حقيقة الموت.. الإطراق الأخير !!

ذ محمد جناي
دراسات وبحوث
ذ محمد جناي26 فبراير 2022آخر تحديث : السبت 26 فبراير 2022 - 10:41 صباحًا
حقيقة الموت.. الإطراق الأخير !!

ذ. محمد جناي
من خلال تجاربنا اليومية نعلم جيدا أن إيماننا في قلوبنا يمر بحالات متفاوتة ، بل شديدة التفاوت ، فتارة نشعر بدفء الإيمان في قلوبنا يتصاعد ، فيرق القلب ويلين ويخف ويرفرف ، فتنيب النفوس وتذعن ،حتى نجد في نفوسنا اندفاعا لافتا للعمل الصالح ، ونفورا من المعصية، وتارات أخرى نشعر بالإيمان في نفوسنا يتبلد ، ويفتر ، حتى نجد من استثقال الطاعات والتكاسل عنها ما يشعرك أنك مكبل ، كأنك تمشي في قيود ، تستوعر الخطى.

وحين يتمعن المرء في حقيقة الموت، تسري به سلسلة التساؤلات إلى هذه المفارقة التي نعيشها يوميا ،أي التناقض بين العقيدة والسلوك، وحتى إذا كنا نؤمن فعلا بأن لحظة توديع الدنيا قريبة منا، وقد أخذت أعدادا ممن ساكنونا وآكلونا وناقشونا وزاملونا ودرسونا، فكيف يا ترى نغفل ونحن نرى أخبار الموتى لا تتوقف ، ولهذا فقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المفارقة بين قرب الأجل في مقابل استمرار الغفلة ، فقال تعالى:”اَ۪قْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِے غَفْلَةٖ مُّعْرِضُونَۖ”. (الأنبياء، الآية 1).

فأخبرنا كتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يسألون الله أن يرجعهم ، ويعاهدونه أن يعملوا الأعمال الصالحة التي أجلوها، ولكن بعد فوات الآوان ، فيقول الله تعالى في سورة المؤمنون :{حَتَّيٰٓ إِذَا جَآءَ احَدَهُمُ اُ۬لْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِ۪رْجِعُونِ (100) لَعَلِّيَ أَعْمَلُ صَٰلِحاٗ فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّآۖ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِنْ وَّرَآئِهِم بَرْزَخٌ اِلَيٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَۖ (101)}، فأمامنا اليوم فرصة للعمل الصالح قبل أن تأتي هذه الساعة القريبة المفاجئة التي لن تنفع فيها التحويلات بالعودة لزمان العمل.

وأخبرنا عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يسألون الله فسحة زمنية يسيرة ليتصدقوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن فات الآوان، يقول الله تعالى في سورة المنافقون :{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَّاتِيَ أَحَدَكُمُ اُ۬لْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِےٓ إِلَيٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ (10) وَلَنْ يُّوَ۬خِّرَ اَ۬للَّهُ نَفْساً اِذَا جَآءَ اجَلُهَاۖ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ (11)}.

وأخبرنا أيضا كتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يعلنون التوبة ويستغفرون الله، ولكن هل هذا هو وقت التوبة والاستغفار؟ يقول الله تعالى في سورة النساء :{اِنَّمَا اَ۬لتَّوْبَةُ عَلَي اَ۬للَّهِ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖۖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ اُ۬للَّهُ عَلَيْهِمْۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ عَلِيماً حَكِيماٗۖ (17) وَلَيْسَتِ اِ۬لتَّوْبَةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لسَّيِّـَٔاتِ حَتَّيٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اُ۬لْمَوْتُ قَالَ إِنِّے تُبْتُ اُ۬لَٰـنَ وَلَا اَ۬لذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌۖ ا۟وْلَٰٓئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗۖ (18)}، ومع أننا الآن في الساعات الأخيرة التي تسبق إغلاق باب التوبة، والتوبة إلى الله تحتاج قرارا فوريا عاجلا، قرارا لا يحتمل التأجيل ثانية واحدة ، قرارا يجب أن يدشن الآن، قبل أن تفوت الفرصة.

هذه المشاهد الثلاثة التي ذكرها القرآن عن أحوال المحتضرين، وأمنياتهم، من أشد المشاهد زلزلة لمشاعر المؤمن الموقن بلحظة الموت وقربها، وخصوصا إذا وضع نفسه في هذه المشاهد، فتخيل كيف لو كان هو نفسه يسأل.

والواقع المشاهد اليوم أن من أكثر ماينسج حول العيون حجابَ الغفلة هو “التنافس الاجتماعي “على الدنيا، فالمرء منذ أن يُستجر إلى دوامة المباهاة فإنه لا يكاد يفيق منها إلا على أعتاب القبر ، فالناس اليوم كأفراس رهان على المناصب ، والمساكن ، والسيارات ، والملابس ، لا يكاد أحدنا يلتقط أنفاسه من هذه المنافسات الاجتماعية على حطام الدنيا، وقد نبه القرآن على هذا المعنى الواسع بأوجز عبارة وأبلغ صياغة ، وهو قول ربنا في سورة التكاثر { اَلْه۪يٰكُمُ اُ۬لتَّكَاثُرُ (1) حَتَّيٰ زُرْتُمُ اُ۬لْمَقَابِرَۖ (2)}،حيث تنتهي حفلة التكاثر هذه ، عند أول ليلة في القبر ، وحينها يكتشف أحدنا أنه ضيع حياته المستقبلية الحقيقية .

