28 أبريل 2025 / 10:14

حتى لا يُضيع المشترك: بين احتكار يقسّم، وتغييب يذيب

محمد الغيث ماء العينين
مدخل
تشكل الأفكار الكبرى، المرتبطة بالمشتركات الثقافية أو الهوياتية للمجتمعات، عناصر تماسك ومرجعية جماعية. فهي الإطار الذي تتعرف فيه الجماعة إلى ذاتها، والأفق الذي يحفظ لها معنى الانتماء إلى هوية مشتركة، وإلى مصلحة جماعية عميقة.
غير أن هذه الأفكار، لا تستطيع التعبير عن نفسها بذاتها، بل تحتاج لأفراد أو جماعات يتولون التعبير عنها، وهؤلاء يحملونها، بقصد أو بغير قصد، مضامين إضافية مستمدة من فهمهم الخاص، وخلفياتهم الثقافية أو السياسية، وأحيانًا من أهدافهم المعلنة أو الخفية.
آليات الاحتكار والتغييب
لا يحدث احتكار المشترك أو تغييبه فجأة، بل عبر آليات دقيقة تتراكم تدريجيًا. فالاحتكار يبدأ عادةً عبر استخدام لغة حصرية تجرّم المخالف وتجرّده من شرعية الانتماء، ويتعزز بتشويه صورة الآراء البديلة وربطها بالخيانة أو الجهل أو حتى بالكفر، مما يجعل الخروج عن التأويل المسيطر يبدو وكأنه خروج عن المشترك نفسه.
أما تغييب المشترك، فيتم غالبًا من خلال التركيز المفرط على الفردية المطلقة، وإضعاف الشعور بالانتماء الجماعي عبر تفكيك رموز الهوية المشتركة، والتقليل من شأنها، وتعمد ملء الفضاء العام برموز ثقافية أجنبية أو مناقضة لها، بما يخلق انزياحًا تدريجيًا عن المشترك الأصيل، لصالح نماذج هوياتية هجينة أو مفروضة من خارج السياق الاجتماعي الطبيعي.
مخاطر الاستغلال والفراغ
لكن الخطر لا يقف عند حدود احتكار التعبير عن المشترك. ففي مقابل هذا الاستغلال السياسي أو الفئوي، قد تنشأ نزعة مضادة تسعى إلى تحييد المشترك كليًا عن السجال العمومي، تحت شعار الحياد أو الإجماع المفترض. وبينما يُعدّ تحييد هذه الأفكار عن الاستخدام السياسي الانتخابي هدفًا لضمان استقلالها عن منطق التنافس الفئوي، فإن إقصاءها الكامل عن الحضور في المجال العمومي قد يؤدي إلى نتائج عكسية: عبر إضعاف وعي المجتمع بمشتركاته الحيوية، وفتح المجال أمام محاولات إعادة النظر فيها بعيدًا عن النقاش المجتمعي حولها أو إلى تغييبها في أفق استبدالها.
أمثلة معاصرة لانزياح المشترك
التجارب المعاصرة تقدم أمثلة ناطقة لهذا الانزياح المزدوج:
•في سياق الإسلام السياسي:
شهدت العديد من تيارات الإسلام السياسي تحولًا ملحوظًا من التركيز على خطاب الإصلاح الاجتماعي والسياسي إلى تبني خطاب حصري يعتبر تفسيرها للإسلام هو الإسلام الصحيح والوحيد.
وقد تجلى ذلك في تحميل أي نقد لمواقفها أو أيديولوجياتها دلالات دينية عميقة تصل إلى حد اعتبار المنتقد خارجًا عن دائرة الإيمان، كما حدث في تضييق الخناق على الأصوات الإصلاحية المستنيرة واتهامها بالزندقة أو الانحراف.
•في الحركات البيئية:
برزت اتجاهات راديكالية ترى في أي تحفظ على مقترحاتها أو أي نقاش حول أولوياتها خيانة حقيقية لكوكب الأرض ومستقبل الأجيال. وقد سعت بعض هذه الجماعات إلى فرض وصاية فكرية وحتى سياسية من خلال ترويج خطاب إنذاري متطرف، وتجاهل الحلول الوسط أو الآراء الأخرى القابلة للتطبيق، مما أدى أحيانًا إلى تهميش قضايا اجتماعية واقتصادية ملحة بنفس القدر.
•في الفضاء العلماني الغربي:
لوحظ أن بعض الخطابات الليبرالية المتطرفة تحولت إلى تصنيف أي رأي محافظ أو تقليدي كمصدر تهديد لقيم الديمقراطية والتسامح، تحت شعار “لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية”. وقد تجلى ذلك في حملات التشهير والإقصاء التي تستهدف شخصيات عامة أو مفكرين يعبرون عن آراء مخالفة، مما يضيق مساحة الحوار والتعبير عن التنوع الفكري.
معركة الوعي والحلول الممكنة
حماية المشترك تبدأ بمعركة وعي طويلة النفس، لا تكسب بالاستقطاب ولا بالشعارات، بل بتثبيت المشترك كأفق مفتوح في الحياة العامة. وتحتاج هذه المعركة إلى بناء ثقافة تحترم التعددية ضمن الإطار الجامع، وإلى تعزيز آليات النقد الداخلي للمجموعات التي تدعي تمثيل المشترك.
يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في هذه المهمة عبر تشجيع النقاش العمومي المنفتح والبنّاء، ودعم المبادرات التي تعزز التفاهم والحوار بين مختلف الأطراف. كما تتحمل المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية مسؤولية غرس الوعي بأن المشترك لا يحيا إلا بالتداول الحر عليه، لا بتحنيطه ولا بتغيبه، وذلك من خلال تقديم محتوى متوازن يعكس تنوع الآراء ويشجع على التفكير النقدي.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لوسائل الإعلام المسؤولة أن تلعب دورًا هامًا في تقديم وجهات نظر متنوعة وتسليط الضوء على مخاطر خطاب الكراهية والإقصاء. فالمعركة ليست فقط مع من يحتكر أو يغيب، بل مع قابلية المجتمع نفسه للانجرار وراء خطاب الاستبعاد أو اللامبالاة.
أفق مستقبلي وأسئلة مفتوحة
مع تسارع التحولات التكنولوجية والاجتماعية، يبدو أن معركة حماية المشترك ستزداد تعقيدًا.
فوسائل التواصل الاجتماعي، بقدر ما تتيح فرصًا للنقاش المفتوح، تسهم أيضًا في بناء فقاعات فكرية معزولة، تعيد إنتاج الاحتكار والإقصاء بطريقة جديدة وناعمة، من خلال خوارزميات تعمل على تضخيم الآراء المتوافقة وتقليل التعرض للآراء المختلفة.
كيف يمكن إذًا استثمار هذه الأدوات لتعزيز المشترك بدل تفتيته؟ وكيف نحمي المشترك من ذوبان صامت تحت وطأة الفردنة المفرطة والعولمة الثقافية الجارفة التي قد تؤدي إلى تهميش الهويات المحلية والقيم الأصيلة؟
إن هذه الأسئلة تظل مفتوحة، ودعوة صريحة إلى كل من يهتم بمصير القيم الجماعية، ليكون جزءًا من حوار متجدد حول كيفيات حماية المشترك، لا بوصفه إرثًا جامدًا، بل بوصفه فضاءً حيًا للتلاقي الإنساني الأصيل.