14 يوليو 2025 / 10:29

في نقد العقل المادي المجرد: الحلقة الأولى

تنشر منصة “دين بريس” عبر حلقات، دراسة مطولة للباحث المغربي طارق حنيش، تحت عنوان “في معالم التيه: نقض مفهوم العقل المجرد، وإثبات العقل المؤيد في مسالك الوجود الهيدغري”، من باب التعريف بإنتاجات الباحثين المغاربيين والعرب في الفكر الإسلامي.

********************************

طارق حنيش

في معالم التيه: نقض مفهوم العقل المجرد، وإثبات العقل المؤيد في مسالك الوجود الهيدغري

نسج هايدغر في كتاب مسارات الغاب [Holzwege]، فصلا أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وجعل عنوانه كلمة أناكسيماندر، وفيه غاص في لجج التعبير الأقدم للفكر الغربي، ذاك الذي انطوى على بذور الفلسفة الأولى، قبل أن ينسج حوله نسج الاصطلاح والتقعيد. وإنما كان هذا التعبير منبتا بين الأسطورة والعقل، فكان نتاج لحظة فاصلة من لحظات الوجود الفكري، لحظة اختلط فيها القول الملحمي بالحكمة التأملية، فنجم عنها نمطٌ خاص من النظر، هو المسمى بالفلسفة.

ولما كان القوم من الغربيين قد ألفوا في أنفسهم ميولا خفية، وتشوفا مبهما إلى هذه الفلسفة الأولى، وصفهم هايدغر -على جهة التنبيه والتبكيت- بأنهم الوافدون المتأخرون عليها، فهم لم يولدوا في حجرها، وإنما جاؤوا إليها بعد أن أطفئت مشاعلها الأولى. وأما الفلسفة تلك، التي بزغت مع الإغريق، حينما افترق القول عن الميثوس واتصل باللوغوس، فإنها اليوم، في نظر هايدغر، لتبدو وكأنها على شفا النهاية، إذ تقف مترددة بين غياب الأصل وانكشاف المصير.

هذا هو الطابع الإسكاتولوجي الذي يسم فكر هايدغر، فإنه يقيم معناه على سؤال النهاية الكبرى، لا من حيث الزوال، بل من حيث التحول الأقصى، فيسائل سؤالا مثقلا بالقلق والتوجس: هل نحن على شفا التحول الأعظم، للأرض وما فيها، وللزمكان التاريخي الذي وسمنا به؟ هل نحن على العتبة التي منها يكون الانطلاق إلى فجر آخر؟ هل عشية العالم هذه هي مبدأ الرحلة الكبرى؟

ومن دقائق هايدغر وبليغ تلاعبه باللفظ، أنه وقف عند مفردة “الغرب” في لسان الألمان، وهي Abendland، ومعناها الحرفي: أرض العشاء، وكأنها نذير نهاية أو غروب، فهل يا ترى هذا “العشاء” الغربي هو تمهيدٌ لليلة حالكة يعقبها فجرٌ متجل؟ أم هو نذر النهاية التي لا قيام بعدها؟ وهل يكون الغرب، إذ يشار إليه بهذا اللفظ، حمالا لدلالة وجودية تنبئ عن انقضاء عهد وبزوغ آخر؟ ثم إن في فكر هايدغر مفارقة مدهشة، هي مما يجل عن البسط والتسرع، فإنه يبدي تدينا لا إله له، وهو الذي عبر عنه بعض من فسره، كفييتا، بعبارة “التدين المعلمن”، إذ لا يقيم مقام الإله إلها، وإنما ينزل الوجود منزلة المقدس، فيكون الدين عنده خاليا من معناه الشرعي، ممتلئا بدلالته الوجودية الصامتة. وبهذا، استقت الوجودية الفرنسية من هايدغر لبناتها، وإن اختلف البيان وتفاوت التأويل. فليتأمل الناظر، فإن في هذه المطارحات من دقائق القول ما يثير السائل، ويحرك الفطن، ويزعزع يقين من ظن أن الفكر الغربي قد استقر على حال، أو انتهى إلى قرار.

إن هذا “التدين” الذي لا ينسب إلى شريعة، ولا يحتكم فيه إلى وحي، ليميل ميلا بينا إلى النزعات الإسكاتولوجية، التي تؤثر مقام الانتهاء على مقام الابتداء، وتجعل السؤال عن المصير أولى من السؤال عن الأصل. وهو تدينٌ لا يناجي معبودا، بل يتوسل بالوجود في حضوره الغامض، ويجعل من الصمت صورة من صور الوحي، ومن الغموض طريقا إلى الكشف، ولكن دون مكاشفة صريحة، أو خطاب مشرع.

