الحوار والتأويل السياسي للحقيقة الدينية

حران الحسين
2019-11-01T23:04:35+01:00
آراء ومواقف
حران الحسين22 أبريل 2018آخر تحديث : الجمعة 1 نوفمبر 2019 - 11:04 مساءً
الحوار والتأويل السياسي للحقيقة الدينية

الحسين حران
الحسين حران
لا يشك أحد له إلمام بالثقافة الدينية والسياسية في أن أزمة العقل المعاصر أزمة قيم وتأويلات هوجاء؛ تأويلات تسهم في كثير من الانشقاقات والتصدعات على مستوى الدولة وعلى مستوى المجتمع الدولي. فكما يبدو عصرنا الحاضر عصر حوار واتصال وتلاقح أفكار، فإنه يبدو أيضا عصر صدام واقتتال باختراع المفاهيم الملغومة والأسلحة الفتاكة. وعلى هذا الأساس، فإننا صرنا نعيش في عالم مضطرب وسريع التحول والتغيير، وآفاق التنبؤ فيه تبقى متشظية ونسبية، عالم يفاجئنا دوما بتشقيق مفاهيم تستعصي على الإدراكوالفهم.

تأزم العقل وانكمش وصار يتطلع إلى أن يحتضنه الدين لينطلق من جديد. كانت بداية تجربة العقل الرياضية مع الأسطورة والطوطم، فإليها يعود كلما عزبته هواجس الغيب، وحينما أتى الدين استمد منه الإنسان قوة التفكير، واتخذه ملاذا كلما شعر بشؤم نذير.ومن هنا يمكن طرح التساؤل التالي: هل العقل خير أم شرير؟ فإذا افترضنا أن العقل خير، فلماذا يلجأ إلى التفكير في اقتراف الشر(القتل)؟ فيكفي أن يتصرف وفق طبيعته الخيرة، وبالتالي تسود المدينة الفاضلة التي نادى بها الفلاسفة، أما ولن تتحقق المدينة الفاضلة في عالمنا، فيمكن اتهام العقل بالشر، وقد يسعفنا التاريخ على إدانته: بدأ الإنسان علاقته الإنسانية بالقتل منذ فجر التاريخ البشري؛ حيث قتل قابيل هابيل بدافع الإقصاء والإبعاد ثم تتالى القتل بعدها.

يذهب البعض إلى أن العقل هو الله جلت قدرته، وسماه بالعقل الفعال أو العقل الأول، وبقية العقول تسبح إليه شوقا، وأطلق عليه البعض الآخر اللوغوس، وعلى هذا الأساس تعتبر المسيحية اللوغوس/العقل خيرا متسامحا، ومنزها عن القتل والعنف والشر.

أما في الثقافة الإسلامية فنجد أن أول ما خلق الله العقل وأمره بالإقبال فامتثل، ولو كان- في نظر المسلم- شريرا لعصى.

يحمل الدين حقيقة مطلقة، فهو خطاب موجه من الأعلى إلى الأسفل، حقيقة تنقل بواسطة، وفي تعدد الوسائط تتعدد التأويلات والانحرافات:

– تتوجه حقيقة التوراة إلى شعب إلوهيم، إله أباح له استعباد العباد وتدمير البلاد، فله أن يقتل ويوسر ويتلف ويحرق القرى والأشجار. عقيدة تؤمن بالأفضلية، وتؤمن بمشروعية القتل التوراتي. الآخر فيها عبد واليهودي سيد، ووظيفة العبد خدمة السيد، ميز جوهري في هذه الحقيقة الدينية، ميز قواه تداخل الدين مع التدين، وتداخل التأويل البشري مع الحقيقة الدينية.

– تعتبر المسيحية نفسها ديانة تسامح وحب وسلام، بل ديانة الخلاص. ينتمي الإله فيها إلى عالمين متناقضين: الأول علوي ويمثل طبيعته الإلهية، والثاني سفلي ويمثل طبيعته البشرية.

ولكي يخلص البشرية مما اقترفه آدم وحواء ضحى بنفسه فداء وتحمل آلام القتل ليحل السلام على الارض. لم تحافظ المسيحية على خطها التسامحي، ولم تحافظ على حقيقتها الدينية، بل عملت على مزجها بالإرث اليوناني، العقلي منه والوثني والإشراقي. وأبدعت مسيحية سياسية رومية فرضتها بالقتل، وحاربت التأويلات الهرطوقية بدعوى تخليص المسيحية من البدع، شنت حربا طال أمدها وتعددت ضحاياها، وكانت رحاها تدور بسبب التأويل الكريستولوجي.

سعت المسيحية إلى توحيد الإنسانية في ملكوت السيد المسيح، لأنها تؤمن بأن الآخر لكي يحظى بالخلاص يجب أن يصير مسيحيا، ولا ترى له الخلاص خارج المسيحية الكاثوليكية. وحرصا منها على مصير الإنسانية خارج العالم المسيحي، فإنها اتخذت تدابير علمية لاطلاع الناس على رسالة المسيح، وكان القتل والتبشير والاستعمار من بين التدابير المتخذة، وأصبحنا نقرأ في سجل المسيحية القتالي عن محاكم التفتيش والإكراه على التنصير، وعن الحروب الصليبية البعيدة عن قيمتي المحبة والتسامح، وعن الاستعمار والتبشير والتبعية والتغريب، وينضاف إلى هذا نظرتها الاستعلائية للذات الغربية، فهي المركز وما عداها يمثل الهامش والتخلف والبربرية المتوحشة.

