أسدل الستار رسميا على فقدان المستشار الأمين السيد عبد الله بها رحمه الله و”استنادا إلى الأبحاث والتحريات التي أنجزت، من كافة المصالح المختصة، فإن وفاة المرحوم عبد الله بها وزير الدولة بتاريخ 7 دجنبر 2014 كانت ناتجة عن حادث قطار”.
جاء بلاغ وكيل الملك الثاني ليساهم في الحد من تناسل الأسئلة المشككة في وفاة المرحوم عبد الله بها…
فما ان انتشر نبأ الوفاة الغريبة للمهندس الحكيم حتى تفجر على إثره تسونامي من الأسئلة الحائرة الحارقة والصادرة من شعب مكلوم، ومن الهول كان طوفانا عاتيا عاليا، وجارفا كل محاولات صده من روايات رسمية منقوصة وقصص إعلامية مرتبكة وتصريحات لـ”مصادر” مسؤولة ومجهولة، وكذا مناشدات بعض الشخصيات المقربة والبعيدة من المرحوم بالكف عن السؤال والتشكيك!
والحقيقة ان كل تلك الروايات والقصص والمناشدات لم تفلح جميعها في إيقاف ذاك الطوفان الهادر من الأسئلة المتناسلة والمتكاثرة، والتي ما زادتها “تفاصيل” تلك الروايات “المستجدة” إلا توهجا وتكاثرا !!
كان الشعب المغربي في هذه المحطة أيضا أكبر من نخبه ومسؤوليه، ففي الوقت الذي كان يمارس حقه في المعرفة والفهم والادراك، ويطالب بحقيقة ما جرى كما جرى، انبرى “المسؤولون” عن الصياغة لتقديم روايات أولية سريعة لم يستسغها حس الشعب الذكي، فهام يبحث عن أجوبة عبر التكهنات والتخيلات والرؤى!!! مادام لم يقتنع بالروايات المعروضة والمتناقضة احيانا، والتي سارع بعض المقربين من الفقيد لتبنيها وترويجها، بل هرول بعض كبار أبناء هيئته للجم الأصوات التي رفعت صوتها برفض الروايات المرتبكة، وتجهز بعضهم لمحاولات صد ابواب السؤال المشرعة ولجم أبواق الإشاعة، وتذكير الناس بالتقوى والايمان بالقضاء والقدر… والتسليم بالرواية الرسمية التي لا يأتيها الباطل !
ليس من الحكمة في شيء ان تطلب من الناس الا يتساءلوا في مثل هذه الحوادث الغريبة، فإما ان تقدم تفسيرا علميا منطقيا مقنعا، او سيتقدم غيرك ليملأ الفراغ … بالإجابة عن الأسئلة الشائكة حسب “اجتهاده”..
بحكم العمل كنت اشتغل على سلسلة وثائقية انتجها بعض “الكفار” في بلدانهم عنوانها “Curious & Unusual Deaths” إذ موضوعها تتبع الوفيات الغريبة وغير العادية وتفسيرها، وتقول مقدمة السلسلة التي تتكرر في كل الحلقات: ان كلّ حادثة موت مهما كانت غريبة، بل حتى أكثرها غرابةً يمكن تفسيرها …
Every death, no matter how strange can be explained…Even the most curious and unusual..
إلا ان الغريب فعلا في حالة الوفاة الغريبة للاخ المرحوم عبد الله بها هو المحاولات المتشنجة أحيانا في منع الشعب المتشكك من ممارسة حقه في الفهم والشك… ومحاولة ادخال عفريت السؤال في قمقمه مجددا !! وذلك بإرغام الراي العام على تبني الرواية الرسمية، وتصديق القصص الإعلامية بالرغم من تناقضها وارتباكها… وذلك لأن أي رواية خارجة عن السياق الرسمي يبدو انها ستفتح بابا لا قبل لهم به.. !!
ذات مرة عندما كان رئيس الحكومة في المعارضة شكك في الرواية الرسمية الخاصة بأحداث 16 ماي الإرهابية، وقالها حينها سرا وبعد سنوات جهرا : “لما جات احداث 16 ماي، والله اعلم لحد الان من كان وراءها،” !! وزاد بنكيران بصوت مرتفع : “يسمحو لينا حنا كنشكو فيمن كان وراءها” !!
هذه الاحداث وغيرها وغيرها أفقدت بعض الجهات في الدولة الثقة، وهذه الجهات توضع عادة في قفص الاتهام امام كل حادث غريب، والاشد غرابة هذه المرة هو محاولة المعنيين تصديق الرواية المعروضة، حفاظا على الاستقرار، وعدم استعدادهم بالمرة لتقبل أي رواية أخرى “مشوشة”، فما هي إلا عبث وتكهنات وتخرصات واشاعات وأضغاث أحلام واشاعات مغرضة…!!
فكأن لسان الشعب المكلوم يردد قولة نبي الله يعقوب ” بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ”
اما إخواننا في الله فيذكروننا بقصة هابيل واخيه قابيل، حتى وان كفر بعضهم بالرواية الرسمية في قرارة انفسهم، فلسان حالهم يقول، ” لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِين ” وذلك حفاظا على استقرار المملكة الشريفة دوما، وكما قال الاشقاء التوانسة في نشيدهم : نموت نموت ويحيى الوطن … !
كلمة في الختام:
إن كان رئيس حكومتنا قد دعانا إلى التسليم بقدر الله واعتقاد ان ما يقع في النهاية هو خير، فإنه قد أشار في الكلمة ذاتها إلى “الغرابة” التي لابد منها في السياسة المغربية، حيث اعتبرها “توابل” تميز المطبخ المغربي…!!
وإذا كان أحد احباب المرحوم قد حاول تفسير الوفاة الغريبة على ضوء حكاية إدريس عليه السلام المبثوثة في التراث الإنساني، حيث تجمع تلك الحكايات على القدر المحتم العجيب، وكيف يسير الإنسان إلى أجله برجليه… مهما كانت الاحتياطات، فإن حبيبا آخر خاطب المرحوم قائلا: وافاك أجلك، وأنت شارد الوعي والحس، ساهم الفكر، مأخوذ بسكرة الهم والتفكير في شؤون البلاد… وما عَلِم الناس، أن ما أكثر ما قتل القادة السياسيين، شرودهم الذي يستغرقهم في هموم أوطانهم…!!
وأخيرا :
وبعد هذا المهرجان من الروايات المرتبكة، والتسابق المحموم للتشكيك فيها، والمحاولات اليائسة لصد أمواج الشك وتوقيفها، و”الاجتهادات” البسيطة في فهم “الوفاة الغريبة” وتفسيرها، فإن الفقيد الحكيم قد جلاها واضحة قبل وفاته وأعادها : “كلها يدير شغلو”…وفعلا قبل الحادث وأثناءه وبعده “كلها دار شغلو”… ورحمة الله عليك السي عبد الله بها…
المصدر : https://dinpresse.net/?p=3417