“كنت في الرقة”: شهادة حية لتجربة متطرف تكفيري جهادي

دينبريس
2019-11-18T09:18:16+01:00
كتاب الأسبوع
دينبريس13 نوفمبر 2019آخر تحديث : الإثنين 18 نوفمبر 2019 - 9:18 صباحًا
“كنت في الرقة”: شهادة حية لتجربة متطرف تكفيري جهادي

بدأت في الأعوام الأخيرة تبرز إلى الوجود بعض الكتابات التي تتناول “الظاهرة الإسلامية” من الداخل، وتحاول أن تضيء بعض المساحات المظلمة داخل التنظيمات “العقدية” سواء تلك التي تنعت بالمعتدلة أو الأخرى التي توسم بالتشدد والعنف.
وقد ظهرت مثل هذه الكتابات على شكل سيَرٍ ذاتية تحكي بتفصيل عن حياة بعض “الإسلاميين” وظروف انتماءاتهم التنظيمية، والمشاكل التي كانوا يعانون منها داخل هذه التنظيمات المغلقة، والأسباب التي أدت بهم إلى الثورة عليها والتمرد على قادتها وسلوكياتهم “المشبوهة”.
وقد سلك بعض “العائدين” أو “التائبين” من هؤلاء مسلك البوح “الأدبي” أو “النفسي” عن مرحلة عصيبة عاشوها في حياتهم، سواء على شكل حوارات نشرت في وسائل الإعلام، أو على شكل كتب تم توزيعا، على أمل أن يستفيد منها غيرهم، سواء من أولئك الذين مازالوا يعيشون التجربة، أو أولئك الذين لهم توقٌ إلى الدخول إلى عالم “الإسلاميين”.

بوح بالواسطة
بخصوص رواية أو كتاب “كنت في الرقة: هارب من الدولة الإسلامية” لصاحبه الإعلامي التونسي “هادي يحمد”، فهو حكيٌ أو بوحٌ بالواسطة، أي أن هناك الراوي الذي يسرد قصته داخل تنظيم متطرف إرهابي يسمى “داعش”، وهناك الكاتب أو الصحافي الذي سمع القصة وأعاد كتابتها بأسلوبه الخاص. فهناك بطل الرواية “محمد الفاهم”، الذي عاش التجربة، وهناك الكاتب والإعلامي الذي كتب ونشر الرواية وهو “هادي يحمد”. (صدر الكتاب عن دار النقوش العربية في تونس عام 2017، وجاء في 268 صفحة. ويتناول قصة شاب تونسي من مواليد 1990 التحق بداعش في سوريا، وعاش وحارب عدة سنين ضمنها، لكنه فرّ منها في يناير 2016 واستقر بتركيا). وهذا يختلف بطبيعة الحالة عن “الإسلاميين” الذين تولوا هم بأنفسهم كتابة حكاياتهم أو تجاربهم داخل الأقبية المغلقة للتنظيمات الأصولية، وبالتالي كانت لهم القدرة والإمكانية والشجاعة الأدبية للتعبير الذاتي المباشر عمّا رأوه أو عايشوه من أحداث، بخلاف “محمد الفاهم” الذي تولى شخص آخر الكتابة والتعبير مكانه..
ليس من عاش وتفاعل مع محيطه ثم تولى بنفسه الإفصاح عن ذاته وفكره، كمَن سمع عن ذلك وكتب عنه آخرون فيما بعد. بطبيعة الحال نتكلم هنا عن نقصان في الموضوعية، أو تصرف في المعطيات والأفكار من قبل الكاتب بالنيابة. سواء شئنا أم أبينا، لا بد أن تتدخل ذات الكاتب في الأحداث وتتصرف فيها وتُوجِّهها، هذا إن كانت هناك حسن نية، أما إذا وجدت سوء النية، فتلك جريمة في حق الراوي والكاتب والقارئ جميعا، ولا نعتقد إلا بوجود حسن النية في هذا العمل الروائي، ورغبة من يقفون وراءه في الكشف عن بعض خبايا تنظيم إرهابي مثل “داعش”.
