محمد عسيلة*
تعتبر الهوية ركيزة أساسية في حياة الأفراد والجماعات، وخصوصًا الجاليات التي تعيش في سياقات ثقافية مغايرة. في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها أوروبا، بما في ذلك صعود الخطابات اليمينية المتطرفة، تتعاظم أهمية سؤال الهوية بالنسبة للجالية المغربية المقيمة بالخارج. هذا النقاش يكتسب بعدًا استراتيجيًا لأنه يتجاوز الفرد ليشمل علاقته بالمجتمع المضيف من جهة، ووطنه الأم من جهة أخرى.
يشهد السياق الأوروبي كما ذكرنا في مقالات سابقة صعودًا متزايدًا للتيارات القومية واليمينية المتطرفة التي تضع الهوية القومية في صلب خطابها السياسي، معادية بذلك التنوع الثقافي والديني. في ظل هذا المناخ، يُنظر إلى المظاهر الإسلامية، أو الثقافية المختلفة بما في ذلك اللغة العربية والدين الإسلامي، على أنها تهديد للهوية الوطنية الأوروبية.
وتبرز هنا الإشكالية المزدوجة التي تواجه الجالية المغربية: كيف يمكنها الاندماج في المجتمعات الأوروبية دون فقدان هويتها الأصلية؟
وفقًا لنظريات الهوية في علم الاجتماع، مثل نظرية “التفاوض على الهوية” (Identity Negotiation Theory)، فإن الأفراد في البيئات متعددة الثقافات يسعون إلى التوفيق بين هويتهم الأصلية والهوية المفروضة من قبل المجتمع المضيف. هذا الصراع قد يؤدي إما إلى تعزيز الانتماء أو إلى الاغتراب الثقافي إذا لم تتم معالجته بشكل صحيح.
وفي هذا السياق يُعتبر النموذج التركي مثالًا جديرًا بالدراسة في سياق الحفاظ على الهوية الوطنية للجاليات في الخارج، حيث تتبع تركيا نهجًا يرتكز على الوطنية الضيقة لتعزيز هويتها بين أفراد جاليتها. هذا النهج يتميز بتكامل أدواته ومؤسساته، مما يجعله نموذجًا واضحًا للاستفادة منه أو نقده، ويمكن تلخيصه في النقاط التالية:
السيطرة المركزية على المساجد:
تُدير تركيا المساجد في أوروبا بشكل مباشر من خلال مؤسسات مثل “ديتيب” (DITIB)، الذراع الدينية التابعة لرئاسة الشؤون الدينية التركية. هذه المؤسسة لا تكتفي بتقديم الدعم الروحي فقط، بل تُعتبر أيضًا أداة استراتيجية تعزز النفوذ التركي الديني والسياسي على أفراد الجالية.
يتم تعيين الأئمة كـ”موظفين حكوميين” يتبعون مباشرة لرئاسة الشؤون الدينية، ويتلقون تكوينًا مكثفًا في مدارس ومعاهد تركية قبل إرسالهم إلى الخارج.
يُطلب من الأئمة تقديم تقارير دورية إلى الملحقين الدينيين في السفارات والقنصليات التركية، ما يُبرز البعد الرقابي والسيادي لتركيا على جاليتها.
علاوة على ذلك، تشتغل مؤسسة “ديتيب” في إطار نظام جمعوي منظم يحمل صفة المنفعة العامة، مما يتيح لها التوسع والتأثير على نطاق واسع.
أدوار متعددة لمؤسسة “ديتيب”:
لا تقتصر مهام “ديتيب” على الجانب الديني، بل تشمل أيضًا تعزيز الحوار والعيش المشترك حيث تعمل المؤسسة على بناء علاقات مع المؤسسات الأوروبية لتشجيع التفاهم الثقافي والديني.
تقوم “ديتيب” بتوثيق أي حوادث عنف أو رفض اجتماعي يستهدف المساجد التركية أو المواطنين الأتراك. يتم التعامل مع هذه الحالات بشكل رسمي مع السلطات المحلية، ما يُبرز قدرتها على الدفاع عن مصالح الجالية.
كما أن لها مفوضين ومفوضات لدى الجامعات والمؤسسات الحكومية الذين يحاضرون ويتابعون ويتدخلون في القضايا التي تستأثر بالاهتمام. هؤلاء المفوضون والمفوضات لهم تكوين أكاديمي وعلمي وثقافي مهم ويؤثرون في كل هذه النقاشات في الاتجاه الذي يخدم النموذج التديني والثقافي التركي وبهذا تُشغل المؤسسة التركية مئات الموظفين من الأئمة والباحثين والأساتذة، مما يُظهر الطابع الاحترافي والمتكامل لنموذجها الإداري.
النموذج التركي يُبرز أهمية استخدام مؤسسات الدولة في الخارج كأدوات لدعم الجالية وتعزيز هويتها، لكنه يُثير أيضًا تساؤلات حول إمكانية تحقيق التوازن بين تعزيز الهوية الوطنية والانخراط في المجتمع المضيف.
