أيوب عليه السلام.. ابتلاء وصبر

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس27 أبريل 2022آخر تحديث : الأربعاء 27 أبريل 2022 - 9:12 صباحًا
أيوب عليه السلام.. ابتلاء وصبر

إعداد : ذ. محمد جناي
لما كان من الناس من يبصر ضوءَ الحق متى أشرق أمام عينيه، فيسير في طريقه مستضيئًا به، ومنهم مَن يتعامى عن نور الهدى، فيتبِع غيرَ سبيل الرّشاد، اقتضت حِكمةُ الله تعالى أن يَمُد رُسلَه عليهم الصلاة والسلام برُوحٍ من عنده، ويُميزهم بخصائص لا يُشارِكهم فيها سواهم، ويؤيدهم بعد ذلك بالآيات البيّنات، والحُجج الواضحات، ويُظهِر على أيديهم المعجزات الباهرات، ويُجري لهم خوارقَ العادات.

فالمعجزة يُظهِرها الله على يد الرسول حينما يُكذِّبه الناسُ ويُخاصِمونه، لتلزم الحجة أعناقهم، ويَثبُت لهم صِدْق رسولهم، ويجب عليهم التصديق بكل ما جاء به؛ لأن الله تعالى قد شهِد بصدقه، حيث أظهر على يديه ما أخرس ألسنةَ المكابرين، وقطَع أقوال المعاندين.

قال الله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَاد۪يٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّے مَسَّنِيَ اَ۬لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ اُ۬لرَّٰحِمِينَۖ (82) فَاسْتَجَبْنَا لَهُۥ فَكَشَفْنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيْنَٰهُ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةٗ مِّنْ عِندِنَا وَذِكْر۪يٰ لِلْعَٰبِدِينَۖ} (83) سورة الأنبياء.

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- عَبْدَنا أيوبَ إذ نادى ربَّه عزَّ وجَلَّ أنِّي قد أصابني الضُّرُّ، وأنت أرحَمُ الرَّاحمينَ، فاكشِفْه عنِّي. فاستجَبْنا له دُعاءَه، ورفَعْنا عنه الضُّرَّ والبلاءَ، ورَدَدْنا عليه ما فَقَده من أهلٍ ووَلدٍ مُضاعفًا؛ فَعَلْنا به ذلك رحمةً منَّا، وتذكيرًا للذين يَعبُدونَ اللهَ، لِيَكونَ قُدوةً لكُلِّ صابرٍ على البلاءِ، راجٍ رحمةَ رَبِّه.

تفسير الآيتين:

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83).

أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- أيوبَ حين نادى ربَّه بأنِّي أصابني الضَّرَرُ والبلاءُ، وأنت أرحَمُ من يَرحَمُ، فارحَمْني بكَشفِ ضُرِّي .

كما قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41].

وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أشَدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثمَّ الصالحونَ، ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبتلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دِينِه، فإنْ كان في دِينِه صَلابةٌ زيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ خُفِّفَ عنه، وما يزالُ البلاءُ بالعَبدِ حتى يمشيَ على ظَهرِ الأرضِ ليس عليه خَطيئةٌ )) .

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84).

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ.

