وفاة رجل عظيم في عالم المتنطعين

مصطفى بوهندي
2019-12-23T09:04:01+01:00
آراء ومواقف
مصطفى بوهندي23 ديسمبر 2019آخر تحديث : الإثنين 23 ديسمبر 2019 - 9:04 صباحًا
وفاة رجل عظيم في عالم المتنطعين

الدكتور مصطفى بوهندي
لقد فقدنا للتو رجلا مفكرا عظيما، سواء اختلفنا معه جزئيا أو كليا أو اتفقنا؛ فإن الرجل قام بما ينبغي أن يقوم به، وفق رؤيته ومنهجه، بالعلم والفكر والكلمة والقلم. وعرض أفكاره على العالم بكل وسيلة ممكنة على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمن. وترى لنا مكتبة جميلة على ما فيها من الإثارة ومحاولة الجواب على الأسئلة الراهنة للمسلم وللإنسان عموما. وناقش الناس ورد عليهم وأخذ منهم، ورغم أن الكثيرين عاملوه بما لا يليق، لكنه استمر على منهجه طيلة حياته، إلى أن وافقته المنية في سن 81 سنة. فرحمه الله وتقبل منه.

كان يمكن أن تكون محطة وفاة هذا الرجل العظيم فرصة للتذاكر بين الباحثين والعلماء، ومناقشة مشروعه العظيم في التنوير والتحرير. وفعلا لقد استغل البعض هذه الفرصة للتعبير عما يكنون للرجل من محبة وتكريم وتعظيم، وللتعبير عن مدى استفادتهم من أفكاره ومشروعه، وعن شعورهم بالألم والأسى لوفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، بعد أن قام بدوره الرائد، سواء اختلفنا معه أو اتفقنا في مراجعة الفكر الإسلامي والخروج به من التأزم والركود. وعبر الكثير من هؤلاء عن حزنهم لفراقه وسؤالهم لله العلي العظيم أن يتقبله عنده في الصالحين ويدخله الجنة ويحفظه من النار، ويجازيه عن اجتهاداته خير جزاء بالأجر أو الأجرين.

كما ظهرت فئة ثانية، دعت له بالرحمة والمغفرة ولأهله بالصبر والسلوان والأجر العظيم؛ ومعبرة عن حقها في الاختلاف معه في بعض آرائه واجتهاداته. ومنهم فريق صمت على ما جرى فلم يلزم نفسه لا بقول خير ولا شر، غير آبه بما حدث.

ومقابل هؤلاء جميعا، ظهر المتنطعون الغلاة، الذين جعلوا من موته فرصة للتشفي والاستهزاء والقول الرديء والبذيء، والسب واللعن والقذف والتجريح والتفسيق والتكفير؛ فأخرجوه من الإسلام، و”كل الذين يماثلونه”؛ ودعوا عليهم أن يلحقوا به، وكأنهم هم غير معنيين بالرجوع إلى الله. لكن لا أحد منهم أثار فكرة من أفكار الرجل فناقشها وتعامل مع آرائه بميزان العلم والدليل والبرهان؛ مع أن المناسبة هي مناسبة عزاء وليس تشف ولا فرح بالمصائب عندما تصيب المخالفين. ولم أفهم هل يطلب ديننا منا إذا مات المخالف أن نعامله بمثل هذه المعاملة، وفي هذه المناسبة؟ لقد رأيت في سلوكهم ما يدل على أنهم واثقون بأنهم أصحاب الجنة ومخالفوهم أصحاب النار، ولو كانوا من المسلمين وركنوا إلى القرآن العظيم. لم أعرف أي التعاليم أو النصوص أو الأخبار أو السنن تصنع مثل هذا النوع من الناس؟ وهل هذه هي السنة التي يدعون الناس إلى الاستنان بها. اآلله أمركم بهذا أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ وهل الرسول الكريم أمرهم بهذا أم تقولون على الرسول ما لا تعلمون؟ وهل الإسلام من غير كلام الله ورسوله أمركم بهذا أم تقولون على الإسلام ما لا تعلمون؟

إن لسان حال هؤلاء يقول: لقد مات الرجل واسترحنا وهنئنا من مراجعاته وشغبه، وأراح الله منه البلاد والعباد. والآن فلندعُ على المماثلين له باللعنة والموت حتى يذهبوا كذلك عنا ويتركوننا في حالنا، نستغل البسطاء الذين لا علم لهم بخطابات الجهل والتزوير، والكذب والتكفير. لقد نسي هؤلاء “المرضى المخبولون والجهال المتخلفون” أن الرجل وإن مات جسده فإن أفكاره، أو كثيرا منها على الأقل، سيكتب لها الحياة والبقاء والاستمرار؛ وستواصل قض مضاجعهم، إن لم يواجهوها بالعلم والدليل والبرهان؛ وليس بالشماتة والسباب واللعن وسوء الألقاب. ولن يهنأوا بعد يوم كتابتها من أن تهاجمهم وتحاصرهم في مضاجعهم ولو كانوا في بروج مشيدة، وفي مجالس علمية محصنة، وفي تقاليد دروشتهم المنافقة، وحركات تآمرهم الجبانة المنفعلة. وسيخرج من أبنائهم ومن طلبتهم وممن لم يحتسبوا من يكمل مشاوير هؤلاء العلماء الرواد الأفذاذ، وينظف كل محاجر أفكارهم البالية الآسنة، ويسقط تماثيلهم المتبقية التي جعلوها أندادا لله واتخذوها أربابا من دون الله. ولعمري إن هؤلاء هم منافذ الإرهاب والتطرف وتقديم الصورة الرديئة البذيئة عن الإسلام والمسلمين والقرآن والرسول إلى العالمين.

وإني إذ أكتب التدوينة أترحم على الفقيد المفكر العظيم المهندس محمد شحرور، وأسأل الله له المغفرة والقبول عند الله، والجزاء الحسن على ما بذله من تفكير واجتهاد، سواء أخطأ فيه أو أصاب؛ وأسأل الله لعائلته ومحبيه وأنصاره الصبر والسلوان والأجر الحسن، وأخبرهم أنه لا يزال بين أظهرنا بعلمه وفكره وكتبه، وليخسأ الكافرون. وأقول للمتنطعين قليلي الأدب وطويلي الألسن الجارحة الحديدية الشديدة: إنكم ستلحقون به قريبا وتختصمون هناك عند الله، وسيكون له عليكم أن قدم لكم أفكارا نيرة بأدلتها وبراهينها لتنظروا فيها. لكنكم أعرضتم واتبعتم ما وجدتم عليه آباءكم، ولم تجيبوه على أفكاره ولا ناقشتموها ولا راجعتموها، وإنما طعنتم في شخصه وعرضه ودينه وآذيتموه أذى شديدا، حيا وميتا. ولست أظن أن أحدا من الشفعاء والوكلاء سيدافع عن إجرامكم في حقه وشخصه، بدل الرد على قوله ورأيه، بالمنهج المطلوب وباللتي هي أحسن. وإن ذلك اليوم لقريب، وهو اليوم الحق، ولابد لنا جميعا، من الرجوع فيه إلى الله والوقوف بين يديه، وعند ربكم تختصمون، من غير شفيع ولا حميم يطاع.
صفحة الكاتب على الفيسبوك

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.