آمنت المسيحية بوجوب خلاص العالم، وآمنت بمبدئها في التسامح، وفي نفس الوقت بررت القتل باسم الحقيقة الدينية.

– بدأت دعوة الإسلام سرا ثم جهرا، سلما ثم قتالا، داخليا ثم خارجيا، وكان سعي الإسلام إلى بسط نفوذه خارج بيئته يهدد بزوال المسيحية. فلو كان الإسلام ديانة زهد وسلوك لما توجست المسيحية منه خيفة، أما وأنه يقدم نفسه سلطة دينية ودنيوية، ودعوة عالمية يتعانق فيها العقل مع الروح، وهداية سالمة من تلاعب الأيدي والأهواء الإنسانية، ورسالة مهيمنة على ما سبقها من كتب، فقد اعتبرته المسيحية امتدادا للهرطقات الشرقية المنشقة عنها، وتأهبت لمحاربته ومحاصرته.

أعلن الإسلام الحرب على الشرك والوثنية، وجاهد الباطل حتى انمحق وزهق. كان خلافة فأصبح شورى، وبعد تأويل وخروج وفتنة واقتتال تحول إلى ملك عضود. عاهد الإسلام في بدايته ووادع فكان عدلا، وأوصى خيرا بالذمي. فالإسلام باعتباره حقيقة دينية أوصى، والمسلم باعتباره متدينا أول وعصى، فلم تكن حياة الذمي كلها أمانا وسلاما بل شابتها تجاوزات أجبر فيها الذمي على ترك الديار، وعلى التميز باللباس ووضع الشارة.

تعرضت حقيقة الإسلام الدينية كغيرها للتأويل: فلا حكم إلا لله؛ كلمة حق أريد بها باطل، وعبارة أدفئوا أسراكم تسببت في ضرب الأعناق بالسيف، حرية الإنسان في مقابل الجبر السياسي. وتناسلت بعدها التأويلات وكثرت المقالات؛ تعلق جانب منها بالإلهيات، وتعلق الجانب الآخر بالإمامة والوصية، فاشتد الخلاف واحتدم داخليا، وسلت على إثره السيوف من أغمادها، وصار أتباع الحقيقة الواحدة يكفر بعضهم بعضا ويضرب بعضهم أعناق بعض. ومن بين صور التأويل الديني المشوب بالعنف السياسي التي وقعت في الإسلام تضحية خالد القسري بالجعد بن درهم صبيحة عيد الأضحى، وتشاء الأقدار أن يتكرر الحدث في وقتنا الراهن على نفس الأرض.

هكذا يظهر أن الدين أخضعه الإنسان لمصلحته الخاصة، وصار يؤول النص الديني ليوافق هواه، وجند كل طاقاته العقلية التأويلية، وطاوع بها النصوص ليجعل ما يصدر عنه عصمة وقداسة إلهية. فالمسيحية هرمها معصوم وكل ما يصدر عنه وحي، وما يحكم به قضاء وقدر لا يرد. هرم يعطي صكوك الغفران بالفضة والذهب والأرض، ويقتل نيابة عن الإله “فاليد التي تحمل السيف وتذبح هي يد الله” على حد زعم مارتن لوثر.

يشعر اليهودي بظلم التاريخ، فيسائل التوراة لم ظلم شعب الله المختار؟ يقرأ فيجد الإله نزل وحارب مع شعبه، ويجد إسرائيل صارع الله وغلبه، فيتوهم أن شعبا بهذه المزايا يجب أن يقهر العالم. تخبره التوراة بميراث مملكته، فيقرأ نصوصها ويؤولها، ويعمل خفاء وعلنا لتحقيقها. يعتقد أن مملكته ستقوم حين يرتفع الشر وتستعير ناره، وتقع حرب مدمرة شاملة، ويأتي المخلص ليخلص شعب الله المختار.

يعتقد المسلم بالنهاية المحتومة، ويعتقد أن آخر حرب ستكون بين اليهودي والمسلم. يقرأ عن المهدي المنتظر فيتذكر أن عودته ستسبق نزول المسيح عليه السلام فوق مأذنة مسجد بالشام، وسيجد عبادا أولي بأس شديد يجوسو بهم خلال الديار.

حقائق دينية تتعارض، تسعى كل منها إلى الريادة، وبعضها يسعى إلى القيام على أنقاض الأخرى، فهل يمكن أن تتحاور؟ الأولى تلغي الآخر، والثانية تريد استعماره واستغلاله، والثالثة تحس بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يمكن لهذه الحقائق الدينية ذات المنبع الإبراهيمي أن تتحاور حول ما هو مشترك إنساني، وحول إمكانية إعمار الكون وليس على التعجيل بنهايته. فالكوكب الذي نعيش عليه ينتشر فيه الجوع كالهشيم من أقصاه إلى أدناه، وتطفو على سطحه النعرات الطائفية والصراعات العقائدية يغذيها التنظير للصدام الحضاري ونهاية التاريخ. فهل من مقبل على الحوار بإنسانية طاهرة؟؟؟

{jathumbnail off}

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.