الدكتور محمد بشاري
قانون الأحوال الشخصية المعدل لعام 2024 في دولة الإمارات العربية المتحدة يُعد خطوة مهمة في مواكبة متطلبات العصر، مع الحفاظ على جذور الشريعة الإسلامية وقيمها. هذا التعديل التشريعي ليس مجرد نصوص قانونية، بل يعكس فلسفة متقدمة تعيد صياغة العلاقة بين الأصالة والتجديد. ومن بين المحاور البارزة في هذا القانون تسليطه الضوء على مفاهيم مثل حق الكد والسعاية، كجزء من رؤية شاملة لتحقيق العدالة والمساواة داخل الأسرة.
لطالما كان مفهوم الكد والسعاية محورًا هامًا في الفقه الإسلامي، حيث يؤكد على دور المرأة في بناء الأسرة والمشاركة في تنميتها. القانون الإماراتي يعيد إبراز هذا الحق من خلال ضمان الاعتراف بمساهمات المرأة الاقتصادية، سواء كانت تعمل داخل المنزل أو خارجه. المرأة، التي تتحمل مسؤوليات كبيرة في إدارة شؤون الأسرة والعمل، أصبحت بموجب هذا القانون شريكة كاملة في الحياة الزوجية، وهو ما يعزز مبدأ العدالة الذي تسعى الشريعة الإسلامية دائمًا إلى تحقيقه.
الاعتراف بحق المرأة في الكد والسعاية يظهر جليًا في النصوص التي تؤكد استقلال الذمة المالية لها، بحيث يحق لها الاحتفاظ بالمهر واعتباره ملكًا خالصًا لها. كما يمكن للمرأة أن تثبت حقوقها في حالة الانفصال بناءً على مساهمتها في بناء الثروة أو تطوير الحياة الأسرية. هذا التوجه يتماشى مع تطورات العصر التي تسعى إلى تعزيز مكانة المرأة وضمان مشاركتها الفاعلة في مختلف مجالات الحياة.
فيما يتعلق بتنظيم العلاقة الزوجية، يُبرز القانون فلسفة متقدمة في إدارة الخلافات، مستندًا إلى مقاصد الشريعة التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار الأسري. من بين هذه التدابير إلزام الأطراف باللجوء إلى مراكز الإصلاح الأسري قبل رفع الدعاوى القضائية. هذه المراكز تعمل على تحقيق التفاهم والتوفيق بين الزوجين، مما يقلل من النزاعات ويحمي الأبناء من آثار الطلاق السلبية.
القانون يعالج أيضًا قضايا الطلاق من خلال نصوص مبتكرة تسعى إلى حماية الأسرة من القرارات المتسرعة. إلغاء الطلاق المتكرر وفق المذهب المالكي يعد إجراءً ضروريًا للحد من الانفعالات التي قد تؤدي إلى تفكك الأسرة. توثيق الطلاق إلزاميًا يضمن الحفاظ على حقوق الطرفين ويوفر حلولًا قانونية عادلة تقلل من النزاعات المستقبلية.
وفيما يتعلق بالولاية في الزواج، يمنح القانون القاضي سلطة تزويج المرأة في حال تعنت الولي دون مبرر. هذه الخطوة تمثل توازنًا دقيقًا بين احترام التقاليد الإسلامية وضمان حق المرأة في اختيار شريك حياتها. كما أن تقليص مدد الغيبة اللازمة لطلب التطليق إلى ستة أشهر يعكس مرونة القانون وحرصه على مراعاة الحاجات الإنسانية والاجتماعية للطرفين.
القانون المعدل يتجاوز كونه مجرد استجابة للتطورات الاجتماعية، ليصبح نموذجًا حضاريًا في التشريع الإسلامي. إنه يعكس فهمًا عميقًا لمقاصد الشريعة، حيث يحقق التوازن بين الحقوق والواجبات ويعزز من استقرار الأسرة كمكون أساسي للمجتمع.
حق الكد والسعاية الذي يُكرسه هذا القانون ليس مجرد نص تشريعي، بل هو تعبير عن تقدير عميق لدور المرأة ومساهمتها في بناء الأسرة والمجتمع. القانون يعزز من مكانتها كشريك أساسي في الحياة الزوجية، مع توفير آليات قانونية تحفظ حقوقها وتضمن تحقيق العدالة في كل مراحل العلاقة الزوجية.
وعلى صعيد آخر، تشهد المنطقة العربية موجة من الإصلاحات القانونية في مجال الأحوال الشخصية. المغرب، على سبيل المثال، يعمل على مسودة تعديل جديدة لقانون الأسرة بهدف تطوير منظومة الحقوق الزوجية وتمكين المرأة اقتصاديًا، مستندًا إلى التقاليد المالكية والخصوصيات المغربية. في مصر، يجري نقاش واسع بين مقترح البرلمان المصري ومقترح الأزهر الشريف لتطوير قانون الأسرة. يُظهر هذا النقاش أهمية الموازنة بين القيم الدينية ومتطلبات العصر الحديث، مع الحرص على مراعاة السياقات المحلية في صياغة القوانين.
إن هذه الحركات الإصلاحية، سواء في الإمارات أو في دول عربية أخرى، تعكس الوعي المتزايد بضرورة تطوير التشريعات بما يحقق الاستقرار الأسري ويحفظ حقوق جميع الأطراف. الإمارات تقدم نموذجًا رائدًا يُحتذى به، حيث يجمع بين الاجتهاد الشرعي والفهم العميق لمتطلبات المجتمعات الحديثة، مما يساهم في تحقيق العدالة والتنمية المستدامة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22735