لذلك ينبغي الأخذ بعين الاعتبار هذه الازدواجية (البطل أو الراوي من جهة والكاتب من جهة أخرى) الموجودة في رواية “كنت في الرقة”، في إجراء أي قراءة لهذا العمل، ومحاولة تفكيك بعض جوانبه، لأنه في النهاية هناك إرادتان، إرادة الراوي وإرادة الكاتب، وعلى المحلل أن يكون على حذر تام في
التعاطي مع الرواية والأحداث التي تقدمها للقارئ.. ولكن كيفما كان الحال وجب التنويه بهذا العمل لأنه ربما أول عمل “روائي” يتعرض لتفاصيل الحياة داخل تنظيم “داعش” الدموي. وهي تجربة بطبيعة الحال غنية ومفيدة سواء للقارئ، أو لأتباع التنظيم لعلهم يرجعون إلى رشدهم، وأيضا للأجهزة الأمنية في العالم، للاطلاع على واقع عنيف عاشه “محمد الفاهم ” ويرويه عنه الإعلامي التونسي “هادي يحمد”.
وهي رواية فعلا تستحق القراءة، وهي شهادة حية لتجربة متطرف تكفيري جهادي، وقد نجحت في إعطاء تصور عن دولة “داعش” من الداخل لمن يريد أن يعرف عن قرب طبيعة هذا التنظيم الإرهابي، كما أن هذا العمل هو إضافة نوعية من أجل تفكيك التنظيمات المتطرفة عموما إلى جانب كتابات أخرى في بلدان عربية تناولت الظاهرة “الإسلامية” من الداخل وحاولت مقاربتها من وجهات نظر مختلفة. وهناك إفادة أخرى لكتاب “كنت في الرقة” وهو أنه يرصد عن قرب ظهور التيارات السلفية الجهادية بتونس وتفرعاتها وتبنيها للعنف، سواء ما قبل ثورة الياسمين أو ما بعدها..

ذكر المغرب والمغاربة في الرواية
بالنسبة للقارئ المغربي، ربما يتوقع أن تتم الإشارة في الرواية إلى المغاربة “المجاهدين” الموجودين في بلاد الشام، نقول بداية إن الكاتب تجاهل تماما هذه الشريحة المغرر بها، ولم يرد في الكتاب أية معلومات أو أسماء مغربية، يمكن أن تشكل معطيات مفيدة للقارئ العادي. لقد تم ذكر المغرب أو المغاربة في الصفحات 26 و 36 و 58 ، وهي إشارات عابرة جدا وغير ذات جدوى في الحبكة الروائية، وليست لها دلالات معينة يمكن الوقوف عندها تحليلا أو نقدا.. هناك أشياء كثيرة يمكن إثارتها في هذا العمل، لكن سنركز فقط على بعض الجوانب فيه، والتي تستحق الكشف عنها وتوضيحها بالنسبة للقارئ أو المهتم بمعرفة أسرار التنظيمات الإسلامية عموما، و”العنيفة” أو “الجهادية” على وجه الخصوص.

شكوك
يقول بطل الرواية في الصفحة “124” يمكنك في تونس أن تشبع الباجي قايد السيسي نقدا فيما يقطع رأسك إذا انتقدت الخليفة أبا بكر البغدادي أو أبا لقمان والي الرقة”. ويؤكد في الصفحة “126” بتنا نعتقد كمجموعة من المهاجرين التوانسة أن كل المضايقات الأمنية التي عشناها في تونس لا تساوي شيئا أمام شراسة الجهاز الأمني للدولة الإسلامية ورعبه. صحيح أنه ربما تتمكن منك الأجهزة الأمنية في تونس مثلا ولكن تعذيبها أو تضييقها قد لا يصل إلى مستوى تعذيب وعمليات القتل التي ينفذها الأمنيون في الدولة الإسلامية”. ويشير في الصفحة “170” كان كل من دخلوا سجون الدولة من التوانسة بقولون لنا نتمنى لمدة خمس سنوات ولا يوما واحدا في سجون الدولة”.