أي: فاستجَبْنا دُعاءَ أيوبَ، فأزَلْنا ما حلَّ به مِن ضَرَرٍ وبَلاءٍ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أيوبَ نبيَّ اللهِ كان في بلائِه ثمانيَ عَشْرةَ سَنةً، فرَفَضه القريبُ والبعيدُ إلَّا رَجُلَينِ مِن إخوانِه كانا مِن أخَصِّ إخوانِه، كانا يَغدُوانِ إليه، ويَرُوحانِ إليه، فقال أحدُهما لصاحِبِه: أتعلَمُ، واللهِ لقد أذنَبَ أيوبُ ذنبًا ما أذنَبَه أحَدٌ! قال صاحِبُه: وما ذاك؟ قال: منذُ ثمانيَ عَشرةَ سَنةً لم يرحَمْه اللهُ فيكشِفَ عنه! فلمَّا راحا إليه لم يصبِرِ الرجُلُ حتى ذكَرَ ذلك له، فقال أيوبُ: لا أدري ما يقولُ، غيرَ أنَّ الله يعلَمُ أنِّي كُنتُ أمُرُّ على الرجُلَينِ يتنازَعانِ فيَذكُرانِ اللهَ ، فأرجِعُ إلى بيتي فأكَفِّرُ عنهما؛ كراهيةَ أن يُذكَرَ اللهُ إلَّا في حَقٍّ! قال: وكان يخرجُ إلى حاجتِه فإذا قضى حاجَتَه أمسكَتِ امرأتُه بيَدِه حتى يَبلُغَ، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها، وأوحيَ إلى أيوبَ في مكانِه أن: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42]، فاستبطأَتْه فلَقِيَتْه ينتَظِرُ، وأقبل عليها قد أذهَبَ اللهُ ما به من البلاءِ، وهو على أحسَنِ ما كان، فلمَّا رأَتْه قالت: أيْ بارَكَ اللهُ فيك، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبتَلى؟ وواللهِ على ذلك ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ به منك إذ كان صَحيحًا! قال: فإنِّي أنا هو! وكان له أندرانِ : أندَرٌ للقَمحِ، وأندَرٌ للشَّعيرِ، فبَعَث اللهُ سحابتَينِ، فلمَّا كانت إحداهما على أندَرِ القَمحِ أفرَغَت فيه الذَّهَبَ حتى فاض، وأفرَغَت الأخرى على أندَرِ الشَّعيرِ الوَرِقَ حتى فاض)) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((بينا أيوبُ يغتَسِلُ عُريانًا، فخَرَّ عليه جرادٌ مِن ذَهَبٍ، فجعل أيوبُ يحتَثي في ثَوبِه، فناداه رَبُّه: يا أيوبُ، ألم أكُنْ أغنَيتُك عمَّا ترى؟ قال: بلى وعِزَّتِك، ولكِنْ لا غِنى بي عن بركَتِك )) .

وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

أي: وآتَينا أيوبَ أهلَه الذين فقَدَهم، ورَزَقْناه معهم آخرينَ مِثلَ عَدَدِهم زيادةً على ذلك .

كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [ص: 43].
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا.

أي: ردَدْنا لأيوبَ أهلَه ومِثلَهم معهم؛ رحمةً منَّا به .

وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ.

أي: وتذكيرًا للذين يَعبُدونَ اللهَ؛ لِيَعتبِروا بقصةِ أيوبَ، ويَصبِروا كما صبَرَ .

كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43].

الفوائد التربوية:

أولا: قال تعالى عن أيوبَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ هذا من بابِ حُسْنِ الأدَبِ في السُّؤالِ والدُّعاءِ، فقولُ القائِلِ لِمَن يُعَظِّمُه ويَرغَبُ إليه: أنا جائِعٌ، أنا مريضٌ- حُسْنُ أدبٍ في السُّؤالِ، وإن كان في قَولِه: أطعِمْني وداوِني ونحوِ ذلك ممَّا هو بصيغةِ الطَّلَبِ- طَلَبٌ جازِمٌ مِن المَسؤولِ؛ فذاك فيه إظهارُ حالِه، وإخبارُه على وَجهِ الذُّلِّ والافتقارِ المتضَمِّنِ لسُؤالِ الحالِ، وهذا فيه الرَّغبةُ التامَّةُ والسؤالُ المحضُ بصيغةِ الطَّلَبِ .

ثانيا: قال اللهُ تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ جَمَعَ أيوبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا الدُّعاءِ بينَ: حقيقةِ التَّوحيدِ، وإظهارِ الفَقرِ والفاقةِ إلى رَبِّه، ووجودِ طَعْمِ المحبةِ في المُتَمَلَّقِ له، والإقرارِ له بصِفةِ الرَّحمةِ، وأنَّه أرحَمُ الرَّاحمينَ، والتوسُّلِ إليه بصفاتِه سُبحانَه، وشِدَّةِ حاجتِه، وهو فَقرُه، ومتى وَجَدَ المُبتلَى هذا كُشِفَ عنه بَلواه .

ثالثا: قال العُلَماءُ: ولم يكُنْ قَولُ أيوبَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ جَزَعًا؛ لأنَّ الله تعالى قال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص: 44]، بل كان ذلك دُعاءً منه، والجَزَعُ في الشكوى إلى الخَلقِ لا إلى اللهِ تعالى، والدُّعاءُ لا يُنافي الرِّضا ، ويَعقوبُ عليه السَّلامُ وعَدَ بالصَّبرِ الجَميلِ، فقال فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 83]، والنبيُّ إذا وعَدَ لا يُخلِفُ، ثمَّ قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86]؛ فالشَّكوى إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ لا تُنافي الصَّبرَ، وإنَّما ينافي الصَّبرَ شَكوى اللهِ .

