حالي كحال أي مسلم غيور على دينه ومجتمعه وثقافته، لا بد وأن يدلي بدلوه في سبيل تماسك أمته وتنمية حس التديّن والأخلاق الكريمة فيها. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «الدين النصيحة» [رواه مسلم وغيره]. ويُنسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “لا خير في قوم لم يتناصحوا ولا خير في قوم لم يقبلوا النصيحة”. ورسالة التناصح هذه في الأصل رسالة كل مسلم.
نحن في المغرب –كما في الدول الإسلامية الأخرى- لنا جهة رسمية تسهر على الحقل الديني ورعايته، وهي عندنا تتمثل في وزارة الأوقاف والشؤؤن الإسلامية وأيضا في المجلس العلمي الأعلى وفروعه من المجالس الجهوية والمحلية. والمفروض أن يكون هناك تكامل بين الجهتين من أجل تثقيف المواطن وتربيته على القيم الدينية، وأن تعمل الجهتان معا على تنمية التدين وحفظ الأمن الروحي لدى أفراد الأمة عبر قنوات سلسة وسبل ناجعة.
إن الدور الذي تقوم به وزارة الأوقاف والمجلس العلمي في واقعنا يبقى دورا محدودا ومحبوسا وضيقا. فلم تُسهم الجهتان في تنمية التدين وتربية الشعب على تعاليمه بكل الطرق المتاحة.
لقد فقد بعض المواطنين الثقة في جهته الرسمية المسؤولة عن الحقل الديني في المغرب، لا لأن أهلها غير علماء وغير أكفاء، بل لأن دورهم محدود، ومواقفهم من قضايا الناس في الغالب غير مرضية. وهذا انطباع أغلبية المغاربة، ومن شك في قولي فليقم بإجراء استفتاء بسيط ليتأكد. حتى أصبح بعض المواطنين لا يثقون فيما جاءهم من الجهات الرسمية ولو كان حقا وصدقا. والغالبية –أظنهم- لا زالوا يثقون، ولكن بحذر.
وفي هذه الرسالة المفتوحة، والموجهة للجهات الرسمية في المغرب، أقترح عليها خارطة طريق مرتكزة على أسس استعجالية، من أجل إعادة مكانتها في الواقع، وتفعيل دورها في الحياة اليومية للمواطنين، وهذه المرتكزات تقوم على ما يلي:
1- ضرورة التفاعل مع الأحداث وواقع الناس ومستجدات العصر:
لقد فقد بعض الناس –إن لم أقل جلهم- ثقتهم في الجهات المسؤولة على الحقل الديني في المغرب، وذلك راجع –في رأيي- إلى أمور، أهمها: عدم تفاعل الجهة الرسمية مع أمور الأمة بشكل جيد وسريع، وسكوتهم في كثير من الأحيان على أمور حساسة لا يجوز فيها الصمت. فلقد عودنا المجلس العلمي أن لا يتفاعل مع القضايا المعاصرة إلا من باب الردود غالبا، وكأنه جهاز دفاعي لا جهاز ترشيدي في الأصل. ولا نسمع صوته في الغالب إلا إذا قام أحد من العلماء غير الرسميين بإثارة قضية ما، فيقوم المجلس بالرد.
ولعل فتوى يوسف القرضاوي في الاقتراض من الأبناك خير دليل على ذلك. وكان الأولى بالمجلس العلمي أن يستبق الأمر فيفتي الناس بما يوجبه الفقه المالكي ومتطلبات العصر، ولنا علماء أكفاء نثق بهم وبعلمهم ولله الحمد، حتى لا يذهب المغاربة إلى سؤال أشباه العلماء، أو سؤال العلماء ممن لا علاقة له بواقع المغرب؛ لأن الفراغ قاتل، وإذا لم تكن في الساحة كان فيها غيرك.
