الدكتور حمزة النهيري
كثيرا مايسمع الطلاب عن الشيخ الرئيس ابن سينا (1037م-428ه) ولا يذكرون من سيرته إلا ذم الفقهاء والمحدثين له بل وتكفيرهم له. (الغزالي-ابن تيمية-ابن الصلاح)
قال عنه ابن الصلاح لم يكن من علماء الاسلام بل شيطانا من شياطين الإنس. (انظر ترجمته في شذرات العماد).
غالبا ما تكون أحكام المحدثين في رجال الفلسفة والعلم الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس متسمة بالشدة، فهي تتميز بالتسرع غالبا والأحكام القاسية الشديدة الدائرة بين التكفير والتفسيق والتبديع.
ولا شك أن من يطالع ترجمة ابن سينا سيجد عجبا عجابا، فهو شخصية علمية بارزة أثرت في الشرق والغرب. يكفي أن تعلم أن أوروبا عولت على تدريس كتبه في الطب لمدة ستة قرون.
ولايمكن لدارس الفلسفة وعلم الكلام أن يتجاوز ءاراء ابن سينا الفلسفية، فهو رأس الفلاسفة الاسلاميين ولم يأت بعد الفارابي مثله.
لذلك يقولون أرسطو المعلم الاول الفارابي المعلم الثاني ابن سينا المعلم الثالث.
وقد لقب بالشيخ الرئيس لأنه اشتغل بالعلم والسياسة، فقد كان طبيبا عالما فيلسوفا مفسرا و وزيرا.
وصفه الذهبي بالعلامة الشهير… صاحب التصانيف في الطب والفلسفة والمنطق.
يقول عنه المترجمون بأنه أبوقراط العرب وأرسطو العرب والافرنج.
(وقد خالف ابن سينا أرسطو في أمور كثيرة).
لم يتزوج ابن سينا ولم يعقب ذرية وتوفي في همذان يوم الجمعة من شهر رمضان بتاريخ 428 الموافق ل1037م.
يروي ابن العماد في شذراته أنه لما مرض، قام واغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة.
وللإمام بديع النورسي كلام في ابن سينا يمكن مراجعته في كتابه الكلمات ضمن مجموع مؤلفاته التي أصدرها إحسان قاسم الصالحي.
لقد تأثر ابن سينا بالفارابي وأرسطو وأفلاطون وأفلوطين و ثابت بن قرة والكندي كما أثر في الشهرستاني وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون والفخر الرازي.. وغيرهم من الفلاسفة والفقهاء المتكلمين.
مالايعرفه طلبة العلم عن ابن سينا أنه كان حافظا للقرءان وعالما موسوعيا له مؤلفات في التفسير لم يحقق منها إلا تفسيره لسورة الاخلاص، وهو يعد أول عالم فيلسوف فسر القرءان.
يمكن القول أن التفسير الفلسفي بدأ بابن سينا إلى أن انتهى عند الجابري و أبي يعرب المرزوقي.
وإن النفس لترجو أن يهيئ لأعمال ابن سينا في التفسير من يخرجها للوجود. فقد ذكر المفهرسون أو مأرخوا العلوم (كارل بروكلمان)(فؤاد سزكين) أن له تفاسير كثيرة لسور القرءان(الفاتحة-الدخان-آية الربا.. الأعلى الاخلاص والمعوذتان).
هناك الكثير مما يمكن أن يقال في ترجمة الشيخ الرئيس ابن سينا، ولا أظن أن المقال يسع لعرضها.
وإن أهم ما يلحظه الدارس لسيرته، أنه مثل شخصيات إسلامية كبيرة اختلف الناس فيها.. ، فكما اختلف الناس في ابن عربي و ابن تيمية والرازي و السهروردي بين معظم لهم ومكفر مزدر بهم.. فهذه الشخصية العلمية اختلف الناس فيها أيضا، لأنه تعرض لموضوع الصفات الإلهية والحشر الجسماني والعلم الالهي(الكلي والجزئي) فقال بأقوال مخالفة لعقائد أهل الاسلام، وقد ذكر ابن رشد أنه بمحاولته التوفيق بين الفلسفة والدين غير مذاهب الكلاميين في الإلهيات حتى صار ظنيا.
ومما أثر عن ابن العربي المعافري ذكره لتأثر شيخه حجة الاسلام الغزالي بكتاب الشفا لابن سينا الذي لم يستطع أن يتخلص فكره من ءارائه.
هذه مقدمة نجعلها مدخلا لدراسة نظرية الفيض عند ابن سينا والفلاسفة بشكل ننحو فيه منهجا تقريبيا مختصرا .
تعرف نظرية الفيض الإلهي أو صدور المخلوقات عن الله تعالى، بكونها نظرية فلسفية تجيب عن سؤال العلاقة بين الكون وخالقه.
أول من قال بها من الفلاسفة أفلاطون وأرسطو والفارابي مع اختلاف بينهم في بعض جزئياتها.
فالاله في هذه النظرية فوق العالم(أرسطو).
وجود أفلاك ذات حركة مستديرة تتحرك بتأثير العقول.
الكثير لايصدر عن الواحد والاله يعقل ذاته(أفلاطون).
الاله يعقل الأشياء على الوجه الكلي، وعقله الذاتي يولد العقل الأول، فالعقل يتأمل الواحد ويعود إليه.
ولاشك أن هذه النظرية تأثرت بأقوال المنجمين والطبائعيين حيث ينسبون إلى الأجرام السماوية أفعالا وأثارا في هذا العالم..، فيفيض ذلك على الأجسام استعدادا لقبول الصورة، فتفيض على النفس وهو ما يولد في النفوس قبولا للتخيل و التذكر والتفكر والتوهم.
يمكن تلخيص هذه النظرية إلى ثلاثة أقسام:
1-تقسيم الموجودات إلى واجب و ممكن.
2-الواحد لايصدر إلا عن الواحد.
3-تعقل الاله علة للوجود على ما يعقله.
وعلى قول ابن سينا في تفسير قوله تعالى لم يلد ولم يولد: “لما كانت هويته تقتضي الالهية التي معناها الافاضة على الكل فلعله يفيض عن وجوده وجود مثله”.
ورغم أن ابن سينا يقول بخلق العالم فهو عنده ممكن بذاته واجب بغيره وهو مايؤدي إلى التناقض.. لأن حقيقة هذا القول تفضي إلى القول بقدم العالم وأزليته.
أما علم الله فهو عنده كلي..، مخالفا بذلك من يقول بأن واجب الوجود لايعلم إلا ذاته وأن علمه بالجزئيات تابع لعلمه بالكليات.. وهو على قول ابن رشد في فصل المقال يعلم الجزئيات بالعلم الكلي القديم لابالعلم الحادث.
تعالى الله عماي قوله الفلاسفة علوا كبيرا.
فالله تعالى أخبر أنه “لايعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض”.
“وماتسقط من ورقة إلا يعلمها” .
“عالم الغيب والشهادة فلايظهر على غيبه أحدا” .
تقوم نظرية الفيض على إعطاء الوسائط والعقول صفات كصفات الخالق فهي بذلك تظهر الرب المدبر محتاجا للوسائط كي يفعل مايريد من الخلق والتدبير.
كما تقوم هذه النظرية على جعل الخالق خاضعا للضرورة ونظام الكون بحيث لا مجال للحديث عن حرية الله تعالى في أفعاله.. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
هذا باختصار شديد شرح لنظرية الفيض عند ابن سينا.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9137
