ونظرا لأهمية وراهنية الموضوع، قررت الحضور للاستماع إلى مقاربة وتمثلات ومواقف الأطراف المتحاورة من عدد من الأسئلة والإشكالات المرتبطة بموضوع الندوة، إلا أنني فوجئت في لحظة من لحظات هذا اللقاء الفكري بامتياز بانحراف وتحول النقاش من اختلاف في وجهات النظر والآراء حول قضايا محددة إلى مشادات كلامية وفوضى عارمة واتهامات متبادلة بين الشيخ الفيزازي وبعض النشطاء الأمازيغ، بسبب استعمال الشيخ كلمة “بربر” أثناء مداخلته، والتي تعني الوحشية والهمجية حسب فهم بعض الحضور، حيث رد عليه أحدهم مستعملا عبارات استفزازية قوية من قبيل “نحن غير عرب وغير مسلمين”، ونرفض أن يحكمنا الإسلام، معتبرا أن الأمازيغ عرفوا قيما حضارية راقية وتعايشا سلميا رفيعا قبل مجيىء الإسلام، وأن تاريخ المسلمين ما هو إلا تاريخ عنف وقتل.
وفي رده على هذه الاتهامات، قال “الفزازي” إن كلامه لم يفهم جيدا وأنه لم يكن يقصد بكلمة “بربر” الإساءة إلى إخوانه الأمازيغ، الذين يعتبرهم مكونا أساسيا من مكونات الهوية المغربية متعددة الروافد، مشيرا إلى أن مقاطعته أثناء تدخله من طرف بعض الحضور يعد إرهابا فكريا ومصادرة لحقه في التعبير عن رأيه. ووصل التلاسن الحاد بين الطرفين إلى حد وصفه لأحد الحضور “بالبهيمة”. وقد انتهى هذا اللقاء بانسحاب الشيخ من المناظرة بدعوى أنه يرفض المشاركة في “مجلس يسب فيه الإسلام”.
كما عرف هذا اللقاء مقاطعة أحد الحضور أثناء مشاركته في النقاش، لكونه أراد طرح سؤاله باللغة الأمازيغية، وهو ما لم يرق الأستاذ أحمد عصيد، الذي أوضح في تعقيب له أن من حق المتدخل التخاطب بالأمازيغية بقوة الدستور، الذي أقر برسميتها، مضيفا أنه من غير المقبول الاستمرار في قمع وإسكات الأمازيغ بعد إخراس صوتهم لمدة نصف قرن.
لذلك، وبناء على ماسبق ذكره من وقائع وتدخلات حادة، سأحاول في هذه المقالة تسجيل مجموعة من الملاحظات التي أراها ضرورية حول هذه الجلسة الفكرية..
الملاحظة الأولى:
إن ما حدث في هذا اللقاء من فوضى عارمة وملاسنات وعنف لفظي ومقاطعات للمتدخلين والحضور مؤسف جدا ومؤشر دال على تدني مستوى النقاش العمومي داخل الفضاء العام في بلادنا، والذي مازال يفتقد إلى مجموعة من المقومات كغياب أسس إدارة الحوار وعدم احترام حق الآخر في التعبير عن رأيه.
وهنا يجب التأكيد على أن الدولة تتحمل جزءا من مسؤولية هذا التدني نتيجة مخلفات سنوات من القمع والاستبداد والمنع والتضييق على الأنشطة الجادة وغياب فضاءات للنقاش حول المواضيع والقضايا السياسية والإيديولوجية والثقافية الحساسة مثل قضية الدين والهوية وقضايا سياسية أخرى تلامس الاهتمامات الحقيقية للمجتمع المغربي.
الملاحظة الثانية:
تنامي الخطاب المتطرف الذي يحاول البعض فرضه من داخل النقاش العمومي، ويطرح قضية الأمازيغية بطريقة توحي بأنها مضطهدة من طرف العروبة والإسلام، لذا وجب التنبيه أن خطاب التحريض والعداء والحقد على العروبة والإسلام يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل السلم الاجتماعي للمغاربة على الرغم من أنه خطاب مرفوض من طرف المغاربة والعرب الذين يعتزون بالتراث الأمازيغي الغني باعتباره يدخل ضمن المشترك الإنساني.
ومرفوض أيضا من قبل الإسلام الذي لا يقبل المزايدة من فئة تصر على اختلاق مشكل غير واقعي وتريد الزج بالمغرب في حرب عرقية سوف لن تنتهي إذا لم تحسن بعض الحساسيات السياسية والفكرية المتطرفة التقدير.
كما أن هذا الخطاب مرفوض من طرف أغلبية الأمازيغ الذين قبلوا بالإسلام دينا لهم ويتعايشون مع المغاربة بمختلف أطيافهم بشكل عادي منذ قرون من الزمن. إن قضية ألأمازيغية هي قضية وطنية وسيادية فوق كل اعتبار إيديولوجي أو قومي أو طائفي.
الملاحظة الثالثة:
يجب تجاوز بعض النقاشات المغلوطة التي تجعل العلماني الأمازيغي في مواجهة الإسلامي العروبي، وهي في نظري نقاشات لا تجيب عن الانتظارات الحقيقية والأسئلة اليومية للمواطن المغربي ولا تنسجم مع طبيعة المرحلة التي يجتازها المغرب، خصوصا بعد الحراك الأخير الذي عرفته بلادنا والذي بين بالملموس أن الهاجس الأكبر للمغاربة وأولويتهم القصوى هو الخروج من دائرة التخلف والاستبداد وتحقيق حلم الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.
وفي الختام، أريد أن أؤكد على مسألة أساسية وهي أنه لا يمكن محاصرة الأفكار الهدامة والمواقف المتطرفة التي قد تشوش على النقاش العمومي الهادئ والرصين إلا ببناء مؤسسات ديمقراطية قوية توفر قنوات للحوار السياسي والفكري، وكذلك بتدعيم وتعزيز وتكثيف النقاش الحر والهادف داخل الفضاء العام بين مختلف مكونات المجتمع وأطيافه السياسية والفكرية، وذلك من أجل ترسيخ مبادئ وقيم الديمقراطية باعتبارها ركنا أساسيا في أي مجتمع، وهذا يعني التحلي بملكة الاستماع واحترام الرأي الآخر عوض أن يتحول اختلاف في وجهات النظر والآراء إلى خلافات أو صراعات أخرى نحن في غنى عنها.
{jathumbnail off}
المصدر : https://dinpresse.net/?p=813