بين التطرف والتقصير: حين تحترق الأرواح في نار الغلو

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس22 يناير 2025آخر تحديث : الأربعاء 22 يناير 2025 - 11:24 مساءً
بين التطرف والتقصير: حين تحترق الأرواح في نار الغلو
محمد عسيلة*
ها نحن مرة أخرى نواجه الوجه القاتم للتطرف، نار لا تعرف التمييز بين ضحية وجاني، ولا بين من يعاني مرضًا نفسيًا ومن يُستغل ليكون وقودًا لصراعات لا مبرر لها. أرواح بريئة تُقتلع من الحياة، وأخرى تُستدرج نحو مصير مأسوي عبر أفكار مسمومة تخلط بين البطولة والغلو. عندما نغض الطرف عن انتشار هذه الأفكار دون معالجة جذرية، نصبح جميعًا شركاء في دائرة لا تنتهي من العنف والخسارة.
ليس القتل بطولة، وليس الموت انتصارًا، لكنه تحول إلى أداة مشوهة في أيدي من يبررون العنف ويمجدونه. ما حدث في ألمانيا مع مقتل صبي بريء وما حدث في تل أبيب على يد شاب مغربي هما صورتان لنفس المأساة، مأساة العنف الذي لا يعرف حدودًا، وتقصير المجتمع في حماية أفراده من الوقوع فريسة لهذه الدوامة. لا يمكننا تبرير أي فعل ينهي حياة الأبرياء، ولا يمكننا أن نسكت عندما يتحول القتل إلى وسيلة للإشادة أو الاحتفاء.
الشاب المغربي الذي أنهى حياة الأبرياء في تل أبيب لم يكن بطلًا، بل كان ضحية لغياب بيئة فكرية ونفسية سليمة، ضحية لاستغلال ممنهج لعواطف الشباب الذي يُترك أحيانًا بين براثن أفكار متطرفة تسلبه القدرة على التمييز بين النضال المشروع والعنف الأعمى. من يتحمل المسؤولية عن ترك هؤلاء الشباب عرضة لتأثيرات فكرية تسقطهم في براثن التطرف؟ أين هي الجهات التي يفترض أن تتدخل مبكرًا لمنع هذه التحولات المأساوية؟
إن تمجيد هذا النوع من الأفعال تحت أي مبرر يُعد خيانة للقيم الإنسانية وللقضايا العادلة نفسها. مقاومة الاحتلال قضية مشروعة، لكنها تفقد عدالتها عندما تُنفذ بأساليب تسيء إلى جوهرها الإنساني. العالم اليوم بحاجة إلى مقاومة قائمة على البناء والإبداع، لا على التدمير والقتل. تمجيد الموت وتحويله إلى وسيلة للبطولة لا يخدم سوى أجندات من يسعون لإدامة الصراعات وتغذية الكراهية.
وفي ألمانيا، لم يكن الصبي الذي قُتل سوى ضحية لوجه آخر من أوجه التطرف. ليس التطرف العقائدي وحده ما يقتل، بل إن الغلو بجميع أشكاله، بما في ذلك الغضب غير المنضبط والاضطرابات النفسية التي تُترك دون علاج، يمكن أن يؤدي إلى نهايات مأساوية. هذه الأحداث تكشف أننا بحاجة إلى أنظمة متكاملة للتعامل مع الأزمات الفكرية والنفسية التي تنشأ في مجتمعاتنا، بدلًا من ترك الأفراد يتعاملون معها وحدهم حتى تتحول إلى مأساة.
نحن بحاجة إلى وقفة حقيقية مع أنفسنا. لا يكفي أن ندين هذه الأفعال بعد وقوعها. علينا أن نعمل على بناء مجتمعات تحتضن الشباب، توفر لهم الحماية النفسية والفكرية، وتمنحهم بدائل حقيقية للاندماج الإيجابي. لا يمكننا أن نترك المساحات مفتوحة أمام الخطابات التي تروج للعنف أو تبرره، سواء كان ذلك في الشرق الأوسط أو أوروبا او أفريقيا او أمريكا  أو أي مكان آخر.
علينا أن نتوقف عن تمجيد الموت وأن نبدأ في تقديس الحياة. الحياة هي القيمة التي يجب أن ندافع عنها، وهي الأرضية التي نبني عليها مستقبلنا. دماء الأبرياء، سواء في تل أبيب أو ألمانيا أو أي مكان آخر، هي تذكير مؤلم بأننا جميعًا بحاجة إلى تغيير جذري في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع هذه القضايا.
الحل لا يكمن في المزيد من العنف، كيفما كان ومن أي جهة صدر، بل في المزيد من الإنسانية. المستقبل لن يبنيه أولئك الذين يقتلون، بل الذين يزرعون بذور الأمل والسلام.
واجبنا أن نحمي الأحياء من الوقوع في هذه الدوامة المبنية على القتل و إزهاق روح الأبرياء الذين قد تكون أنت او أنا من يحملها في جوفه أو أحد من معارفنا او اصدقائنا او من نقتسم معهم الأخوة الإنسانية، ونمنحهم – هؤلاء الأحياء-  الفرصة ليكونوا جزءًا من الحل بدلًا من أن يصبحوا ضحايا للمشكلة. المجتمع الذي لا يحمي شبابه ولا يمنحهم خيارات إيجابية هو مجتمع يدفع بهم نحو الهاوية. المستقبل يحتاج إلى أحياء يعملون ويبدعون، لا إلى أموات يُبكون.
في ختام هذا الحديث المؤلم عن التطرف والعنف، لا بد أن نتوقف لطرح أسئلة جوهرية تتجاوز العاطفة لتغوص في عمق المشكلة، علّها تقودنا إلى الحلول:
• كيف يمكننا بناء منظومة تربوية وتعليمية تزرع في الشباب قيم التسامح واحترام الحياة وتحصنهم ضد أفكار التطرف؟
• ما هي الأدوات العلمية التي يجب أن نوفرها لتحليل ومعالجة الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع الأفراد نحو العنف؟
• هل نحن بحاجة إلى إعادة صياغة خطابنا الإعلامي والديني والاجتماعي، بحيث يكون أكثر وعيًا بمخاطر تمجيد الموت ويدعو إلى بناء حياة قائمة على الكرامة والعدالة؟
• كيف يمكن للمجتمعات أن توازن بين احترام حرية الفكر وحماية أفرادها من الانزلاق في دوامة الغلو؟
• وأخيرًا، ما هي مسؤولية الحكومات والمؤسسات البحثية في تطوير برامج علمية شاملة لمعالجة التطرف من جذوره؟
هذه الأسئلة ليست مجرد تأملات، بل هي دعوة لكل صاحب ضمير حي وعقل واعٍ أن يبدأ في البحث عن حلول قائمة على العلم والعمل الجماعي. لأن المستقبل لا يمكن أن يُبنى على الصمت أو التجاهل، بل على الفهم والإرادة الحقيقية للتغيير.
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ـــــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.