ذ. محمد جناي
يعد “التسامح” من أعظم القيم التي نادى بها الإسلام، ومن أهم الدعائم التي بني عليها وساعدت في انتشاره ،فالتسامح الذي هو الصفح والعفو والإحسان ، والذي يقابله التعنت والتعصب والتطرف والغلو ، ” نظرة إنسانية ” لا يمتلكها إلا الإسلام، حيث يقبل المسلمون بينهم وجود أديان مغايرة لدينهم، ويرفضون إكراه أحد على ترك دينه، ويرضون أن يتألف المجتمع من مسلمين وغير مسلمين، ويشرعون نظما عادلة لتطبق عليهم وعلى من في ذمتهم من مسيحيين أو يهود.
وإذا نظرنا ودققنا النظر في سماحة الإسلام في شخص نبينا الكريم لوجدْناها تتجلى في أحسن صورها حينما فتح مكة، فقال لأهلها الذين آذوه أشد الإيذاء: “ما تظنون أني فاعل بكم؟”، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال لهم: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فالإسلام حقيقة يمد يده لمصافحة أتباع الأديان الأخرى لتحقيق التعاون على إقامة العدل ، ونشر الأمن، وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك، وهو لم يقم على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم -لأن حرية الاعتقاد مصانة-أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم والآية الكريمة صريحة واضحة في هذا الشأن وهي قوله تعالى :” لَّا يَنْه۪يٰكُمُ اُ۬للَّهُ عَنِ اِ۬لذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِے اِ۬لدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيٰ۪رِكُمُۥٓ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوٓاْ إِلَيْهِمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُقْسِطِينَۖ (8) إِنَّمَا يَنْه۪يٰكُمُ اُ۬للَّهُ عَنِ اِ۬لذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِے اِ۬لدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيٰ۪رِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَيٰٓ إِخْرَاجِكُمُۥٓ أَن تَوَلَّوْهُمْۖ وَمَنْ يَّتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ (9)[الممتحنة].
والمسيحية التي أنزلها الله على نبيه عيسى عليه السلام ، ليست هي التي شرعت للنصارى في العصور الأولى والوسطى تعاليم همجية متعطشة إلى سفك الدماء، وإهلاك الناس، وهي لم تكن لتنتشر لولا سلطة قسطنطين الذي أراد أن يكون سيدها، فاستغل الخلافات الداخلية للكنيسة، وأصدر مرسوم ميلانو سنة 313 م ، الذي اعترف بموجبه بالمسيحية ، ومن ثم أخضع الأمم المغلوبة على أمرها للقانون المسيحي ولهذا يقول القس فرانزغريس: “إن تاريخ الأمم النصرانية ، وأكثر من هذا ، تاريخ الكنيسة بالذات، مضرج بالدماء وملطخ، ولربما أكثر تضرجا ووحشية من أي شعب وثني آخر من العالم القديم ، إن أمما ذوات حضارات زاهية باهرة قد أزيلت وأبيدت ومحيت ببساطة وسهولة من عالم الوجود ، وكل ذلك باسم الدين النصراني”.
و هذا ما وقع في الأندلس مباشرة بعد سقوط غرناطة وكانت مرحلة مؤلمة لشعب مسلم مغلوب، وعدو خائن نقض شروط المعاهدة التي وقعت في 25 نونبر 1491 م ، بين “أبي عبد الله الصغير” و”فرديناند”، والتي اشترط المسلمون أن يوافق البابا على الالتزام والوفاء بالشروط و لكن بعد تسليم غرناطة مباشرة ، نقض الإسبان شروط المعاهدة بندا بندا، حيث لم يتردد المؤرخ الغربي (بروسكوت Prescott) أن يصفها بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسباني فيما تلا من العصور .
حيث تشكلت في إسبانية و بمرسوم بابوي مايطلق عليها ب “محاكم التفتيش” والتي هدفت إلى تنصير المسلمين وبإشراف من السلطات الكنسية، وبأشد وسائل العنف، ولما قاوم المسلمون التنصير وأبوه، عدو ثوارا متصلين بالمغرب والقاهرة والقسطنطينية، وبدأ القتل فيهم ، فهاجرت جموع المسلمين إلى المغرب ناجية بدينها، ومن بقي منهم من المسلمين أخفى إسلامه، وأظهر تنصره فبدأت محاكم التفتيش نشاطها الوحشي المروع في حق كل من تم التبليغ عنه أنه يخفي إسلامه، حيث يزج في سجون رهيبة ويصفد فيها المتهمون بالأغلال بعد مصادرة أموالهم، وقرار المحكمة لا يتم إلا حين التنفيذ في ساحة البلدة ، وهو إما سجن مؤبد ، أو مصادرة أموال وتهجير، أو إعدام حرقا وهو الحكم الغالب عند الأحبار الذين يشهدون مع الملكين الكاثوليكيين حفلات الإحراق.
