محمد إكيج
مع كل موسم برد قارس تتسابق عدد من هيئات المجتمع المدني وأفراد من مختلف فئات المجتمع المغربي، وذلك من أجل تقديم يد الدعم والمساعدة لفئة من المواطنين والمواطنات الذين يعيشون في بعض مناطق بلادنا التي تعرف نوعا من قساوة المناخ بفعل انخفاض درجات الحرارة، وانقطاع المسالك بسبب تساقط الثلوج وغزارة الأمطار التي تحدث أضرارا بليغة في البنيات التحية لتلك المناطق، وبالتالي الحيلولة دون قاطنيها من ممارسة أنشطتهم بشكل طبيعي واعتيادي، بل وصعوبة حصولهم ـ أحيانا ـ على المواد الاستهلاكية الضرورية، فضلا عن عدم توفر العديد منهم على مواد التدفئة الضرورية للعيش في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تعرفها بلادنا سنويا…
ولاشك أن هذه المبادرات مطلوبة ومحمودة، ولا يمكن إلا التنويه بها والإشادة بجميع الفاعلين فيها، لأنها تدل على أن المواطن المغربي في المدن يشعر بآلام إخوته من المواطنين في الجبال والبوادي، ويسعى جاهدا من أجل أن يتقاسم معهم ولو شيئا يسيرا من “فائض الوفرة” الذي يعيش به في المدينة، أو جزءا من راتبه الشهري أو دخله اليومي.
وهو أمر ليس بمستغرب عن المجتمع المغربي المتشبع بثقافة التطوع التي ترتبط في أحكام الدين الإسلامي الحنيف بمفهوم “فروض الكفاية”، وهي الأعمال التي تناط بفرد أو فئة معينة من أفراد المجتمع، فإن قام بها بعضهم سقط التكليف عن الجميع، وإن لم يقم بها أحد كان الجميع آثما في حكم الشرع..
وكلما كان الفرد -أو الجماعة أو الفئة – أكثر قدرة على القيام بأداء “فرض الكفاية” المطلوب على سبيل التطوع وتقاعس عن ذلك، كان نصيبه من الإثم أكبر من غير القادر أو الأقل قدرة منه.
والجميل في الأمر أن غالبية من يقوم بهذه الأعمال التطوعية هم من فئة الشباب، وهو مؤشر إيجابي يدل على أن المناعة التضامنية للمجتمع المغربي بخير وستكون أفضل في الأجيال المقبلة بحكم توسع وتجذر ثقافة العمل التطوعي الإيجابي في صفوف هذه الفئة، واستهدافها لشتى المجالات التي تعنى بالبيئة والصحة ومحاربة الفقر والتعليم ومحو الأمية وفي ميادين شتى..
إلا أن هذه المبادرات، وعلى الرغم من إيجابياتها التي لا تخطئها عين كل مُنْصف، تكون مصحوبة ببعض المحاذير ـ بقصد أو بغير قصد ـ والتي من شأنها الإساءة لكرامة الأشخاص الذين يتم التضامن معهم، أو النيل من سمعة الجهات التي يتم استهدافها بتلك الأعمال الإنسانية النبيلة، ومن جملة تلك المحاذير:
1 – محذور المن والمراءة بالعطاء، ويكون ذلك من خلال تصوير فيديوهات وصور للمستفيدين، وخاصة من الأطفال، ونشرها على أوسع نطاق في مواقع التواصل الاجتماعي، وإظهارهم في وضعيات “قبل” وما فيها من مظاهر “البؤس” و”الشقاء” و”العنت”… و”بعد” وما يصاحبها من مظاهر “البهجة” و”السرور” والثناء الحسن على واهبي تلك الأعطيات…
وهذه السلوكيات رغم ما يبدو فيها من “البراءة” و”العفوية”، وما يمكن أن يُلْتَمس لها من تبريرات من قبيل إظهار “النزاهة” و”الشفافية” و”التحفيز على البذل والعطاء”… إلا أن فيها إيذاء نفسيا عميقا لمشاعر أولئك المستهدفين بها، وخدش فاقع لصورتهم داخل الوطن وخارجه، وامتهان فظيع لكرامتهم الإنسانية التي ينبغي أن تُصان في جميع الأحوال، وأن تكون مقدمة على أي اعتبار آخر.
ولذلك فمثل هذه التصرفات مذمومة دينيا في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}، وقوله تعالى {قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى}، ومُدانة إنسانيا بحكم ما يترتب عنها من الإساءات التي ذكرنا، ومستنكرة وطنيا بحكم أنها تُسوّق صورا بئيسة وقاتمة عن بعض أبناء وطننا الحبيب، وتسيء لصورتنا الجماعية على المستوى العالمي.
2 – محذور رداءة الأشياء المتبرع بها، حيث أظهرت بعض الصور أن غالبية ما يتم التبرع به هو من “اللباس المستعمل” أو “الأغطية البالية” أو “الأحذية المتهالكة” !! وكأن المتطوعين من سكان المدن يرغبون من التخلص من “الخردة” التي تملأ بيوتهم وإرسالها للجبال والمناطق النائية، تماما مثلما تفعل بعض الدول الغنية التي تغرق البلدان الفقيرة بنفاياتها السامة والخطيرة !! ولذلك كان رد فعل بعض المناطق المستهدفة بتلك التبرعات هو الرفض والإلقاء في الطرقات، لأنها رأت ذلك إهانة لها ولأبنائها.
ورب قائل يقول: وما العيب أن يتم التبرع بـ”بالأشياء القديمة” طالما أنها لا تزال قابلة للاستعمال؟ ونقول إنه لا عيب في ذلك، ولكن على الجهات المنظمة لعمليات التبرع أن تقوم بجرد ذلك “القديم” وتخليصه من المتلاشي و”العفن”، وانتقاء الأجود منه وتنظيفه وتعليبه في علب وأغلفة تليق بأخوة ووطنية أولئك المستفيدين.
3 – محذور تأخير التنمية الشاملة لتلك المناطق و”المساهمة” في تكريس التهميش بها ـ ولو بشكل غير مقصود ـ ذلك أن مثل هذه المبادرات تجعل بعض المسؤولين، وخاصة من المنتخبين، يتملصون أو يتقاعسون عن القيام بواجباتهم الاجتماعية والصحية والبيئية والبنيوية تجاه تلك المناطق !!
فلا يعقل أن لا تتم برمجة ميزانيات قارة أو استثنائية من المالية العمومية مركزيا أو جهوية أو إقليميا أو محليا لدعم أبناء تلك المناطق في مثل هذه الظروف المناخية القاسية، والتي من شأنها أن تحفظ لأبناء الوطن في تلك الجهات كرامتهم وتجعلهم يعيشون حقوق المواطنة كاملة، وليس التعويل على جود وعطاء المحسنين ـ داخل الوطن وخارجه ـ في كل موسم برد قارس، بدعوى التضامن الوطني!!
فتلك المبادرات، ومهما كانت سخية وطموحة، فإنها لا يمكن أن تسد الخصاص الهائل الذي تعانيه تلك المناطق على مدار السنة، كما لا يمكنها أن تحجب الرؤية عن النقص الفظيع في الخدمات الأساسية التي تحتاجها تلك المناطق الخلابة بمناظرها الطبيعية، ولكنها ـ للأسف ـ تخفي وراءها ظلالا من البؤس والحرمان التي لا يمكن إزالتها بمجرد حملات تضامنية موسمية عابرة!!
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13319