إعداد وتقديم :ذ. محمد جناي
إن من أوجه الإعجاز الذي تضمنه كتاب الله جل وعلا : ما حواه من جمل قليلة المباني، عظيمة المعاني، يقرأ فيها المسلم الجملة المكونة من كلمتين أو ثلاث كلمات أو أربع، فإذا به يجد تحتها كنوزا من الهدايات العلمية، والإيمانية،والتربوية، والتي جاءت على صورة :(قواعد قرآنية).
وإن من أعظم مزايا هذه القواعد : شمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلا، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعد تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعد تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعد لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات .
القاعدة الأولى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناٗۖ}
الإنسان مدني بطبعه كما يقال، وكثرة تعاملاته اليومية عليه الاحتكاك بطوائف من الناس، مختلفي الأفهام والأخلاق ، يسمع الحسن وغيره، ويرى ما يستثيره؛ فتأتي هذه القاعدة لتضبط علاقته اللفظية.
إنها قاعدة تكرر ذكرها في القرآن أكثر من موضع، إما صراحة أو ضمنا: فمن المواضع التي توافق هذا اللفظ تقريبا:قوله تعالى : ” وَقُل لِّعِبَادِے يَقُولُواْ اُ۬لتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلِانسَٰنِ عَدُوّاٗ مُّبِيناٗۖ ” ( الإسراء: 53)،وقريب من ذلك : أمره سبحانه بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، فقال سبحانه: ” وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهْلَ اَ۬لْكِتَٰبِ إِلَّا بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا اَ۬لذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِالذِےٓ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَٰحِدٞ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَۖ ” ( العنكبوت:46)،أما التي توافقها من جهة المعنى فكثيرة ، وسوف نشير إلى بعضها .
إننا نحتاج إلى هذه القاعدة بكثرة، خاصة وأننا في حياتنا نتعامل مع أصناف مختلفة من البشر ، فيهم المسلم وغير المسلم، وفيهم الصالح والطالح، وفيهم الصغير والكبير، بل ونحتاجها للتعامل مع أخص الناس بنا: الوالدان، والزوج والزوجة، والأولاد، بل ونحتاجها للتعامل بها مع من نشاركهم بيئة العمل ومن في حكمهم.
ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة القرآنية : ما أثنى الله به على عباد الرحمن ، بقوله :” وَإِذَا خَاطَبَهُمُ اُ۬لْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰماٗۖ “، يقول ابن جرير رحمه الله في بيان معنى هذه الآية :” وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول ، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب”.
وهم يقولون ذلك ” لا عن ضعف ولكن عن ترفع ، ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع”.
إن مما يؤسف عليه أن يرى الإنسان كثرة الخرق لهذه القاعدة في واقع أمة القرآن.
وقد نبهت آية الإسراء إلى خطورة ترك تطبيق هذه القاعدة ، فقال سبحانه:” إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمُۥٓۖ” ، وعلى من ابتلي بسماع ما يكره أن يحاول أن يحتمل أذى من سمع منه، وأن يقول خيرا، وأن يقابل السفه بالحلم، والقول البذيء بالحسن، وإلا فإن السفه والرد بالقول الرديء يحسنه كل أحد.
أفتى الإمام مالك رحمه الله لبعض الشعراء بما لا يوافقه، فقال يا أبا عبد الله ، أتظن الأمير لم يكن يعرف هذا القضاء الذي قضيته؟!
فقال :بلى.
قال : إنما أرسلنا إليك لتصلح بيننا فلم تفعل، بالله لأقطعن جلدك هجاء!
فقال له الإمام مالك:
إنما وصفت نفسك بالسفه والقناعة! وهما اللذان لا يعجز عنهما أي أحد، فإن استطعت أن تأتي الذي تنقطع دون الرقاب فافعل: الكرم والمروة!
ــــــــــــــــــ
هوامش
* من كتاب ” قواعد قرآنية ، 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة “، أعدها الدكتور عمر بن عبد الله المقبل ،إصدارات مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية ، الطبعة الثالثة 2012، الرياض، المملكة العربية السعودية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18140