الأستاذ حسن حلحول محام بهيئة الرباط
نسعى من هذه القراءة إلى محاولة رسم معالم جديدة ورؤيا حداثية، حول الاختلاف والتماثل بين العقل العملي للمحاماة في المشرق، وبين العقل المهني للمحاماة في المغرب، استنادا على العناصر المكونة لكل عقل والتي من خلالها نستنبط الأسس المعرفية لكل جانب والجذور التاريخية التي تسوقنا إلى الاستيعاب خصوصيات كل عقل.
إن وحدة الوجود للمحاماة في العالم، ووحدة المبادئ والقضايا الإنسانية التي يتخذها العقل العملي والمهني للمحاماة للدفاع عنها، تجعلنا نطرح عدة أسئلة معرفية لاستجلاء كنه وجوهر الرسالة الإنسانية والنبيلة التي تقوم عليها المحاماة، وهذه الأسئلة يمكن سرد بعضها في ما يلي: هل العقل المهني للمحاماة بالمغرب هو نفسه في المشرق العربي؟ هل ثمة اختلاف بين العقل العملي للمحاماة في المغرب والمشرق العربيين؟ وهل الاختلاف بين العقلين في الكليات أم في الجزئيات ؟ وهل الاختلاف يرجع الى البنية الثقافية لكليهما؟ وهل المرجعية الاستعمارية لها دور في اختلاف بينهما؟
قطعا ان العقل المغاربي يختلف عن العقل المشرقية عامة، وأن الفكر النظري في المغرب يختلف عن الفكر النظر في المشرق، لأن المكونات المجتمعية التي تتداخل لتكوين العقل المهني للمحاماة من اجل صناعة الفكر والثقافة القانونية في القطرين تختلف، فإذا كان المؤثر الأساسي والمحوري في العقلين هو الثقافية الإسلامية، فإن الفكر النظري الإسلامي في المغرب يختلف عنه في المشرق، وأن المصادر القانون في المغرب تختلف عن المصادر القانون في المشرق وان ابستمولوجية القانون في كلا القطرين ليس هو امتداد لبعضها البعض وان كان ظاهريا يوحى أن هناك امتدادا.
تاريخ المحاماة نشأة وتطور
إن تدوين تاريخ المحاماة بمفهومه الحديث، لم يثبت تدوينه ولم يتم تداول هذا المصطح في كتب التاريخ كمهنة منظمة ومستقلة، بيد أنه تم تداوله بأسماء اخرى لا تماثل اسم المحاماة. لقد سبق أن عرفت الإنسانية المحاماة قبل الميلاد عند قدماء المصريين 2778 ق م. وعند السوماريين في عهد حمورابي 1750 ق م حيث كان يختص اهل الخبرة في إسداء المشورة للمحامين.
تعتبر الحضارة اليونانية اول حضارة عرفت المحاماة ولم يكن يطلق عليها المحاماة بمفهوم الدلالي للمحاماة، فقد كان يمارسها أشخاص لهم من المصداقية والحكمة والورع عند عامة الناس، ولم يكن يمارسها إلا نبلاء القوم واشرافها، والدليل على ذلك هو أنها كانت تمارس في مكان محترم لدى الناس ومقدس، وهذا المكان يخلق الهيبة عندهم، وفي نفس الوقت يخلق الوقار والهيبة للمحامين، فكان يرش المكان بالماء حيث يجتمع المحامون فيه قبل عرض النزاع والخوض فيه، وتطهير المكان بالماء دليل على أن أقوال المحامين تحظى بالقدسية لأنه كان في اعتقادهم لا ينطق إلا بالقول الطاهر فكاد المحامون أن يكونوا في مرتبة القديس.
ولقد عرفت المحاماة في الحضارة الرومانية، مكانة مرموقة، لما حظيت به من الاهتمام الكبير من قبل ملكها أفطيموس الذي جعلها في مرتبة الجيش الروماني وما أدراك ما الجيش الروماني ولا تقل عنه حظوه وجاها وسلطة.
ولقد عرف العرب في الجاهلية المحاماة، وكانوا يطلقون على منتسبين إليها ” حجاجا” وكان يقال الحجاجين وضعت لساني في فمك والحجج عني نسبة الى ما يتمتع به من قوة حجاج وقوة إقناع وكان يمارسها البلاغيين والفصحاء ممن يتقنون الفصل الخطاب والشعراء الكبار مقابل مال يأخذه ممن وكله للحجاج عنه.
ولقد عرفت المحاماة في الإسلام تطورا كبيرا، لوجود مجالس القضاء منظمة، فكان من اللازم أن تكون المحاماة محايثة له، فظهرت في العهد العباسيين بالخصوص ما كان يسمى الوكيل في الخصومة، وحتى نلم بهذا المصطلح يقتضي بنا التعريف به، لأن التعريف بالشيء فرع من تصوره، ولقد عرف الإمام الغزالي في مؤلفه “إحياء علوم الدين ” الوكالة بالخصومة (لجاج في الكلام ليستوفي به مال أو حصة مقصود وذلك تارة يكون إبتداء وتارة يكون اعتراضا”.
ولقد جاء في كتاب” من وحي القضاء في الإسلام ” للأستاذ رشيد مشقاقة” أنه ظهور فئة من وكلاء الدعاوى لها باع في مجال التقاضي .. لهم فضل كبير في إحقاق الحق ونصرته”. وعرف نظام الوكيل في الخصومة تطورا كبيرا في عهد الخلافة العثمانية، وأقرت بالوكيل في الدفاع أمام القضاء، وكانت تشترط ان يكون له تكوين قانوني خاص ، وان يكون خريج من جامعة آستانة التي أسست سنة 1846م ويكون بذلك الوكيل كمهنة ليس مفتوحة لمن يشاء من الناس بل أصبح يزاولها الخاصة من فئة المجتمع.
الاختلاف العقلي في البدء أسجل ملاحظة جوهرية أساسية، وهي أن هذه القراءة مناطها تشريح وتحقيق في العقل المهني للمحاماة في المشرق والمغرب وابانة الجوانب الثقافية المؤثرة فيه، ولا تتوخى التفضيل جهة عن الاخرى، فكل الناس بما تؤمن فرحون.
إن طبيعة تكوين بنية العقل المهني للمحاماة المغربي ، يختلف عن تكوين بنية العقل المهني للمحاماة المشرقي، باعتبار أن المغاربيين ينتمون إلى المدرسة الفرانكفونية، وأما المشارقة فهم ينتمون إلى المدرسة الانكلوسكسونية فهناك اختلاف كبير بينهما. فإذا كانت المدرستان تتفقان في الكليات التي تخص مهنة المحاماة في العالم وهي المبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي المبادئ الكونية الموجودة في القانون الجنائي الدولي، كالدفاع عن الحق ورد الظلم كيفما كان مصدره ونوعه، وحق كل إنسان كيفما كانت لغته ودينه وجنسه في المحام لتقديم العمل الإنساني الرائع، الذي تفرضه نبل المهنة وسمو المهام المحاماة تجاه الانسانية. إن الدفاع عن هذه المبادئ المثالية تسموا بالمحامين إلى المراتب العليا من بين البشر،( فكاد أن يكون المحامي رسولا بهذه الأخلاق المتعالية والخدمات المثالية، وهذا الإفراط في حب الإنسانية ، وبالجملة فان هذه الكليات يتفق المحامون حولها في العالم.
بيد أن هناك اختلافا جذريا بين العقل المشرقي والمغربي للمحامين في الجزئيات التي تتحكم فيها عوامل بنيوية ويمكن تقسيمها إلى قسمين عوامل رئيسية وعوامل ثانوية .
١) العوامل الرئيسة: وهي التي ترجع إلى” الثورة الثقافية والسياسية”التي عاشها المغرب إبان الحكم الدولة الموحدية التي أعلن عنها مؤسسها محمد بن تومرت، والذي يعد من الأوائل من استطاع،ان يجعل الخطاب الديني بالمغرب يغلب عليه الطابع العقلاني التنويري، في تناول مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خلافا لما كان عليه سائدا في المشرق ، كمبدأ أساسي للقضاء على الفساد والاستبداد في عهد المرابطين.
مما جعل المدرسة المغربية مستقلة عن المشرقية، ففي هذا الإطار المتعلق بالعقل المغاربي، لا يمكن إغفال عامل أخر من العوامل المباشرة والأساسية، في تكون العقل المغاربي العقلاني وهي فلسفة ابن رشد، الذي تبنتها الجامعات الأوروبية في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة الاوروبية، فكانت فلسفته نقطة انطلاق أوروبا لتأسيس العقلانية الحديثة التي أضحت تميزها عن غيرها، وما هو اكيد ولا يمكن لأحد أن ينكر تأثير فكر ابن رشد على المجتمع المغربي الذي عاش صراعا فكريا وحراكا ثقافيا بين الفلاسفة والإخباريين لا مثيل له، فهذا النوع من التفكير بقي له امتداد داخل جميع المكونات المجتمع المغربي إلى الآن، ومن المكونات أكثرا تأثرا بعقلانية ابن رشد وتنويره عقل المحاماة المغاربي، والذي نشاهده يختلف عن عقل المحاماة المشرقي، في عدة قضايا مجتمعية، التي يتبناها للدفاع عنها.
ولقد استطاع المحامون المغاربيون بفضل العقل التنويري، ان يفصلوا بين المحاماة والدين أي بين الممارسة المهنية والأمور المتعلقة بالدين، وهذا الفصل في الحياة العملية للعقل المهني للمحاماة المغاربي أساسه المنهج والفكر النظري المغربي، وحتى يتأتى للمهنة الحفاظ على استقلاليتها وهويتها الخاصة، ورسم الحدود بينها والدين وعندما نقول بذلك، يعني ان ثمة اشكاليتين مختلفتين وهي ان مجال ممارسة المهنة وأدوات المستعملة في توظيف النظر العقلي المهني من معالمه الحياد ولا يكون له أي ارتباط مع كل ما هو ديني، وإن كان لا تمس الفكر الديني فإنه يلزم تعيين مجال كل منهما.
اما العقل المهني للمحاماة في المشرق فإنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالفكر الديني بل إنه مسيطر ومهيمن عليه، لأنه يعمل على دمج وربط الفكر الديني بالمحاماة ولا يقوم على الفصل بينهما، ولعل من بين أكثر القضايا ما يلفت النظر عند العقل المهني للمحاماة في المشرق هو أن المحاماة تتداخل مع الدين وتتصل اتصال به إلى حد التوجيه، ويترتب عن ذلك بالضرورة التخلي عن كل ما هو عقلاني، ونسوق لكم أمثلة على ذلك، وهي التدخل العقل المهني للمحاماة في المشرق من تلقاء نفسه في كثير من القضايا مجتمعية – تنفيذا لنظرية الحسبة- دون أن يكلف من أحد في مجتمعهم لتحريك عدة دعاوى ورفع عدة شكايات تسجل في المحاكم ضد أي فكر متنور أو إبداع عقلاني، ولقد رفع المحامون دعوى تطليق زوجة الكاتب والباحث نصر حامد أبوزيد عنوة بعد تكفيره (صاحب كتاب نقد الخطاب الديني)، دون أن يكلفهم احد بذلك ، كما رفعوا شكاية ضد الفنان عادل امام على فلمه الإرهاب والكباب، كما رفعت شكاية ضد طه حسين عندما ألف مؤلفه في الشعر الجاهلي ، وسلمان رشدي ، وسلامة موسى وغيرهم.
2) العوامل الثانوية: إن العوامل الثانوية لا تقل أهمية في تكوين العقل المحاماة،إذ تعتبر رافدا من روافد الأساسية لها علاقة مباشرة بالجانب الجغرافي والانتروبولوجي، فالشعب المغاربي أمازيغي له خصوصياته دائما لم يكن مرتبط ارتباطا وثيقا بالدين، فالعقل المغاربي دائما يعيش في اختيار معتقداته استنادا على الجانب العقلي ، ومن جهة أخرى نجد المغرب مرتبط بأوروبا جغرافيا وثقافيا أكثر من المشرق، فقد تعاقب عليه الرومان والبيزنطيين وغيرهم فكان لهذا التلاقح تأثير كبير، وبالجملة أن هذه العوامل بالتأكيد جد مؤثرة في تكوين العقل المحاماة لأنه جزء من التفكير الجمعي للمجتمع.
أما المشرق باعتباره مهد الديانات السماوية التوحيدية، فان العقل المشرقي موغل في تاريخ الديانات، متأثر بشكل كبير بالفكر الديني مهما حاول الظهور بمظاهر العقلانية، وبالتالي فأن سلوك وممارسة العقل المحاماة بالمشرق، لا يمكن أن يخرج عن هذه المؤثرات المباشرة التي باتت مركبة في جيناتهم، وتأثير الدين على العقل المشرقي، يبقى هو الغالب وله أولوية كيفما ادعى أنه تحرر من هذا التراث العريق، فلن يستطيع ذلك، ويبقى العقل المهني للمحاماة المشرقي ، جزء من التفكير الجمعي للمجتمع المشرقي.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13152