رابعا: قولُه تعالى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فيه دلالةٌ على أنَّه تعالى فَعَل ذلك لكي يُتفكَّرَ فيه، فيكونَ داعيةً للعابدينَ في الصبرِ والاحتسابِ ، فإنهم إذا ذكروا بلاءَ أيوبَ وصبرَه عليه ومحنتَه له، وهو أفضلُ أهلِ زمانِه، وطَّنوا أنفسَهم على الصبرِ على شدائدِ الدنيا نحوَ ما فعَل أيوبُ، فيكونُ هذا تنبيهًا لهم على إدامةِ العبادةِ، واحتمالِ الضررِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

أولا : قولُه تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألْطَفَ أيُّوبُ في السُّؤالِ؛ حيث ذكَرَ نفْسَه بما يُوجِبُ الرَّحمةَ، وذَكَرَ ربَّهُ بغايةِ الرَّحمةِ، ولم يُصرِّحْ بالمطلوبِ، ولم يُعيِّنِ الضُّرَّ الَّذي مَسَّه .

ثانيا: قَولُه تعالى هنا: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، مع قَولِه تعالى في (ص): وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43]، فيه الدَّلالةُ الواضِحةُ على أنَّ أصحابَ العُقولِ السَّليمةِ مِن شَوائِبِ الاختِلالِ هم الذين يَعبُدونَ اللهَ وحْدَه ويُطيعونَه، وهذا يؤيِّدُ قولَ مَن قال مِن أهلِ العِلمِ: إنَّ مَن أوصى بشَيءٍ مِن مالِه لأعقَلِ النَّاسِ: أنَّ تلك الوَصيَّةَ تُصرَفُ لأتقَى النَّاسِ، وأشَدِّهم طاعةً لله تعالى؛ لأنَّهم هم أولو الألبابِ، أي: العُقولِ .

بلاغة الآيتين:

– قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

– التَّعبيرُ بالمَسِّ في قولِه: أَنِّي مَسَّنِيَ حِكايةٌ لِمَا سلَكَهُ أيُّوبُ في دُعائِه مِن الأدَبِ مع اللهِ؛ إذ جعَلَ ما حَلَّ به مِن الضُّرِّ كالمَسِّ الخفيفِ .

– الألِفُ واللَّامُ في الضُّرُّ للجِنْسِ؛ فتعُمُّ الضُّرَّ في البدَنِ والأهْلِ والمالِ .

– قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ

– قولُه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ لمَّا كان ثَناءُ أيُّوبَ تَعريضًا بالدُّعاءِ، فرَّعَ عليه قولَه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، والسِّينُ والتَّاءُ في فَاسْتَجَبْنَا للمُبالَغةِ في الإجابةِ .

– قولُه: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ الكشْفُ مُستعمَلٌ في الإزالةِ السَّريعةِ، وفيه تَشبيهٌ؛ شُبِّهَت إزالةُ الأمراضِ والأضرارِ المُتمكِّنةِ الَّتي يُعْتادُ أنَّها لا تَزولُ إلَّا بطُولٍ، بإزالةِ الغطاءِ عنِ الشَّيءِ في السُّرعةِ .

– الموصولُ في قولِه: مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ مَقصودٌ منه الإبهامُ، ثمَّ تَفسيرُه بـ (مِنْ) البَيانيَّةِ؛ لقصْدِ تَهويلِ ذلك الضُّرِّ؛ لكثرةِ أنواعِه بحيث يَطولُ عَدُّها .

– قولُه: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وُصِفَتِ الرَّحمةُ بأنَّها من عندِ اللهِ؛ تَنويهًا بشأْنِها بذِكْرِ العِنديَّةِ الدَّالَّةِ على القُرْبِ المُرادِ به التَّفضيلُ .

– قولُه: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فيه مِن العُمومِ بحيث صارتِ الجُملةُ تَذييلًا ، وخصَّ العابدينَ بالذكر؛ لأنَّهم يختصُّون بالانتفاعِ بذلك .

– وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وقال في سُورةِ (ص): وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43]، فقال في الأُولى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ، وفي الثَّانيةِ: رَحْمَةً مِنَّا، وقال في الأُولى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وفي الثَّانيةِ: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ؛ ووجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في سُورةِ (الأنبياءِ) عن أيُّوبَ عليه السَّلامُ بأنَّه نادى ربَّه، وشكا إليه ما مَسَّه مِن الضُّرِّ؛ فكأنَّه لمَّا قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ، قال: مَسَّني مِن عندك يا رَبِّ ما تَعلَمُ، وأنت الأكرَمُ الأرحَمُ، فقال: وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء: 84]، أي: كما كان الضُّرُّ مِن عندنا، كان كشْفُه والرَّحمةُ مكانَه مِن عندنا.

