تحليل الحمض النووي بين الإنصاف الإنساني والتجديد الفقهي: نظرة علمية، شرعية وجنسية

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريسمنذ ساعتينآخر تحديث : الأحد 19 يناير 2025 - 8:34 مساءً
تحليل الحمض النووي بين الإنصاف الإنساني والتجديد الفقهي: نظرة علمية، شرعية وجنسية

كريمة العزيز
تزداد التحديات التي تواجه المرأة في قضايا إثبات النسب، خاصة في الحالات الناتجة عن ظروف قاهرة كحالات الاغتصاب أو زنا المحارم، أو حتى العلاقات خارج إطار الزواج. ومع التقدم العلمي الهائل الذي وفره تحليل الحمض النووي (DNA)، أصبح من الممكن إثبات النسب بدقة تصل إلى اليقين.

بالرغم من ذلك، لا يزال بعض الفقهاء والمشايخ في منطقتنا يرفضون اعتماد هذه الوسيلة العلمية بحجج تقليدية تغلق باب الاجتهاد وتهمش حقوق الضحايا.

هل يعكس هذا الرفض روح العدل التي أمر بها الإسلام؟ وهل يتماشى مع القيم القرآنية التي تدعو إلى الإنصاف وإحقاق الحقوق؟ وهل يتناسب مع تطور العلم الذي جعله الله وسيلة لتيسير حياة البشر وتحقيق العدل؟ كما ورد في قوله تعالى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر: 9)، مما يلزمنا شرعا باستثمار العلم لخدمة القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

إن تحليل الحمض النووي (DNA) يعد إنجازا علميا يعزز هذه العدالة الاجتماعية، خاصة للنساء اللواتي يجدن أنفسهن في مواجهة وصمة اجتماعية وقانونية ترفض الاعتراف بحقوقهن وحقوق أطفالهن، سواء في حالة الاعتداء الجنسي باختلاف أنواعه أو في حالات أخرى مثل الحمل الناتج عن الخيانة الزوجية (رجل متزوج في علاقة نزوة مع امرأة أخرى).

تتحمل المرأة مسؤولية جرم لم ترتكبه أو لم ترتكبه وحدها، ويتحمل الطفل معاناة نفسية ترافقه طيلة حياته، مع العلم أن الله قال في كتابه: “ولا تزر وازرة وزر أخرى” (فاطر: 18) فما ذنب الطفل إذن؟

إن رفض إثبات النسب في هذه الحالات ينتج أزمات هوية للأطفال ويترك آثارا نفسية مدمرة على الأمهات، مما يؤدي إلى تفاقم المعاناة على المستويين الشخصي والمجتمعي.

وكأخصائية في علم الجنس، يمكنني التأكيد أن هذه الحالات لا تؤثر فقط على الوضع الاجتماعي للأم والطفل، بل تمتد إلى الجانب الجنسي والنفسي للمرأة. الاغتصاب أو زنا المحارم قد يخلف اضطرابات جنسية طويلة الأمد مثل فقدان الرغبة أو الشعور بالنفور نتيجة للصدمات النفسية المتكررة ولوم المجتمع. كما يمكنها أن تنعكس على الحياة الجنسية المستقبلية للطفل أو الطفلة بفعل مخلفات سيكولوجية عميقة تظهر عند مزاولتهم الحياة الجنسية. فإنكار النسب يدمر إحساس الطفل بقيمته الإنسانية والنفسية والجنسية، مما يجعله عرضة لمشكلات تشمل القلق والاكتئاب، ويزيد من احتمالية أن يصبح ضحية للتهميش الاجتماعي.

إن تحقيق العدل من خلال العلم ضرورة حتمية، حيث يقول الله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (النحل: 90). رفض استخدام تحليل الحمض النووي يتناقض مع هذه القيم الجوهرية، خاصة عندما يكون العلم وسيلة واضحة لتحقيق الحق وإقرار العدل الإنساني.

إن وصف أبناء العلاقات غير الشرعية بـ”أبناء الزنا” يجب أن يُفهم في سياقه الأخلاقي، أي في سياق ردع السلوك الغير الأخلاقي، وليس لمعاقبة الأبرياء أو حرمانهم من حقوقهم الشرعية. كما ورد في قوله تعالى: “وما جعل عليكم في الدين من حرج” (الحج: 78)، مما يؤكد على ضرورة الاجتهاد في الأحكام بما يخفف الضرر ويحقق المصلحة العامة، وخاصة الإنصاف والعدل.

إن رفض الفقهاء والمشايخ لإدراج تحليل الحمض النووي ضمن التعديلات في مدونة الأسرة يعكس جمودا فقهيا لا يتماشى مع طبيعة الإسلام التي تدعو إلى الاجتهاد والتجديد بما يواكب تغيرات الزمان والمكان. إذا كان العلم وسيلة لإثبات الحق ودفع الظلم، فكيف يمكن تبرير تعطيله بحجة الالتزام بتفاسير كانت تناسب مجتمعات لم تكن تمتلك الخبرة الجينية آنذاك؟

القرآن صالح لكل زمان ومكان، ويشجع على استغلال ما يتاح للبشر من علم لتحقيق الخير والعدل. كما ورد في قوله تعالى: “وقل رب زدني علما” (طه: 114)، مما يضع العلم في خدمة مقاصد الشريعة.

الإسلام دين العقل والعلم، ورفض الحقائق العلمية يعيدنا إلى عصور الجهل! علينا أن ندرك أن استثمار العلم في خدمة العدالة هو جوهر مقاصد الشريعة.
ــــــــــــــــ
رابط صفحة الكاتبة على فيسبوك

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.