ومن الأمور التي تُحسب للمجلس ويشكر عليها إصداره مؤخرا مؤلفا يجمع الفتاوى المقدمة للمجلس (رغم أنه تأخر كثيرا في الخروج إلى الوجود). ولكن من يستطيع قراءة هذا المؤلف؟ وهل وزع على المراكز العمومية؟ وهل نشرت فقراته في الجرائد المحلية؟ ولم لا ينشر مجزّءا في جريدة رسمية خاصة بالمجلس العلمي الأعلى ليقرأه كل المواطنين؟
2- ويرتبط بالقضية الأولى قضية أخرى:
وهي صمت المجلس العلمي ومعه العلماء الرسميون على أحداث ومظاهر تقع في المجتمع لا يجوز فيها السكوت. فقضايا مثل “مهرجان موازين” وخروج من ينكر أمورا معلومة من الدين بالضرورة كإنكار العصمة والقول بأن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة إرهابية… وغيرها من القضايا التي لم نسمع فيها للمجلس العلمي كلمة واضحة رسمية، (اللهم إلا محاولات فردية لبعض العلماء هنا وهناك، كمقالة يتيمة مفيدة للدكتور مصطفى بن حمزة عضو المجلس العلمي الأعلى في رده على من اتهم رسالة الإسلام بالإرهاب، وهي مقالة شخصية وليست رسمية، نُشرت على جريدة “هسبريس”).
وكان واجبا على سادتنا العلماء الرسميين أن يقولوا كلمتهم ويحسموا الأمر من الناحية الشرعية؛ لأنها أمور وجب على العالم أن يبينها للناس طالما تتعلق بالحرام والحلال، وبالجواز والمنع، وبعقيدة المسلمين ودينهم. وإذا لم يحسم المجلس العلمي فيها فأي جهة ننتظر؟ ولكن المجلس العلمي لا يحرك ساكنا في مثل هذه الأمور، ويترك من هب ودب يقول ما شاء بما شاء كيف شاء. وبعد ذلك قد يأتي اللوم لمن يتجرد للرد أو للكلام بعد هذا الفراغ !
وهذا يجرنا للحديث عن ضرورة إنشاء لجنة دستورية رسمية تسهر على الآراء الدينية وتوجيهها، وتحسم في كل رأي فيه مساس بالمقدسات الدينية، وتقوم بالمراجعات الفكرية والدينية لكل من ظهر منه طعن في الضروريات الدينية.
3- ضرورة تبسيط الخطاب الديني:
إن الغاية من أي خطاب هو التفهيم، فإذا كان هذا الخطاب معقدا أو لا يفهمه إلا قليل من الناس وجب تحينه وتجديده. وتبسيط الخطاب لا يعني بالضرورة التكلم بالدارجة وبالعامية، ولكن الأهم هو أن تكون اللغة بسيطة في تعابيرها، سهلة في فهمها، مختصرة في معانيها. وقد قطعت وسائل الإعلام الدينية المغربية في ذلك شوطا، ولكن بقيت أشواط كبيرة.
ومن سبل تبسيط الخطاب أن يستغل الخطباء خطبة الجمعة فيتطرقوا إلى الأمور التي يحتاجها الناس في واقعهم، كتعليمهم شريعة الله وأصول العقيدة الصحيحة بأسلوب سلس، ويتركوا القضايا العامة التي نسمعها تتكرر في كل وقت وحين.
4- الاعتماد على الدراسات الاجتماعية وغيرها من أجل الوصول إلى المواطن وإقناعه:
وهذا باب عظيم في التبليغ يغفله مسؤولونا، فهناك طرق حديثة في التواصل والوصول إلى المخاطب ناجعة لم توظف بعد في إيصال رسالة المجالس العلمية. ولْنعتبر بمنهج التبشير والتنصير في ذلك، وكيف يسلك النصارى شتى السبل في تمسيح المسلمين. وهي طرق لو تتبع المسلمون بعضها فقط في إيصال رسالتهم الحقة لكان ذلك من أنجع السبل.
