سعيد الزياني
قاد أبو محمد الجولاني، الاسم البارز في المشهد السوري، هيئة تحرير الشام (HTS) نحو تحولات استراتيجية وتنظيمية تعكس فهمًا عميقًا للواقع المتغير في البلاد، معتمدا في استراتيجيته الحالية على مزيج من البراغماتية السياسية، التحالفات التكتيكية، والتكيّف مع الضغوط الإقليمية والدولية.
هذا التحليل يستعرض تطورات هذه الاستراتيجية في ضوء معطيات ميدانية وتنظيمية، ويسلط الضوء على تحولاته الأيديولوجية وأثرها على دوره المستقبلي في سوريا.
1 ـ التحولات الأيديولوجية والتنظيمية
إن أحد أبرز سمات استراتيجية الجولاني الحالية هو تخليه عن جذوره الأيديولوجية السابقة المرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة. هذه الخطوة لم تكن مجرد تغيير فكري، بل كانت ضرورية لضمان بقائه كفاعل محوري في سوريا، حيث بدأ هذا التحول بالانسلاخ عن تنظيم القاعدة في 2016، متخذًا مسارًا أكثر استقلالية، ومحاولًا التكيف مع الديناميات المحلية والإقليمية.
وقام، الجولاني، لإحكام سيطرته، بتطهير صفوف الهيئة من الشخصيات المرتبطة بتنظيم القاعدة، مثل أحمد سلامة مبروك وأبو طلحة المسير، إما عبر الاغتيال أو السجن. كما استهدف الجولاني قيادات جماعات مرتبطة بالقاعدة مثل “حرّاس الدين”، وسجن رموزها، منهم أبو همام السوري وسامي العريدي، وقتل آخرين مثل أبو مريم الجزائري وجابر الأذري، مما ساهم في تقليص نفوذ المهاجرين والقيادات الأجنبية، وهو ما يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية تحويل الهيئة إلى كيان محلي أكثر قبولًا.
2 ـ التكيّف السياسي وتحسين الصورة الدولية
يظهر الجولاني حاليًا كرجل براغماتي يهدف إلى تحسين صورته لدى القوى الإقليمية والدولية، فاستغل عداءه لتنظيم “داعش” لصالحه، حيث تعاون مع القوى الغربية في ملاحقة قيادات التنظيم، بما في ذلك المساعدة في تحديد مواقع زعمائه كأبي بكر البغدادي وأبي إبراهيم القرشي، هذا التعاون منح الجولاني فرصة لإعادة تعريف موقعه في الساحة الدولية كعدو مشترك لتنظيم داعش.
إضافة إلى ذلك، أصدرت الهيئة بيانات تهدف إلى طمأنة القوى الكبرى، مثل إعلانها عدم نيتها محاربة روسيا أو إسرائيل، وهو تحول تكتيكي يهدف إلى تحييد التهديدات الخارجية، مما يبرز محاولات الجولاني لتقديم نفسه كفاعل براغماتي يمكن للقوى الدولية التعامل معه، على غرار حركة طالبان الأفغانية التي استطاعت فرض نفسها كشريك محاور للغرب.
3 ـ الهيمنة العسكرية والإدارية
على الصعيد الداخلي، عمد الجولاني إلى تعزيز سيطرته على المناطق الواقعة تحت نفوذ الهيئة، لا سيما في إدلب ومحيطها فشكّل “حكومة الإنقاذ” كإطار إداري لإدارة المناطق التي يسميها “المحررة”، مما أضفى طابعًا مؤسسيًا على وجوده، مجبرا الفصائل الأخرى إما على الاندماج ضمن الهيئة أو حل نفسها وتسليم أسلحتها. هذه الخطوة لم تكن مجرد توسع عسكري، بل كانت تهدف إلى توحيد القيادة وضمان مركزية القرار.
ولضمان الاستقرار التنظيمي، قام الجولاني بتقسيم الهيئة إلى تيارات واضحة المعالم، التيار الأول يضم قيادات المنطقة الشرقية، مثل مظهر الويس، بينما التيار الثاني يمثل قيادات الصف الأول مثل عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي) وزيد العطار وأبو أحمد حدود. هذا التقسيم ساهم في تقليل الخلافات الداخلية ومنح الهيئة بنية قيادية أكثر تماسكًا.
4 ـ التحالفات مع المكونات الإسلامية المعتدلة
استراتيجية الجولاني شملت بناء تحالفات مع الجماعات الإسلامية المعتدلة نسبيًا، خاصة تلك التي لها امتداد شعبي أو إداري في مناطق إدلب وحلب وحماة، مثال ذلك التعاون مع هيئة حماية المدنيين التي يديرها نذير الحكيم وهيثم رحمة، ودروع الثورة بقيادة العميد سامي أحمد حمزة ونائبه محمد حسين نعسان، هذه التحالفات قدمت دعمًا إضافيًا للهيئة، وساعدتها في توسيع نفوذها مع تقليل التوترات مع الفصائل الأخرى.