من جهة، يُساعد هذا النموذج في الحفاظ على الانتماء الوطني والديني للجالية، ويوفر دعمًا قويًا في مواجهة تحديات الاندماج. ومن جهة أخرى، قد يُنتقد بسبب طابعه المركزي الذي يُمكن أن يعزل الجالية عن البيئة الأوروبية، مما يؤدي إلى فجوة ثقافية وتراجع في الاندماج الاجتماعي.
على الرغم من اختلاف السياقات، يمكن للمغرب الاستفادة من هذا النموذج مع مراعاة خصوصيات الهوية المغربية ومرجعيتها القائمة على إمارة المؤمنين. يمكن مثلا التفكير في إنشاء مؤسسات مشابهة ذات بعد ثقافي وديني متكامل لدعم مغاربة العالم في احترام للسيادة المغربية وسيادة الدول الأوروبية (ألمانيا أنموذجا)، مع التركيز على تعزيز القيم الدينية المعتدلة والهوية المغربية الشمولية والتي قد تعطي دفعة قوية للسلم والسلام والانسجام الاجتماعي على رقعة هذه القارة العجوز.
فتطوير نظام شفاف ومرن لإدارة المساجد والمراكز الثقافية في أوروبا على مقاس نموذج التدين المغربي المبنى على إمارة المؤمنين، يسمح لمغاربة العالم بالمشاركة الفعالة دون الشعور بالعزلة أو الوصاية.
هذا التوازن بين التمكين الأمكن كما يقول المناطقة والاندماج حسب رؤية تراعي الثوابت والأصول المغربية يجب أن يكون حجر الزاوية لأي استراتيجية تستهدف مغاربة العالم.
كما أن اللغة كأداة للسيطرة في النموذج التركي الذي يؤكد على تعلم اللغة التركية فقط أو بشكل مبدئي لا يقبل التجاوز، مع تجاهل السياق الأوروبي، مما يحد من قدرة أبناء الجالية على الانخراط الكامل في المجتمعات المضيفة. كما تسعى تركيا لترسيخ مفهوم الولاء الكامل للوطن، أحيانًا على حساب هوية الجيل الثاني والثالث الذين يجدون أنفسهم بين هويتين متعارضتين.
لكن هذه المقاربة الوطنية الضيقة ليست خالية من السلبيات؛ إذ غالبًا ما تؤدي إلى عزلة الجالية التركية عن المجتمع المضيف، ما يزيد من فجوة الاندماج ويُغذي الصور النمطية السلبية.
بالمقارنة مع النموذج التركي، تمتلك الهوية المغربية بُعدًا أكثر شمولًا وتوازنًا بفضل مرجعية إمارة المؤمنين، التي تجمع بين الدين والاعتدال والانفتاح على العالم. ومع ذلك، يجب على المغرب أن يُعيد صياغة استراتيجياته لدعم الجالية المغربية في الخارج، مع مراعاة السياق الأوروبي المتغير.
ونتساءل في هذه السطور: ماذا يجب أن يقوم به المغرب لضمان ترسيخ الهوية المغربية لدى جاليته في الخارج؟
إن المقاربة التي نقترحها تتجاوز النموذج التركي، حيث تسعى إلى تقديم رؤية شمولية تُبرز خصوصية الهوية المغربية وأبعادها المتنوعة في ظل مرجعية إمارة المؤمنين. بدلاً من التركيز الحصري على البعد الديني، يجب تطوير برامج تربط الجالية المغربية بمختلف مكونات الثقافة المغربية، بما في ذلك الأدب، الفنون، العادات، التاريخ، والرحلات.
هذه البرامج يجب أن تعزز شعور الانتماء مع الحفاظ على الانفتاح الثقافي، مما يتيح لمغاربة العالم الاستفادة من الهوية المغربية كقوة ناعمة تمكنهم من الاندماج بفعالية في المجتمعات المضيفة.
كما أن تعزيز الهوية لا يقتصر على اللغة العربية أو الدين الإسلامي فقط، بل يتطلب رؤية مؤسسية متكاملة. لذلك، يُقترح إنشاء مؤسسة تربوية وثقافية ذات مرجعية وطنية تعمل تحت إشراف السفارات والقنصليات المغربية، وتكون لها شراكات وتعاقدات مع المؤسسات الأوروبية.
هذه المؤسسة يمكن أن تعتمد على كفاءات مغاربة العالم الذين يتمتعون بتحصيل معرفي متقدم، ووعي بالواقع الأوروبي، وقدرة على فهم هندسة المخيال الثقافي للمجتمعات الأوروبية.
يجب أن تُقدَّم هذه البرامج التعليمية والتثقيفية بالتعاون مع المؤسسات الأوروبية، لتجنب النظرة الانعزالية التي قد تواجهها مبادرات تعتمد حصريًا على السياق المغربي.
من خلال هذه الرؤية، تكون المقاربة المغربية نموذجًا متفردًا يمزج بين الحفاظ على الهوية الوطنية والانفتاح الحضاري، مما يُعطي للهوية المغربية بعدًا عالميًا مستدامًا، ويُساهم في تحقيق التوازن بين الاندماج والخصوصية الثقافية.