يحاول الراوي وبطل الرواية “الفاهم” أن يقدم الأجهزة الأمنية التونسية للقارئ في صورة إيجابية، ولا لوم عليه في تعبيره الإشاري هذا، لكن قد يدفع بعض المحللين إلى الريبة في وجود اندساس أمني داخل الرواية وعبره داخل دولة “داعش” ومحاولة تفكيك بعض بنياته الفكرية والتنظيمية.
وقد يذهب التحليل أيضا في اتجاه إلى أن هناك من يريد بعث رسالة إلى التونسيين المغرر بهم داخل تنظيم “داعش” للقول لهم إن تضحياتهم من أجل الهجرة إلى بلاد الشام لم تكن في محلها وإن بقاءهم في دولتهم تونس هو القرار الصحيح عوض الارتماء في أحضان التطرف والإرهاب.
ورواية “كنت في الرقة” حاولت أن تلعب هذا الدور في إقناع التوانسة بضرورة مراجعة مواقفهم من “داعش” والقيام بمراجعة شاملة على غرار ما قام به “الفاهم” بطل الرواية واتخاذ قرار الهروب من جحيم الإرهاب والعنف.
ونظن أن الرواية هي على الأقل مدعومة من قبل جهات ذات نوايا حسنة لمحاولة زعزعة القناعات الفكرية والعقدية للداعشيين التونسيين، وقد قام “الفاهم” بهذا الدور، لأنه أحدث كثيرا من النقاشات داخل صفوف تنظيم الدولة بالشام، وحاول تكوين تيار مخالف للتوجهات الدينية لـ “داعش”، وتوجيه النقاشات الدائرة هناك نحو التمرد العقدي على أبي بكر البغدادي، الخليفة الوهمي لهذه “الدولة”.
ويمكن الاستشهاد هنا بالجدل الذي أحدثه بطل الرواية “الفاهم” في صفوف الداعشيين بخصوص قضية “عدم العذر بالجهل”، والصراعات العقدية الدائرة داخل التنظيم بين “البنعلية” و “الحازمية”، ويمكن مراجعة صفحات كاملة داخل رواية “كنت في الرقة” (141، 144، 147).. وربما هناك من يظن إلى أن جهات معينة وجدت في “الفاهم” قابلية للتجنيد داخل صفوف التنظيمات “الإسلامية” بتونس، خصوصا أنه ازداد في ألمانيا وعاش فيها مدة خمس سنوات، ورجع مع والديه إلى تونس، وهو ابن عائلة محترمة وتحب بلدها وهو ما صرح به داخل الرواية بقوله في الصفحة 225: “كانت وضعيته المادية معتبرة بالنظر إلى مستوى عائلته الاجتماعي الجيد هذا فضلا عن كونه الابن الوحيد في العائلة كان يملك منزلا وسيارة. ومما يلفت الشكوك حول شخصية “الفاهم” الغامضة كونه لم يكن محتاجا إلى المال، ولم يتم الحديث عن عمله الحقيقي، ولا عن مجهوداته في الحياة من أجل كسب رزقه، بل كانت أموره المادية كلها ميسرة، مما خوله فرصة الانخراط في أنشطة كثيرة داخل بلده منها الانضمام إلى التنظيمات الإسلامية المتطرفة.

تناقضات
ومما يعزز هذا الغموض أن “الفاهم” كانت له شخصية متناقضة، فهو يقوم بدور “الإسلامي” المعتنق للفكر السلفي، وفي الوقت نفسه يمارس حياته العادية من غناء وسهر ومصاحبة للفتيات.
