سعيد الكحل
تتواصل العمليات الناجحة في تفكيك الخلايا الإرهابية التي هي ثمرة الخبرات الغنية التي راكمتها الأجهزة الأمنية المتخصصة في مكافحة الإرهاب، والتي أكسبتها تنويها دوليا لفعاليتها في توجيه الضربات الاستباقية للخلايا الإرهابية وإفشال مخططاتها الدموية التي تستهدف حياة المواطنين وأمن الوطن.
ورغم هذا النجاح الكبير في تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية، تظل هذه الأخيرة تتناسل بنفس المعدل الذي كانت عليه تشكيل المكتب المركزي للأبحاث القضائية. فسقوط دولة داعش التي أغرت، عند قيامها عشرات الآلاف من المتطرفين من مختلف دول العالم ، ووعدتهم “بجنات عدن” على أرض سوريا والعراق ، لم يردع المتطرفين عن محاولات الالتحاق بمناطق التوتر بهدف إقامة دولة الخراب على أشلاء المواطنين الآمنين.
إن مشاهد تكدس عناصر داعش ونسائهم وأطفالهم في المخيمات بالعراق وسوريا لم يفرض على المتطرفين مراجعة مخططاتهم الإجرامية أو مساءلة عقائدهم الدموية. إذ كلما سقطت خلية بيد الأجهزة الأمنية ظهرت خلايا أخرى وكأنها في سباق مع الزمن من أجل التكاثر بهدف تدمير الحضارة البشرية بكل مكتسباتها وإعادة البشرية إلى الحقبة الحجرية حيث تنعدم الوسائل والمعارف التي يحرّمها المتطرفون اليوم.
الأمر الذي يطرح السؤال المركزي التالي: لماذا لم تنجح الأجهزة الأمنية الدولية، رغم إمكانياتها المادية والبشرية واللوجستيكية، في اجتثاث الإرهاب؟ فالخلايا والتنظيمات الإرهابية التي تعتنق العقائد التكفيرية المتطرفة تختلف عن كل التنظيمات الإجرامية حتى التي لها امتداد دولي (المافيا ، الألوية الحمراء، منظمة إيتا..).
ذلك أن المنظمات الإرهابية القائمة على العقائد الدينية لا يتوقف وجودها على وجود قادة وزعماء كما هو الشأن بالنسبة للتنظيمات الإجرامية التي تجمعها المصالح المادية؛ بل يتوقف وجودها على طرفين رئيسيين هما: الشيوخ مصدر فتاوى التكفير والتفجير والقتل، والأمراء مؤسسو التنظيمات والخلايا الإرهابية على أرضية تلك الفتاوى.
وما دامت هذه التنظيمات الإرهابية تتغذى، في نشأتها وأنشطتها وأهدافها، على الفتاوى المتطرفة التي يُصدرها شيوخ التكفير وأمراء الدم، فإن وجودها وأنشطتها الإرهابية لا يتوقفان على وجود الزعيم المؤسس واستمراره على رأس القيادة. فحين تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من القضاء على زعيم القاعدة أسامة بنلادن، فإنها لم تتمكن من القضاء على التنظيم؛ إذ ظهر زعماء آخرون يتغذون على نفس العقائد التكفيرية.
بل إن التنظيمات الإرهابية تعرف طفرات مثلها مثل الفيروسات. من هنا يكون مستحيلا القضاء على التنظيمات الإرهابية أو الحد من تكاثرها بالاقتصار على المقاربة الأمنية أو العسكرية. سقطت “دولة داعش” وخلافته المزعومة ، بينما لم يسقط التنظيم الذي بات يتجدد ويتمدد في مناطق أخرى عبر العالم ، خاصة في إفريقيا (بوكو حرام، حركة المجاهدين الصومالية، جماعة أنصار الدين في منطقة الساحل والصحراء..)؛ بينما نجحت اليابان في اجتثاث منظمة “أوم شنريكيو” (التي تعني: الحقيقة السامية) مباشرة بعد الهجمات المتزامنة بغاز السارين على مترو طوكيو في مارس 1995.
فكل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المختصة بمحاربة الإرهاب ينحصر دورها في رصد أنشطة الإرهابيين وتفكيك خلاياهم، التي هي نتائج وثمار عقائد التكفير والقتل التي ينشر فتاواها شيوخ التطرف وأمراء الدم الذين هم بمثابة محطات البت وتقوية الإرسال التلفزي والإذاعي لتصل الفتاوى إلى أبعد مدى فيتشبع بها الضحايا الذين يتحولون إلى إرهابيين وانتحاريين يشيعون الرعب والدمار والدماء والأشلاء في كل مكان.
وهذه مهمة لا تتطلب من فاعلها تعمقا في الفقه ولا تبحرا في علوم الدين، بل اجترار ما سمعه من فتاوى ثم إعادة إنتاجه وتوزيعه على الإرهابيين المفترضين الذين يتم استقطابهم ثم تجنيدهم (انتحاريو 16 ماي 2003 لم يكونوا شيوخ فتاوى ولا أمراء دم ، بل ضحايا تم استقطابهم وتجنيدهم لتنفيذ الهجمات الانتحارية ).
إذن، تنفيذ العمليات الإرهابية يتطلب وجود شيخ يفتي وأمير يستقطب وإرهابي/انتحاري ينفّذ. وكل اقتصار على العناصر الإرهابية المكلفة بالتنفيذ في مواجهة خطر الإرهاب لن يقضي على الإرهاب مهما كانت فعالية الأجهزة الأمنية. ذلك أن عملية تفريخ الخلايا الإرهابية لن يوقفها التفكيك والاعتقال.
لهذا تستوجب الحرب على الإرهاب إلى جانب المقاربة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، المقاربة الفكرية والقانونية. أي تجفيف منابع التطرف التي يمثلها شيوخ التكفير وفقهاء الكراهية الذين يروجون لخطاب ديني يحرض ضد الدولة والمجتمع ويناهض القوانين المدنية وقيم المواطنة. لهذا تتطلب المقاربة الفكرية إستراتيجية واضحة ومتعددة الأبعاد تشمل المجال الديني، والتعليمي التربوي، والإعلامي.
ومادام الأمر كذلك، فإن فعالية هذه الإستراتيجية تستبعد المواجهة الحادة والصدامية التي من شأنها أن تخلق ردات فعل عنيفة لدى الأطراف المستهدَفة، وتستدعي التدرج في تغيير الخطاب وتجديد النخب الدينية، وعزل كل عنيد مع تجريده من وسائل التأثير (المنبر ، الميكروفون ، النشر ..)؛ بالإضافة إلى استعمال المقاربة القانونية عبر تجريم فتاوى التكفير وفقه الكراهية لتشمل كل انتاجات المتطرفين.
إنها مقاربة يطول مداها الزمني لكن تكون أكثر فاعلية وجدوى في تطويق خطاب التكفير وتجفيف منابعه الفكرية. بالموازاة يقتضي الأمر دعم جهود التنوير في كل المجالات لتربية المواطنين على قيم التسامح والاختلاف والحوار والمواطنة.
لقد مرت عقود والتطرف يغزو بنيات المجتمع وذهنيات الأفراد، الأمر الذي يجعل محاربته تقتضي العمل بالمثل الصيني “إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحا وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة وإذا أردت أن تزرع لمائة سنة فازرع إنسانا!”.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14025