوى أراذل القوم وضعفاءهم.. فاصطدمت الحركة المجتمعية الفتية بالنزعة المحافظة التقليدية القوية.. هذه الأخيرة باتت لها مصالح اقتصادية ومساكن وبنين وأموال تخاف عليها..
لكن ما لبث أن عرفت المدينة تغيرات مناخية خطيرة، فحُبس الماء في السماء، وغارت العيون، وهلك الزرع.. ضجر القوم من اللون الأزرق المحيط بأفق المكان.. كان كل أملهم أن يروا يوما غائما. اشتاقوا إلى سحابة تظلهم أو تمطرهم. كانوا ينتظرون أن تتلبّد السماء بكرة وأصيلا.. فاشرأبت أعناقهم إلى السماء..
اقترح هود على الملأ حلاّ.. قال لهم أخوهم: ما كنتم به من نعمة ومال ومتاع فمن الله.. وهو وحده القادر على أن يمدكم في كل وقت بأنعام وبنين وجنات وعيون.. فإذا استغفرتم ربكم ثم تبتم إليه سيرسل عليكم السماء مدرارا، ويهمر عليكم الماء أنهارا وأودية.. بل أكثر من هذا سيزيدكم قوة إلى قوتكم السابقة..
علِم الملأ أن ما يطلبه هود من الاستغفار يعني شيئا واحدا هو تزكيتهم للحركة التصحيحية التي يتزعمها أراذل القوم، وتقبلهم وقبولهم بالعقيدة الغيبية لهود.. فهِمَ الملأ أن إيمانهم باله واحد تستتبعه تحولات اجتماعية عميقة في بنية المدينة. أدرك المتحكمون أن اعتناق فلسفة هود يعني انتصارا واستقواء للمستضعفين في الأرض.. وبالرغم من أن هودا طَمْأن السلطة السياسية بأنه غير طامع في أموالهم، وأن ما يدعوهم إليه من استغفار وتوبة لن يغير من وضعياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعتبارية..
في نهاية الأمر، أجمع الملأ رأيهم، واستجمعوا قوتهم، وقرروا القضاء على حركة الأراذل.. وذات يوم وعلى غير المعتاد، لاحت في الأفق غيمة عريضة.. فخرجت المدينة عن بكرة أبيها، وهام الناس على وجوههم، مستقبلين الأودية والفجاج، ضاحكين مستبشرين، فقال الملأ لمن حولهم: كذبَ هودٌ وأتباعه.. هذا عارضٌ مُمْطِرُنا..
لكنّ هودا ومن معه كان لهم رأي مخالف تماما. أعلنوا في الناس أن ما في السماء ليس غيمة، ولا مطرا.. بل هي ريح شديدة، لا تبقي ولا تذر، ستهلك المدينة برمتها. فاختلفت وجهات النظر، وتضاربت التفسيرات والتأويلات: هل هي حقا غيمة ممطرة، أم هي ريح فيها عذاب أليم..
اعتقدت السلطة السياسية ـ وفق فلسفتهم المادية ـ أن ما في السماء سحابة ممطرة.. وأن الأزمة انفرجت دون استعانة باستغفار ولا بتوبة، ودون خضوع لمطالب الأراذل.. فكيف يُكذِّبون أعينهم وحواسهم التي ترى غيمة عريضة ممطرة في السماء؟
أما هود فحال لسانه يقول ـ وفق فلسفته الغيبية ـ إن ما في السماء ريح فيها عذاب.. وأن النهاية اقتربت.. وأن الهلاك محقق.. وأن بصائر الملأ ـ ومن تبعهم ـ عميت عليهم، فظاهر ما في السماء غيم، وباطن ما فيها ريح.. فلم يعد باستطاعة الملأ التمييز بين الغيمة والريح.. فكان جميع ما في القرية يملكون الحواس نفسها، والأعين ذاتها، لكن بعضهم يرى سحابا والآخر يرى ريحا.. فأيهم على الحق المبين؟
وحصل فعلا ما توقعه هود، فعاشت المدينة أياما نَحِساتٍ. وتحول العارض الممطر إلى ريح صرصر عاتية واعية مدركة مأمورة.. “تدمر كل شيء بأمر ربها”. فهلك القوم عن آخرهم ولم تبق إلا مساكنهم. ونجا من أهل المدينة فقط من كان يرى الغمام ريحا.. وهلك من كان يرى الريح غماما..
عينان في هذه الدنيا، فانظر بأيهما ترى. وصورتان متطابقتان، فأيهما الصورة الحقيقية. والخطير في اللعبة أنك تجري إلى أجل محدود، وعليك أن تكتشف ـ أو تُكْشَف لك ـ الصورة الحقيقية قبل فوات الأوان.. (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) قرآن كريم.
ستكون البشرية محظوظة جدا إن لم يكن فيروس كورونا تجري عليه قوانين هذه “اللعبة” الخطيرة…
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9662