وعلى سبيل المثال نذكر جزءا من حياة الميوعة التي كان يعيشها “الفاهم” في تونس، حيث يقول في الصفحة 209 “كنا نخرج بالدراجات النارية وكنا نباهي بها”. ويشير صراحة إلى انفصاميته وتناقضاته الكثيرة في الحياة، كما جاء في الصفحة: 194 “كنت أعود أحيانا إلى المنزل برائحة الدخان بعد سهرات السمر مع بعض صديقاتي من الفتيات، بالتوازي مع عالمي الآخر عالم حفظ القرآن والفئة المسلمة وحلم الجهاد في فلسطين ورقائق خالد الراشد “. ويزيد من تأكيده على التناقض الشديد في شخصيته قائلا في الصفحة نفسها “لم أشعر بأي تناقض بين ارتدائي سراويل الجينز وقبعات الهيب هوب وارتدائي من الغد لقميص صلاة أبيض ناصع للذهاب إلى المسجد”.
هذا يعني أن “الفاهم” كانت له شخصيتان في الوقت نفسه، شخصية ملتزمة تحفظ القرآن وتذهب إلى المسجد وتتابع قضايا “الجهاد” في فلسطين، وشخصية أخرى عادية، يسهر فيها مع الفتيات ويستمع فيها إلى الأغاني ويدخن فيها السجائر. وحتى عندما اتخذ قرار الهجرة، وهو في طريقه إلى ليبيا من أجل العبور إلى بلاد الشام للالتحاق بصفوف دولة “داعش”، لم يمنعه ذلك من التدخين عندما ركب مع أحد المهربين.
يقول في الصفحة 258 “أمدني صاحبها بسيجارة أخذتها على مضض ولكني دخنتها بشراهة”. ولا يمكن أبدا لأي شخص أن يدخن سيجارة بشراهة لو لم يكن متعودا على التدخين بدرجة كبيرة جدا، لأن المبتدئ في عالم التدخين تكفيه سيجارة واحدة لتلعب بعقله الخالي من النيكوتين.. بفضل “الفاهم” وغيره من المجندين، يستطيع القارئ أن يتعرف على أمور دقيقة داخل التنظيمات السلفية في تونس قبل ثورة الياسمين، ومعرفة اختلافاتها وأدبياتها وأفكارها العقدية والمذهبية. وكان الأمن التونسي يعتقل “الفاهم” في الرواية لكن سرعان ما يطلق سراحه وهي إضارة قد تثير الشكوك حول شخصيته وربما مأموريته السرية. يقول بطل الرواية في الصفحة 227: “وقع إيقافي العديد من المرات من قبل عناصر الأمن طيلة هاته الفترة وأصبحت من العناصر الأكثر نشاطا بالنسبة للأجهزة الأمنية في جهتي. تتالت عمليات إيقافي ولكنها إيقافات لا تدوم في أغلبها غير ساعات”.
وحديث “الفاهم” داخل كتاب “كنت في الرقة” عن تعرضه للتعذيب من قبل الأمن التونسي قد يعتبره البعض تمويها من أجل إكسابه مشروعية الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة وتأهيله وإعداده من أجل تهجيره إلى بلاد الشام ودسّه داخل تنظيم داعش، وهي المهمة التي ثد يكون قام بها على أحسن وجه لفائدة بلده. ولعب “الفاهم” أيضا دورا هاما إبان وبعد ثورة “الياسمين” التي أطاحت بالرئيس “زين العابدين بن علي”، بل إنه صرح في الصفحة 230 من الكتاب أنه كان ينسق مع رجال الأمن أثناء الثورة وما بعدها إلى غاية تهجيره إلى سوريا. يقول “كان مشهدنا ونحن ننسق مع رجال الأمن أشد أعدائنا في تلك الفترة مثيرا للانتباه بالنسبة لعارفين برؤيتنا وعدائنا العقائدي لهم”.
