عبد المجيد باعكريم
يعلم الجميع أن تعدد المناهج يعود إلى تعدد الموضوعات، لكن ما لا يعلم الكل هو أن هذه المناهج مرتبة ترتيبين:
– ترتيب عمودي، من الأسفل إلى الأعلى، أي من المنهج البسيط، المرتبط بموضوع مخصوص (الموضوع العيني) ارتباطا مباشرا، إلى المنهج المركب، المنصب على النسق النظري، الجامع للموضوعات الجهوية ومناهجها المتميزة، والمنتظمة تحت لواء مبدأ عام، هو بمثابة منهج المناهج، لعدم ارتباطه بموضوع بعينه، بل لاختراقه الموضوعات المتنوعة المكونة للنسق في عصر من العصور. يحكم النسق النظري مبدأ منهجي عام، انطلاقا منه نستنبط، بالضرورة، موضوعات ونتائج مختلف الصنائع المنضوية تحت لوائه. في هذا المستوى الأعلى، نكون أمام منهج يرسم آليات التفكير ويحدد قواعد اشتغال العقل ذاته، ضمن نسق معين. غير أن هذا المنهج العام، وإن كان يخترق النسق في طوبولوجيته، أي في مكانيته، فإنه يظل لصيقا به في زمانيته، أي في تاريخيته، من هذا المنظور، مثلما نتحدث عن تواريخ – بالجمع – للصنائع، سنتحدث عن تاريخ – بالمفرد – للأنساق. في هذه المرحلة، نكون بحضرة المنهج الأبستمولوجي، من حيث إنه يترجم منهج عمل العقل الكوني وقوانين التفكير الإنساني، بغض النظر عن أي موضوع، ما دام يحضن كل الموضوعات. هاهنا، يجوز لنا تجاوز مفهوم النسق، نسق الأفكار، إلى مفهوم البنية، بنية الفكر، موضوع اشتغال العلوم المعرفية، ومن ثمة الارتقاء إلى منهج أعم، أي إلى المنهج الكوني، هذا المنهج الذي يخترق الأنساق النظرية كلها، المتجانسة بطبيعتها، مثلما يخترق النسق الصنائع، غير المتجانسة بطبيعتها. إنها خطوة جبارة صوب أبستمولوجيا بدون موضوع، تتمة للعمل الهائل الذي أنجزه كارل بوبر، بدعوته إلى إقامة أبستمولوجيا بدون ذات. في هذا المستوى يمكن الحديث عن علم الأبستمولوجيا، حيث يتم تفسير الأفكار بأفكار أخرى، خارج أي ذات، وحيث تتنزل هذه الأفكار منزلة الرموز في العلوم الحقة، خارج أي موضوع.
وفي النهاية، من المعول على الداعي إلى المنهج الأبستمولوجي، بعد أن يكون قد استخلص قوانين التفكير من تاريخ الأفكار، أن يُخضعَ نتائج فحصه النظري الخالص للمحك المختبري، أي أن يواجه ثمرة فحصه بنتائج العلوم المعرفية، لتؤكدها أو تبطلها.
– ترتيب أفقي، يقتضي تنظيم هذه المناهج، وفق علاقة عضوية وثيقة بإشكاليات ملائمة مخصوصة وأهداف بحثية مدروسة. وعلى قدر وضوح الإشكالية وسلامة مقوماتها، يكون المنهج المختار فعالا، يشرع الباب على مشاريع بحثية مثمرة، غير مرتبطة بأشخاص وممتدة في الزمان عبر أجيال، وإلا فإنها تؤدي حتما إلى الباب المسدود، إذا كانت زائفة. وهذا ما وقع مع الأسف لمشاريع عديدة فاشلة في الفكر العربي المعاصر.
كانت إشكاليتنا، منذ ما يقارب قرنين من الزمان، وما زالت، البحث في سبل الدخول إلى العصر، عصر العلم والتقنية، وتجاوز حالة التخلف صوب حالة التقدم. غير أن التشخيص غير السليم للإشكالية، أدى إلى وضع فرضيات خاطئة اعتقدناها مفسرة لحالة التخلف، ومن ثمة رسمت المنهج الخطأ، والنتيجة، مولود ميت. قد يثير المنهج الخاطئ حماس جمهور المثقفين في البداية، ولكن، بعد أن يكون قد ملأ الدنيا وشغل الناس، لا يلبث أن يخيب آمالهم، ويستفيقون على وقع سنوات ثمينة من العمل والجهد المهدور، ليكتشفوا أنفسهم يراوحون مكانهم، وفي الوقت الذي تكون فيه الأمم المتقدمة قد خطت أشواطا إلى الأمام، يكونوا قد خطوا ضعفها، لكن إلى الوراء، ومن تخلف بسيط يصيروا بإزاء تخلف مركب، بحيث بدل أن يكون الحاضر أفضل من الأمس، يقع العكس. إنها الدوامة.
عاش مثقفونا هذا الوضع في النصف الثاني من القرن الماضي، وتكرس خصوصا مع نكسة 1967، حيث تعالت الأصوات لإعادة النظر في معتقدات شعوبهم وثقافتها، وتم تبني المنهج المادي التاريخي، لسيادة الاعتقاد أن الدين هو المسؤول عن تخلفها، (مؤلفات كثيرة صدرت في تلك الأثناء، انطلاقا من هذا المبدأ، يجسدها كتاب مشروع رؤية جديدة للسوري الطيب تيزيني، وهي مصنفات لا يعرف عنها الجيل الحالي شيئا). تمت إضاعة عقود مع إشكالية مزيفة ومنهج غير ملائم. وما زال مثقفونا تائهين في بحر الزيف والخطأ، وما زلنا نكابد النكسة ذاتها، لكن بنتائج أكثر درامية، نعيشها اليوم كل يوم.
في كتاب في المنهج، ودون ادعاء، حاولنا تشخيص إشكاليتنا بصورة نعتقدها سليمة، وحددناها بالأساس في التفكير، ومن ثمة، كان من الطبيعي اعتبار المنهج الأبستمولوجي، منهج التفكير، المنهج الموائم.