وهذا التكاثر الذي تحدثت عنه سورة التكاثر جاء في آية أخرى في سورة الحديد {اِ۪عْلَمُوٓاْ أَنَّمَا اَ۬لْحَيَوٰةُ اُ۬لدُّنْي۪ا لَعِبٞ وَلَهْوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٞ فِے اِ۬لَامْوَٰلِ وَالَاوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ اَعْجَبَ اَ۬لْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَر۪يٰهُ مُصْفَرّاٗ ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماٗۖ وَفِے اِ۬لَاخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغْفِرَةٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرِضْوَٰنٞۖ وَمَا اَ۬لْحَيَوٰةُ اُ۬لدُّنْي۪آ إِلَّا مَتَٰعُ اُ۬لْغُرُورِۖ (19) }.

وإذا وفق الله الإنسان أن ينخلع من ملاحظة ما يكتسبه الخلق ، ويتزاحمون عليه، والتحرق على المنافسة فيه، من مناصب ومساكن ، وسيارات ، وعقارات ، وأرصدة، ونحوها، وأقبل على ما هو أعظم من ذلك، وهو صناعة المستقبل الأبدي، وعمارة النفس بالله ، فإنه سيكتشف للحياة معنى آخر ، معنى أسمى من الحطام الصغير المؤقت.

وانتشر بين الناس هذه الجملة المضللة وهي :(إن استحضار الموت واليوم الآخر يصرف الإنسان عن بناء الحضارة والنهضة ، فيجب أن نؤمن بالموت واليوم الآخر، ثم نحيده حتى نستطيع أن نبني الحضارة والنهضة بعيدا عن الضغط النفسي لفكرة الموت واليوم الآخر) ، والحقيقة أن هذا الفهم مغلوط كليا، ولا يقول هذا الكلام من قرأ كتاب الله وأيقن صدقا بمعانيه،فإن استحضار الموت واليوم الآخر هو الذي يدفع فعلا للعمل الصالح النافع المثمر طبقا لمراد الله.

فمثلا ، لما ذكر الله الصلاة ، وهي رأس العبادات ، ذكر أنه لا يطبقها إلا من يوقن بالموت ولقاء الله ، قال تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِۖ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ اِلَّا عَلَي اَ۬لْخَٰشِعِينَ (44) اَ۬لذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمُۥٓ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ (45)}، فانظر كيف كانت الصلاة هينة ميسرة لمن امتلأ قلبه باليقين بلقاء الله.

وترى أمثال هؤلاء االمفكرين التغريبيين، أو من أصابتهم بعض شُعب التغريب يتندرون بمن يكثر من ذكر الموت ، بل ويسميها بعضهم عقيدة انتظار الموت على سبيل الاستهانة والانتقاص ، بالرغم من أن انتظار الموت شعبة من شعب الإيمان في كتاب الله ، قال الله تعالى في سورة الأحزاب:{ مِّنَ اَ۬لْمُومِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اُ۬للَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَض۪يٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّنْ يَّنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاٗ (23)}.

واللافت في الأمر أن علماء الإلهيات يؤكدون أن القرآن أكثر من ذكر اليوم الآخر بما لا يوجد مثله في الكتب السماوية. ، كما يقول ابن تيمية :” وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله ، وصفة الجنة والنار ، والنعيم والعذاب ، ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل “، بل إن الله تمدح بتعظيم نفسه بإلقاء الوحي على الرسل لكي ينبهوا الناس على اليوم الآخر ، فجعل الله من أعظم وظائف الوحي ، تذكير الناس بقرب لحظة لقاء الله ، كما قال تعالى في سورة غافر :{رَفِيعُ اُ۬لدَّرَجَٰتِ ذُو اُ۬لْعَرْشِۖ يُلْقِے اِ۬لرُّوحَ مِنَ اَمْرِهِۦ عَلَيٰ مَنْ يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوْمَ اَ۬لتَّلَٰقِۦ (14)}.

والحقيقة أن استحضار الحقائق الكبرى كالموت ولقاء الله، وتمزيق ضباب الذهول الذي يلفها، يثمر للمرء تصحيحا هائلا في مسيرته العلمية والدعوية والاجتماعية ، ويغير جذريا من نظرته لكثير من الأمور، فيصبح يقرأ الأشياء على ضوء سؤال: هل تقرب من الله وتنفع في اليوم الآخر أم لا ؟

وختاما، وبرغم أن إنسان هذه الحقبة الزمنية من التاريخ غارق في لجج المدنية المعاصرة ومنتجاتها التقنية والاتصالية، إلا أنه مع ذلك فإن المؤمن تعتريه لحظات مفاجئة بين فينة وأخرى تنتشله من هذا المسلسل المتماسك، فيخرج من مدارات التفاصيل الصغيرة ، ويستعيد وعيه بالحقائق الكبرى،وهي لحظة الصدمة تقع دوما حيت يتذكر المؤمن لحظة لقاء الله ، وقرب هذه اللحظة ، وقد أشار القرآن إلى مفارقة مؤلمة ، وهي شدة قرب لقاء الله ، مع كون الإنسان يغفل كثيرا عن هذه الحقيقة ،لقاء الله قريب ولا زلنا غافلين ، كما قال الله تعالى في سورة الأنبياء :{اَ۪قْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِے غَفْلَةٖ مُّعْرِضُونَۖ (1)}.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.