على نقيض ذلك، نلحظ عند فلاسفة آخرين، كـديمبف، ميلا إلى ما يسميه بعضهم “نقدا ذاتيا للفلسفة”، أي نزوعا إلى تقويم أسسها لا ابتغاء إنكارها، ولا تقويضا لبنائها. وإنما يراد به أن تضبط النظرة الأنثروبولوجية الوجودية في أطر أشد عقلانية، وأن يفحص جوهر الفلسفة فحصا دقيقا من غير انزلاق إلى الثيولوجيا في صيغتها الكاثوليكية الكلامية، تلك التي خلطت بين النظر الإلهي والقول الميتافيزيقي، حتى غامت الحدود وتداخلت المقاصد. ولا ينبغي للمرء، وإن اشتد نقده، وتعاظم تحفظه على تيارات الوجودية بألوانها الثلاثة—الوجودية الدينية عند ياسبرز، أو الوجودية التحليلية عند هايدغر، أو النفسية عند سارتر—أن يغفل عن بعض ما انطوت عليه هذه التيارات من مقاربات جديدة للسؤال الإنساني، بل هي وإن جرت معها نوعا من الإفقار الروحي، وسلكت طريق التهويم أحيانا، فإن فيها نبضا لم يدركه الفكر التقنوي المعاصر، ولا التوجه الوضعي القاصر. ولقد ظل فكر هايدغر، على وجه الخصوص، محاطا بهالة من الغموض، غموض لم يكن ليقصده تزيينا أو ترفا بيانيا، بل كان يسعى إلى كشفه لا إلى ستره، وتفكيكه لا إلى تركه، وهو غموضٌ يعبر عن طبيعة مزدوجة في خطابه، تجسدت في الروح الجرمانية، تلك التي لا تفصل بين الوجدان والفكر، ولا ترى في العقل آلة باردة، بل مقاما للكشف المتوتر، المتردد، المعلق بين الوجود والعدم. على الضفة الأخرى، نجد أن الثقافة الأنجلوساكسونية، وقد أشربت النزوع النفعي، لم تلق بالا إلى القلق الوجودي الذي كان محور تأملات الوجوديين، وإن تكن بذوره قد نبتت هنالك، لا بصورته القلقة، بل بصورته العملية في الفلسفة البراغماتية، التي صاغ معالمها ويليام جيمس وجون ديوي، كما نبه إلى ذلك هاينريش سترومان، إذ أشار إلى أن ما عندهم ليس فقدانا للقلق، بل استبدالٌ له بالمنفعة والتجريب.

وأما الفينومينولوجيا، التي أسس دعائمها إدموند هوسرل، فشأنها في الفكر الفلسفي مباينٌ لما درجت عليه المدارس التقليدية، فإنها لم تقم بنيانها على مجرد الاستقراء الحسي، كما هو حال الوضعيات، ولا على القياسات المنطقية المحضة، كما عند العقليين، بل نهجت مسلكا وسطا، قوامه “تعليق الحكم”، والتوجه نحو الظواهر ذاتها، كما تعطى في الوعي، دون تعصب لنظرية سابقة أو مرجعية ميتافيزيقية. ولأجل هذا، رأى فيها بعض أهل النظر إمكانا جديدا لتجاوز ثنائية الذات والموضوع، وطلب الجوهر فيما يتجلى، لا فيما يفترض أو يؤسس.

وإنما انتشرت هذه الطريقة في أنحاء من أوروبا والعالم، لما فيها من وعد بكشف البنى التحتية للوعي، تلك التي يغفل عنها الحس الظاهر، ولا تدركها التجربة الساذجة، إذ هي ليست عارضة، بل شرطا إمكانيا لكل تجربة. غير أن هذه النزعة، لما كانت مشروطة بالانفكاك عن الزمان والمكان، ومرتبطة بمقولة “الوعي المحض”، قد ووجهت بالرفض من بعض العقليات التي لا تستسيغ النظر في المجرد، كما في حال غويدو دي روجيرو، الذي رأى في هذه الفلسفة ميلا إلى الانفصال عن قضايا الإنسان الواقعي، وانصرافا إلى تخيلات لا ثمرة لها، إذ لم يكن المزاج الإيطالي آنذاك ميالا إلى التعاطي مع ما لا يشتبك مباشرة مع التاريخ والمجتمع والسياسة. وقد ذهب كونراد-مارتيوس، وهو من أعلام المدرسة الفينومينولوجية، إلى القول بأن هذه النزعة تمثل القطب المناقض للوجودية، إذ إن بينهما بونا شاسعا لا يخفى، فالفينومينولوجيا تجعل قبلة فكرها الماهية لا الوجود المتعين، وغايتها تمثل الثوابت البنيوية لا الحالات الطارئة، فهي لا تبحث عن الإنسان في ضيق وجوده القلق، بل في سعة قدراته الإدراكية، ولا في صراعه مع الموت، بل في انتظام إدراكه لماهية الموت.

ومن أجل ذلك، كانت الفينومينولوجيا عندها أقرب إلى علم المعاني الباطنة، منها إلى خطاب القلق والتمزق، كما هو شأن الوجوديين. وقد بين هذا الفرق أدولف رايناخ، وهو من أوائل من تصدى لشرح مبادئ هذه المدرسة، وبيان مقاصدها، إذ أكد أنها تعنى بـ بنى الوعي الممكنة كلها، لا من حيث هي مشروطةٌ بزمان أو مكان، بل من حيث هي إمكاناتٌ مطلقةٌ، تطلب طلب المعاني الأولى، لا الوقائع الأخيرة. فلا ينظر في التجربة لأنها واقعٌ مخصوصٌ، بل لأنها مظهرٌ لكيفية اشتغال الوعي، فغاية الفينومينولوجيا ليست تحليل الحياة، بل تحليل إمكان تعقل الحياة.

وهذا الفرق الجوهري بين المدرستين، الفينومينولوجية والوجودية، إنما يدل على انقسام أعمق في العقل الحديث، بين من يرى الفكر وسيلة لإيضاح الممكنات الصامتة في النفس، ومن يرى الفكر صرخة ضد العدم، ونداء في قلب الصحراء. فالفينومينولوجي يحلل التجربة لينزع منها ما ليس ذاتيا، بينما الوجودي يحتضن التجربة، بما فيها من ألم، وفقد، وقلق، ويجعل منها موضوع التفلسف بعينه.

ملاحظة: الصورة المرفقة للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر