محمد زاوي
المنطق الأرسطي منطق صوري شكلي، ينتج التصورات والتصديقات على أساس من معرفة ما. إذا كانت المعرفة ما قبل تجريبية، فإن المقدمات تصاغ على أساسها، كما يُتوصل إلى نتائج من جنسها. وإذا كانت تجريبية، أو جدلية بعد ذلك، أو جدلية تجريبية في مرحلة متقدمة؛ قلتُ: إذا كانت المعرفة كذلك، فإن بنية المنطق الأرسطي تتأثر بها، أو لعلها لن تستوعبها.
المنطق الصوري ثابت، يشتغل على الثوابت، لا على الأشياء في حركتها؛ جزئي، يشتغل على الجزء معزولا، لا على الجزء في كله وفي ترابطه بباقي الأجزاء؛ يستبعد التناقض، لا يرى وحدة المتناقضات في كل متجانس منسجم. إنه لا جدلي، لا يستوعب الظواهر في تغيرها وترابطها وتناقضها.
قد يستوعب المنطق الأرسطي الظواهر في جوهرها الأولي، في حدود العقل ما قبل التجريبي، وإلا فالمنطق التجريبي كفيل بتعديل كثير من التصورات والتصديقات الخاصة بتلك الظواهر. يزيدها عمقا ووضوحا، ويمنحها كشفا جديدا. ماذا بقي إذن؟ الغيب وظواهره. اشتغل فيهما المنطق الأرسطي، حتى كاد يدعي محض العقل فيهما. من يتتبع مقدمات ونتائج أصحاب هذه الصنعة سيجد أنها تبني على أصل، ذلك ما نسميه أصل الأصول. وهذا الأصل لا سبيل إليه إلا:
– سبيل النص، حيث الوجود ثابت، وحيث التفسير هو عين القراءة لا كيف ولا معنى (كما يقول البربهاري).
– سبيل العجز، فيتحقق التيه ويكتفي التائه ب”العماد”، “يلبس الخرقة ويدفن رأسه في التراب حتى يلقى الله”.
وإذا كان البعض يقبل بمنطق أرسطو -وهو غربي المصدر- منهجا للنظر، فما الداعي إلى رفض التجريبي والجدلي منه بحجة أنهما غربيان؟! فما الفرق بين انفتاح وانفتاح إذا كانت الوجهة واحدة، ثقافة غربية، وسيطة أو حديثة؟! أليس الانفتاح تقليدا واقتداء في هذه المسألة؟ ألا يجدر بنا الاقتداء بمسلمي القرون الوسطى؟ فننفتح نحن -مسلمو العصر الحديث- على فرانسيس بيكون وفريدريك هيجل، كما انفتحوا هم على منطق اليونان؟!
كثيرون يعمِلون النظر الأرسطي اليوم، يعتبرون اجتهادات ابن تيمية في نقده منقصة.. وهؤلاء لا يدركون أن الرجل اكتشف صوريته منذ زمن، وانتبه إلى أنه لا ينتج معرفة غيبية من محضه، وإنما على أساس من نص وحياني أو تأمل عرفاني.
هذا وإن الفقهاء أقرب إلى كشف صورية المنطق الشكلي، وهم الأقرب إلى تبني مقاربة تجريبية جدلية، مقارنة بباقي التخصصات الإسلامية. وذلك من نظرهم في جدل النوازل الفقهية، وما تفرضه من اعتبار لمنطق الواقع (المادي الجدلي).
هناك فرق بين تجاوز وإلغاء، الأول أشمل من الثاني، مركب من الإلغاء والإبقاء. وليس كل المنطق الأرسطي معيبا.. بل رتّب العقل وما زال، وساعد على معرفة بعينها في زمن بعينه، وأغنى النظر الستاتيكي الأولي، وطور آليات النظر العقلي..
وكما كان ضروريا لفترة تاريخية سابقة، قد يكون كذلك لمرحلة عمرية بعينها! وإن المنطقين التجريبي والجدلي لا يلغيانه بل يغنيان أدواته في معرفة التصور والتصديق. ينفخان فيه من روح الحياة المادية الجدلية، ويخرجان تصوراته وتصديقاته من حيز “الستاتيك” إلى حيز “الديناميك”، ومن حيز “الوحدة الأحادية” إلى حيز “وحدة التناقض”، ومن حيز “المثال” إلى حيز “التجربة”..