هذا التوجه نحو التحالفات يشير إلى إدراك الجولاني لأهمية تعزيز القبول المحلي والإقليمي، خاصة في ظل المشاعر العدائية للسكان تجاه القوى الأجنبية والمجموعات المتشددة.
5 ـ القبول الشعبي والاستفادة من الصراعات المحلية
إن أحد الجوانب التي برزت في استراتيجية الجولاني هو السعي للحصول على دعم المجتمع المحلي، حيث أدرك أن النجاح العسكري وحده لا يكفي لضمان الاستقرار، لذا حاول تقديم نفسه كبديل مرحب به مقارنةً بالقوى الأخرى، مثل الميليشيات الإيرانية وحزب الله، التي تورطت في انتهاكات ضد السكان، وهي مقاربة أكسبت الهيئة قبولًا واسعًا في المناطق التي تدخلها، خاصة حلب.
إضافة إلى ذلك، تجنب الجولاني معاقبة المجتمعات المحلية أو فرض قيود صارمة عليها كما فعلت بعض الجماعات المتشددة الأخرى، ما ساعده في بناء علاقة أقل تصادمية مع السكان، وعزز من شرعية الهيئة في أعينهم.
6 ـ الدور التركي ومكانة الجولاني الإقليمية
تلعب تركيا دورًا محوريًا في استراتيجية الجولاني، وتُعتبر أنقرة شريكًا غير معلن للجولاني، حيث تغض الطرف عن أنشطته وتستفيد من وجوده كوسيلة ضغط في المشهد السوري، فاستفادت من الدعم التركي اللوجستي والسياسي في صراعها مع القوى الأخرى، مما مكنها من تعزيز نفوذها في إدلب والمناطق المحيطة.
العلاقة مع تركيا تعكس فهم الجولاني للعبة الجيوسياسية المعقدة في سوريا، حيث يحاول الحفاظ على توازن بين مصالحه الذاتية ومصالح القوى الإقليمية.
7 ـ المستقبل وتحديات الاستدامة
رغم نجاحاته الحالية، يواجه الجولاني تحديات كبيرة، داخليًا، يعتمد استقراره على قدرته على الحفاظ على تماسك الهيئة وإدارة التحالفات الداخلية، أما خارجيًا، فإن ضغوط القوى الدولية والإقليمية قد تدفع باتجاه تقليص نفوذ الهيئة إذا شعرت تلك القوى أن الجولاني يشكل تهديدًا لمصالحها.
كما أن محاولاته تقديم نفسه كفاعل معتدل تواجه عقبات، خاصة مع تاريخ الهيئة المرتبط بالتشدد، وسيظل مستقبل الجولاني مرهونًا بقدرته على الاستمرار في التكيف مع المتغيرات، مع تقديم نفسه كلاعب أساسي في مستقبل سوريا.
الخلاصة
استراتيجية أبو محمد الجولاني الحالية تعكس براغماتية واعية واستجابة مرنة للواقع المتغير في سوريا، فمن خلال التحولات الأيديولوجية، الهيمنة التنظيمية، بناء التحالفات، وتعزيز القبول الشعبي، استطاع الجولاني أن يعيد تشكيل هيئة تحرير الشام لتصبح لاعبًا رئيسيًا في المشهد السوري، ومع ذلك، فإن مستقبل هذه الاستراتيجية يعتمد على قدرة الجولاني على موازنة طموحاته مع الضغوط الداخلية والخارجية التي قد تحدد ملامح سوريا في السنوات القادمة.
من هو أبو محمد الجولاني؟
أبو محمد الجولاني، المعروف أيضًا باسمه الحقيقي المحتمل أحمد حسين الشرع أو أسامة العبسي الواحدي، هو زعيم هيئة تحرير الشام (HTS)، التنظيم المسلح الذي يلعب دورًا رئيسيًا في الحرب الأهلية السورية.
بدأ مسيرته في صفوف تنظيم القاعدة بالعراق تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، حيث ارتقى في المناصب العسكرية وأصبح رئيسًا لعمليات التنظيم في محافظة نينوى. بعد غزو العراق واعتقاله من قبل القوات الأمريكية، احتُجز في سجن بوكا، وهو ما أتاح له بناء شبكات وعلاقات داخل الأوساط الجهادية.
مع بداية الانتفاضة السورية عام 2011، عاد الجولاني ليؤسس جبهة النصرة كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا. تطورت النصرة تحت قيادته لتصبح قوة مهيمنة في الساحة السورية، لكنه انفصل لاحقًا عن القاعدة لتشكيل هيئة تحرير الشام، متخذًا مسارًا براغماتيًا ومستقلًا.
صنفته وزارة الخارجية الأمريكية كإرهابي عالمي منذ 2013، وأعلنت مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض عليه. رغم تهديداته الأولية للولايات المتحدة، أعاد الجولاني صياغة موقفه مؤخرًا ليعلن أن هيئته لا تمثل تهديدًا للغرب، في محاولة لتحسين علاقاته الدولية.
لا تزال استراتيجيته محورًا للجدل، حيث يجمع بين الديناميكيات المحلية والإقليمية في إدلب، مع علاقات خفية مع تركيا وتحولات براغماتية لتعزيز نفوذه.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21605