كما يمكن أن تكون المساجد أماكن عبادة وأنشطة ثقافية تنظم موائد مستديرة حوارية ليس فقط مع رواد المسجد بل مع المؤسسات الثقافية والاجتماعية ورجالات الكنائس والبيع، بحيث تتحول إلى مراكز ثقافية بامتياز، تظهر وجودها وتصنع لوبيات وتحالفات وازنة، تقدم أنشطة تعليمية وتوعوية وتُعزز الانتماء والاندماج.
كما يمكن داخل هذه المنظومة من الاقتراحات إنشاء منصات تفاعلية للشباب المغربي في أوروبا تُركّز على قضايا الهوية والدين باللغات الحية التي يتقنها واللغة العربية كذلك، تتيح لهم مناقشة تجاربهم ومخاوفهم ونوازلهم.
كما يمكن للمغرب أن يستثمر في بناء شراكات مع دول أوروبية عبر كفاءات مغاربة العالم لإطلاق مبادرات ثقافية تعزز من صورة الهوية المغربية كهوية منفتحة ومعتدلة وتدافع عن ثوابت الأمة المغربية بشكل احترافي بعيد عن ردود الأفعال المتشنجة والتدافع الفلكلوري المحض.
إن هذه المقاربة المقترحة تندرج بشكل طبيعي ضمن رؤية وتصور المؤسسة المحمدية للجالية المغربية، التي نادى بتأسيسها أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، كخطوة استراتيجية لرعاية شؤون مغاربة العالم.
فهذه المؤسسة، التي تجسد الرؤية الملكية السامية، تهدف إلى توفير إطار مؤسساتي شامل يعزز الهوية الوطنية للمغاربة بالخارج، ويرسخ قيم الوسطية والتسامح التي تشكل جزءًا أساسيًا من مرجعيتنا الدينية والثقافية.
من خلال هذه المؤسسة، يمكن تفعيل المقاربة المقترحة بشكل عملي وممنهج، بحيث تعمل على تطوير برامج تعليمية وتثقيفية متكاملة تتماشى مع الواقع الثقافي والاجتماعي للجاليات المغربية في أوروبا.
وستكون المؤسسة المحمدية ومجلس الجالية المغربية منصة للتواصل الفعال بين المغرب وجاليته بالخارج، تجمع بين الحفاظ على ثوابت الهوية الوطنية والانفتاح على ثقافات المجتمعات المضيفة، مما يُمكن الجالية المغربية من لعب دور فعال كجسر للتواصل الثقافي والحضاري بين المغرب والعالم.
إن إدماج هذه الرؤية ضمن إطار مجلس الجالية المغربية و المؤسسة المحمدية يعزز من فعاليتها، ويضفي عليها طابعًا استراتيجياً مستدامًا يتماشى مع التوجيهات الملكية السامية التي تضع مغاربة العالم في صميم اهتمامات الدولة المغربية، باعتبارهم سفراء لهويتنا وتراثنا أينما كانوا.
إن قضية الهوية ليست مجرد شعور داخلي أو انتماء وجداني، بل هي مشروع وطني عميق يتطلب تكاتف الجهود وتضافر الإرادات. ففي ظل التحولات العالمية وتحديات الاندماج في المجتمعات الأوروبية، تبقى الهوية المغربية شعلة مضيئة تحميها رعاية أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي يولي الجالية المغربية اهتمامًا استثنائيًا، ويعمل على تعزيز ارتباطها بأصولها وقيمها الراسخة.
تحت شعار الله، الوطن، الملك، يجتمع الماضي العريق بالحاضر المتجدد، حيث تمثل إمارة المؤمنين سياجًا روحيًا وفكريا ووطنيًا يحمي المغاربة من الذوبان الثقافي، ويوجههم نحو الاعتدال والتعايش. إنها هوية تُصان بالدين المعتدل، والتراث الغني، والانفتاح على الآخر، مما يجعلها نموذجًا يحتذى به في ظل عالم يموج بالصراعات الثقافية.
ولأن الهوية لا تُبنى بالخطابات وحدها، فإن التحدي الحقيقي يكمن في العمل المتواصل من أجل تمكين الأجيال الجديدة من مغاربة العالم، وإشراكهم في صياغة مستقبل يجمع بين جذورهم العميقة وأجنحتهم المنفتحة على العالم. إن التعليم، والمساجد، والأنشطة الثقافية، وبرامج الدبلوماسية الدينية، هي أدوات تحمل مسؤولية كبيرة في ترسيخ الانتماء والاعتزاز بالوطن.
تحت القيادة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، تبقى الهوية المغربية أفقًا مفتوحًا للإبداع والتواصل، حيث يتحول التحدي إلى فرصة، والماضي إلى دافع، والمستقبل إلى حلم جماعي، تسنده قيم التعايش والمحبة والسلام.
ـــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21717