وأمَّا قولُه هنا: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، فالمعنى: فَعَلْنا به ما فَعلناهُ رَحمةً له مِنَّا، وتَذكِرةً لمَن عبَدَ اللهَ بعْدَه بإخلاصٍ منه، فلا يَحُولُ عن حَمْدِه وطاعتِه مع ما يُصَبُّ عليه من شَدائدِ الدُّنيا ومَصائبِها الَّتي يُنزِلُها اللهُ به، بلْ يثبُتُ معها على إدامةِ العبادةِ وإمدادِها بالزِّيادةِ، كما فعَلَه أيُّوبُ عليه السَّلامُ.

وأمَّا في سُورةِ (ص): فإنَّ اللهَ تعالى لمَّا أخبَرَ فيها عنه أنَّه قال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41]، وشَكا إلى اللهِ تعالى ما يَلحَقُه مِن أذى الشَّيطانِ بوَسوسَتِه إليه، أغاثَهُ اللهُ برَحمةٍ منه مُضافةٍ إليه، مُختصَّةٍ بإرادتهِ، فهذا فرْقُ ما بين قولِه: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء: 84] ورَحْمَةً مِنَّا [ص: 43]، وأيضًا لَمَّا بدَأَ القِصَّةَ بقولِه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا، ختَمَ بقولِه: مِنَّا؛ لِيكونَ آخِرُ الآيةِ مُلائمًا لأوَّلِ الآيةِ.

وأمَّا قولُه: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43] فلِأَنَّ أُولي الألبابِ أعَمُّ من العابدينَ، واستدفاعُ وَساوسِ الشَّيطانِ أعَمُّ من الاستشفاءِ للأبدانِ، فخَصَّ كلَّ آيةٍ بما اقتضاهُ صَدْرُ الكلامِ وتَعريضُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ بالسُّؤالِ .

– وفيه وَجْهٌ آخرُ: أنَّه لمَّا ورَدَ في الأنبياءِ تلطُّفُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ بقولِه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: ٨٣]، فلمَّا تلطَّفَ في سُؤالِه، ولم يُفصِحْ عليه السَّلامُ تلطُّفًا وتَضرُّعًا بعظيمِ ما أصابَهُ من البَلاءِ إفصاحَهُ في آيةِ (ص) بقولِه: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: ٤١]، فبُنِيَ كلٌّ من الآيتينِ على ما يُناسِبُه، فقيل جوابًا على عظيمِ تَضرُّعِه وتلطُّفِه في قولِه: مَسَّنِيَ الضُّرُّ ما يُلائِمُ لَطيفَ هذه الشَّكوى، وعلى قولِه: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ما يُناسِبُ إفصاحَه بهذه الْبَلوى، فقيل بِناءً على الأوَّلِ: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وقيل بِناءً على الثَّانيةِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: ٤٢]، لمَّا وقَعَ ذِكْرُ الشَّيطانِ، وأنَّه السَّببُ في ذلك الامتحانِ، جُووِبَ باستعمالِ سبَبٍ فقيل له: اركُضْ برِجْلِك واغتسِلْ، وذلك يُذهِبُ عنك ما مسَّكَ به الشَّيطانُ. وحين لم يَذكُرْ عليه السَّلامُ واسطةً، جُووِبَ برَفْعِ ما به بغيرِ واسطةِ سبَبٍ، فقيل جوابًا لقولِه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وبُنِي على الأوَّلِ قولُه: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا؛ لتمكُّنِ (عندَ) فيما قصَد، وعلى الثاني: رَحْمَةً مِنَّا؛ إذ ليس موقعُها موقعَ مِنْ عِنْدِنَا. ثم قيل في الأُولَى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ مناسبةً لما تقدَّم، وقيل في الثانيةِ: لِأُولِي الْأَلْبَابِ مناسبةً أيضًا؛ إذ اعتبارُ أولي الألبابِ يُورثُهم مقامَ العابدينَ، وهو أسنَى مقامٍ، وقد جرَى معَ (كل) مقامٍ ما يناسِبُه .
موقع الدرر السنية

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.