يعني أن هناك من أثارته التنسيقات الأمنية التي كان يقوم بها “الفاهم” وأصحابه مع رجال الأمن، وهي شهادة قد تدفع إلى القول بأنه كان يقوم بمهمة سرية داخل التنظيمات السرية بتونس. في هذه الفترة عمل الجهاز الأمني التونسي على تجنيد كثير من العناصر من أجل تهجيرهم إلى بلاد الشام، وفتحت مطار “تونس قرطاج” أمام الراغبين في الهجرة إلى سوريا، وهو ما أكده “الفاهم” في الرواية بقوله في الصفحة 233: “خرج العديد من مطار تونس قرطاج بطريقة طبيعية فيما خرجت أفواج أخرى من الحدود الليبية الجنوبية”.

دور تركيا
سوف لن نقف في هذه القراءة على الطريقة التي خرج بها “الفاهم” من تونس ودخل بها إلى ليبيا ثم بعدها طار إلى اسطنبول ليدخل بكل سهولة إلى الأراضي السورية الواقعة تحت احتلال دولة “داعش”، لأن الراوي أو الكاتب تطرق إلى ذلك بكل وضوح، حتى إنه في بعض اللحظات يكاد يفصح أن هناك أيادي خفية تعمل على تسهيل مسألة هجرة “المجاهدين” إلى بلاد الشام..
إنها هجرة مثيرة للشكوك وقد تدفع المحللين إلى التأكيد بالفعل وجود تنسيق استخباراتي كبير مع دولة تركيا، هذه الأخيرة يرى كثيرون أنها لعبت دورا كبيرا في إنشاء دولة “داعش” في بلاد الشام، وهناك تقارير إعلامية عديدة تشير إلى تورط تركيا في المستنقع الإرهابي في بلاد الشام. إن رواية “كنت في الرقة” تؤكد أن مطار “اسطنبول” الدولي كان معبرا للمجاهدين إلى سوريا، وكانت مصالح الحدود تسهل عملية عبور “المقاتلين”، إلى درجة أن بطل الرواية قال بكل وضوح في الصفحة 36: “الوصول إلى اسطنبول يعني الوصول إلى الرقة”. وأشار في الصفحة 31: “قادنا المهرب بين الطرق مجنبا إيانا حقول الألغام المزروعة في محيط المناطق التي تسيطر عليها الدولة”.
هذا يعني أن دولا معينة كانت تتحكم في عملية عبور “المجاهدين” إلى سوريا، انطلاقا من البلد الأصلي، ومرورا بتركيا، ووصولا إلى سوريا، وتجنّد العاملين في المعابر، حيث كان يتم الوقوف عن كل صغيرة وكبيرة، وكان يتم إحصاء كل “المقاتلين” و “الإعلاميين” وجرد أسمائهم والحصول على وثائقهم وهوياتهم، بمعنى آخر، فإن مصير “داعش” كان ومازال بيد الأجهزة الأمنية للدول اللاعبة في منطقة الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران وروسيا وأمريكا.. وهذا ليس بشيء جديد جاءت به رواية “كنت في الرقة”، بل هناك أيضا تقارير دولية أشارت إلى الدور التركي فيما يحدث في بلاد العراق والشام، بالإضافة إلى أدوار أخرى تقوم بها دول في المنطقة.
وتوحي الرواية أن بعض الأنظمة العربية بدورها ساهمت في هجرة “المجاهدين” إلى بلاد الشام، منها بالخصوص دول الخليج، وكانت لديها رغبة في إسقاط نظام “بشار الأسد” مما جعلها تغض الطرف عن دخول الإرهابيين بالآلاف إلى سوريا.. وربما كانت هذه الأنظمة تريد التخلص من هؤلاء “المجاهدين” بتسهيل عملية رميهم في محرقة الصراع في بلاد العراق والشام. ونذكر أنه في هذه المرحلة تم تحريض علماء “الأمة” من أجل الإفتاء بالجهاد في سوريا، وقد صدرت فتاوى كثيرة تدعو إلى الجهاد في بلاد الشام، مما يؤكد مسؤولية بعض الأنظمة فيما آلت الأمور في منطقة الشرق الأوسط، وقد كان هناك مؤتمر في القاهرة تم الإعلان فيه عن ضرورة الجهاد في سوريا وكان من الموقعين عليه مغاربة مثل “أحمد الريسوني” الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح.