وإن مقارنة بسيطة بين الفتح العربي الإسلامي للبلاد المسيحية، والاحتلال المسيحي للبلاد الإسلامية، تعطي فكرة واضحة جلية عن تسامح المسلمين وحرية المعتقد تحت سلطانهم ، وتعطي في الوقت ذاته صورة جلية لتعصب المسيحيين والقمع والمجازر والتحريق الذي رافق انتصاراتهم، سواء في الحروب الصليبية في المشرق، أو في حروبهم الصليبية في إسبانية.
والحقيقة الراسخة أن نهضة الأمم وارتقائها لا يتم إلا بالتسامح القائم على التفاهم والتعايش وإعلاء قيمة الآخر وازدياد الترابط بين أفراد المجتمعات فيسودها الاستقرار والسلام، و بالتسامح تصل البلدان إلى أعلى درجات التقدم والرفاهية، فالتسامح نقل أوروبا إلى أعلى مراتب التقدم والازدهار، بعد حربين عالميتين دمويتين راح ضحيتهما أكثر من 77 مليون قتيل وعشرات الملايين من المصابين وخسائر مالية تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات، حيث برئت القارة من آثار هاتين الكارثتين الكبريين في تاريخ البشرية، اعتماداً على سيادة مبدأ التسامح .
و هكذا نجد “فولتير” و هو أهم كاتب عرفته فرنسا في عصر التنوير والعقلانية، والمدافع الأكبر عن فكرة التسامح الديني وحرية الرأي والتعبير وهو أول من صرخ في وجه ملوك أوروبا: “أوقفوا عار شن الحروب الدينية وليعيش الجميع بسلام كاثوليك وبروتستانت ومسلمين”، طالب بما سماه التسامح الكوني بأن يعيش كل أصحاب الأديان والمذاهب بسلام جنبا إلى جنب تحت حماية الدولة.
وكتب “فولتير” مقالة تاريخ الحروب الصليبية ليعقد مقارنة خطيرة جدا بين سلوك الصليبيين عندما غزو القدس وبين سلوك صلاح الدين الأيوبي عندما دخل القدس ومقدار التسامح الذي أظهره مع النصارى والذي يختلف جذريا عن سلوك الصليبيين العدواني عند دخولهم للمدينة أول مرة وقتلهم 70 ألف من أهلها دون أي جريرة أو ذنب.
ولهذا تعد الأديان السماوية جميعها في نظر الإسلام حلقات متصلة لرسالة واحدة جاء بها الأنبياء والرسل من عند الله على مدى التاريخ الإنساني،ولهذا فقد أقر الإسلام منذ البداية التعددية الدينية والثقافية، وصارت هذه التعددية من العلامات المميزة في التعاليم الإسلامية، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، فقد تأسس مجتمع المدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها على التعددية الدينية والثقافية، ومارس المسلمون ذلك من بعده عمليا على مدى تاريخهم الطويل، ويؤكد ذلك ما يعرفه التاريخ من أن المسلمين لم يكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، فالحرية الدينية مكفولة للجميع، وتعد مبدأ من المبادئ الإسلامية الذي أكده القرآن الكريم في قوله: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، وفي قوله في موضع آخر: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».
وختاما: قد أشار وكيل الأزهر الشريف، في القمة العالمية بين أصحاب الأديان، والتى تنظمها وزارة التسامح والتعايش الإماراتية خلال هذا الأسبوع الجاري، وبحضور عدد من العلماء والقادة الدينيين حول العالم، تحت شعار: “نحو عالم متعاطف من خلال التسامح والإيمان والتفاهم”، إلى أن التسامح ضمانة حقيقية لاستقرار الأمم والشعوب، ورقي المجتمعات ونهضتها، مؤكدا أن الشرائع التي أنزلها الله -عز وجل- لا تختلف فى أصولها، من حيث الإيمان بالله الواحد، والتصديق باليوم الآخر، والدعوة إلى القيم والفضائل؛ ما يدل على أنها خرجت جميعا من مشكاة واحدة، تتفق جميعها في الدعوة إلى الأخلاق، وتؤكد أن التسامح بين البشرية مطلب ديني إنساني نبيل، أرادته الحكمة الإلهية، واقتضته الفطرة الإنسانية السوية، وأوجبته النشأة الاجتماعية، وفرضته المجتمعات المتحضرة.
ــــــــــــــ
هوامش:
(1) : د.شوقي أبو خليل،التسامح في الإسلام (المبدأ والتطبيق)،الطبعة الأولى 1993 ، دار الفكر المعاصر بيروت -لبنان
(2): فولتير: التسامح الكوني يشمل المسلمين ، وائل علي، على شبكة الجزيرة الاعلامية
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15950