5- اقتحام سوق عرض المعلومات المعاصر:
إن عدم تفعيل وسائل البلاغ وسبل إيصال رسالة الإسلام الحقة إلى الناس بطرق سلسة لَمِن أكبر الأسباب التي تركت المؤسسة الرسمية في البلاد تفقد حضورها في حياة الناس. فكل مواطن له أسئلة ومشاكل يحتاج أن يوصلها إلى العلماء لمعرفة حكم الله فيها، ولكن لا يجد سبيلا لذلك إلا بالتوجه إلى المجالس العلمية، وهذه الأخيرة غير منظمة في الترشيد والفتوى؛ فقد يحضر المرشد وقد لا يحضر؛ لأن عمله هناك عمل تطوعي، ولا يسمح له بأن يتدخل في الأمور الجديدة المعاصرة، وهي التي يسأل الناس عنها غالبا.
وأقترح هنا على الجهات المسؤولة وسائل وسبل واقعية من أجل إنجاح وصول المعلومة إلى الناس وترشيدهم:
أ- ينبغي أن ينخرط كل مجلس علمي في تفعيل جميع السبل للوصول إلى ساكنته في جهته، ولا ينتظر مجيئهم هم إلى المجلس؛ لأن ثقافة سؤال المجالس العلمية شبه مفقودة عند المغاربة، أضف إلى ذلك بُعد هذه المجالس عن المواطنين غالبا.
ب- أقترح أن تكون هناك نشرة شهرية يُجمع فيها أكثر القضايا التي يحتاجها المواطنون، فتصنف في مطوية أو في جريدة، وتوزع بالمجان على الناس في كل الأماكن العمومية؛ فتُوزع الجرائد “المجالسية” في الطرقات وتعلق على مقدمة السيارات وفي الحدائق العمومية… وهذا من أكبر السبل في إيصال رسالة المجالس العلمية. وهذه الوسيلة لن تكلف الكثير، فجل المجالس لها جرائد خاصة، لكن لا يطلع عليها إلا الخاصة.
ج- ضرورة اقتحام المواقع الاجتماعية التي يكثر ارتيادها من قبل المواطنين ك”الفيسبوك” و”التويتر” وغيرها من المواقع. فإنشاء صفحة واحدة تُعنى بالإجابة على أسئلة الناس الدينية وترشيدهم يكون ثمارها كبيرا جدا، ربما قد تفيد الناس أكثر من جميع مجالس البلاد في إيصال الحكم الشرعي والترشيد الديني. ولحد الساعة لا وجود لصفحة رسمية على “الفيسبوك” تُعنى بالإرشاد الديني والإجابة عن أسئلة الناس، حسب علمي. ونحن نعرف مدى قوة حضور هذا الموقع التفاعلي في دنيا الناس، حتى عُدّ أول موقع في العالم من حيث دخول الناس إليه.
ونعلم أيضا أن هذه المواقع أصبحت أهم من أي وسيلة أخرى كالقنوات والجرائد… وتأخر وزارتنا ومجالسنا عن المواكبة في هذا المجال لأكبر دليل على تقاعسهم عن معايشة مشاكل الناس. كما أن إنشاء موقع رسمي للفتوى والإرشاد وإنشاء فروع له بالمواقع التواصلية كفيل بقطع الطريق على من هب ودب في الإفتاء والإرشاد.
فهذه بذرة لخريطة طريق لأجل تفعيل دور المجالس والوزارة، وهناك الكثير من الأفكار التي تُسهم بشكل جيد في إيصال شرع الله إلى عباده. فما على المسؤولين إلا الإخلاص في العمل والبحث عن السبل الممكنة في الوصول إلى قلوب الناس، وما ذكرته غيض من فيض ليس إلا.
والله الهادي إلى الصواب
* أستاذ باحث في الشؤون الدينية والاجتماعية
{jathumbnail off}
Source : https://dinpresse.net/?p=1988