غموض
ينبغي الإشارة أيضا إلى أن هناك غموضا شديدا في نهاية رواية “كنت في الرقة”، فالبطل “الفاهم” نجح في الخروج من سوريا وتوجه مرة أخرى إلى تركيا، وهو مازال مستقرا بها، وهو ما أكده الصحافي “هادي يحمد”، وهذا يطرح مجموعة من الأسئلة: لماذا لم تعتقله السلطات التركية؟ ولماذا
لم تطالب الأجهزة التونسية برأسه؟ ولماذا لم يعلن توبته بصراحة من الأعمال الإجرامية التي قام بها داخل “داعش” أو على الأقل إعلان تبرئه منها؟ هذا بطبيعة الحال قد يوحي بأن مهمة الراوي لم تكتمل بعد، وأنه يتم تحضيره وإعداده للقيام بأدوار أخرى.. ومما يعزز هذه الفكرة أنه لم يدخل بجواز سفره إلى دولة الخلافة، وأنه تركه عند “أم المجاهدين” السورية المقيمة باسطنبول، والتي يعرف مقر بيتها جيدا، ولم يحاول الذهاب إليها لاسترجاع جوازه التونسي، واكتفت الرواية بذكر محاولة اتصاله السلبية بأم المجاهدين لتعيد إليه وثيقة سفره.
قد يدفع كل ذلك إلى القول بأن نهاية القصة تشير بشكل ضمني إلى دور البطل في تركيا وهو أن يبقى على دارية كاملة بتطورات الأمور على الساحة، ومطلعا بدقة على أحوال “المقاتلين”، وكذلك أولئك الذين قرروا العودة إلى بلدانهم الأصلية. لهذا السبب جاءت ناهية الرواية غامضة جدا ولم تحدد الوجهة الجديدة لـ”الفاهم” ولا سبب وجوده الآن في تركيا، ولا حتى ذكر مراجعاته الفكرية وإعلان توبته بصفة نهائية مما أقدم عليه في سوريا.

خلاصات
ـ أن الرواية يستحق فعلا القراءة وهي شهادة حية لتجربة متطرف تكفيري جهادي.
ـ نجحت الرواية في إعطاء تصور عن دولة “داعش” من الداخل لمن يريد أن يعرف عن قرب طبيعة هذا التنظيم الإرهابي..
ـ الكتاب هو إضافة لتفكيك الظاهرة الإسلامية عموما إلى جانب كتابات أخرى في بلدان عربية تناولت الظاهرة من الداخل وحاولت مقاربتها من وجهات نظر مختلفة..
ـ الكتاب يرصد عن قرب ظهور التيارات السلفية الجهادية بتونس وتفرعاتها وتبنيها للعنف، خصوصا بعد ثورة الياسمين..
ـ ساهمت بعض الأنظمة في هجرة “المجاهدين” إلى بلاد الشام.. وكانت لها رغبة في إسقاط نظام “الأسد” مما جعلها تغض الطرف عن دخول الإرهابيين بالآلاف إلى سوريا.. وربما كانت هذه الأنظمة تريد التخلص من هؤلاء “المجاهدين” بتسهيل عملية رميهم في محرقة الصراع في بلاد العراق والشام..
ـ في الرواية يظهر جليا دور دولة تركيا في تسهيل عملية عبور المتطرفين إلى سوريا..
ـ الرواية تسلط الضوء بشكل مثير على دور الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية في التواصل بين الإرهابيين. وأنهم على دراية كاملة بالمجال التقني.. وأن دولة “داعش” حققت نجاحات كبيرة في بداية ظهورها بواسطة العالم الرقمي.. وأن هذه الدولة الإرهابية كانت تولي اهتماما خاصا بالإعلام، واعتمدت عليه في إستراتيجية انتشارها، واستمالتها للمتعاطفين معها وإقناعهم بخوض تجربة الجهاد..
ـ هذا الكتاب يكشف مدى الصراعات الداخلية لتنظيم “داعش”.. وأن هناك تيارا تكفيريا أكثر تشددا خرج من رحمها وهو ما عبرت عنه الرواية بأولئك الذين يرون “عدم العذر بالجهل”.. أو ما سماه الراوي الصراع بين “البنعلية” و “الحازمية”.
ـ هروب “محمد الفاهم” لم يكن نتيجة “تراجعه” عن فكرة الجهاد، وإنما بسبب عدم تحقق حلمه في قيام دولة الإسلام كما كان يحلم بها.. وأنه ظن أن “داعش” هي دولة الخلافة الموعودة، فاصطدم بالواقع المرير الذي كشف له أن “البغدادي” وأمراءه هم أناس عاديون تتحكم فيهم الأهواء والرغبات والتنافس على الغنائم والجنوح إلى تصفية الحسابات…
• هروب الفاهم من “داعش” كان بسبب اعتناق فكر تكفيري أخطر من فكر “داعش” ذاته.. إنه ينتقد “داعش” في تساهلها مع “العوام” وعدم تكفيرها لبعض الرموز الإسلامية.. في مقابل ذلك تعتبر “داعش” هذا الفكر المنبثق من أحشائها “خروجا” عن فكر وخط التنظيم.. لذلك قامت بحملات تصفية لرموزه.. وبطل الرواية هرب من سطوة “داعش” لأنه بدأ ينتقد فكرها بصورة علنية..
ـ لا توجد في الرواية أية مراجعة للفكر التكفيري أو حتى الجهادي.. ولم تخبرنا بأن “الفاهم” تراجع عن فكرته “الإسلامية”.. أو أنه أعلن توبته.. إنما انتقد خيبة ظنه في تحقق حلمه في قيام دولة الإسلام الموعودة.. وأنه لم يحصل على المكانة اللائقة به داخل التنظيم كشخص غامر بحياته وترك حياة الرفاهية وقطع مسافات طويلة من أجل حلم ضائع.. عكس بعض “الإسلاميين” الآخرين الذي تخلوا بصفة نهائية عن “المشروع الإسلامي”وأعلنوا عن توبتهم بشكل صريح..
ـ بالنسبة للراوي فإن “داعش” ليست هي دولة الإسلام، وربما تكونت لديه قناعات أخرى حول كيفية قيام دولة الخلافة الحقيقية وهو الأمر الذي لم يفصح عنه في الكتاب.. وبقي بطل الرواية غامضا إلى حد كبير..
ـ تشير الرواية إلى دور بعض دول الخليج الذين يسميهم “الفاهم” بـ “الجزراويين”، في اختراق تونس، في بعض فترات تاريخها، والتأثير على شبابها في التأسيس لفكر سلفي جهادي خطير..
ـ وكيفما كان الحال، فإن رواية “كنت في الرقة” كشفت عن واقع مرير داخل تنظيم “داعش”، وعن التناقضات التي كان يعيشها “المقاتلون” والمغرر بهم، مما كان أحد العوامل التي أدت إلى انهيار هذه “الدولة” المزعومة وقتل “خليفتها “الوهمي” أبي بكر البغدادي أخيرا على أيدي الأمريكيين..
فهل يفكر الفاعلون الدوليون مرة أخرى والماسكون بخيوط اللعبة والمتحكمون في حبك الروايات على تأليف قصة جديدة شبيهة بحكاية “داعش”؟
إنجاز: سعيد الراشيدي لفائدة “دين بريس”

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.